الملكية الفكرية وما يتعلق بها من أحكام
2016/12/30م
المقالات
4,404 زيارة
بسم الله الرحمن الرحيم
الملكية الفكرية وما يتعلق بها من أحكام
لقد تم بحث موضوع الملكية الفكرية من عدة جوانب في مجلة الوعي، لا سيما في العدد 171 في مقال حمل عنوان: «الملكية الفكرية أداة من أدوات الرأسمالية والاستعمار»، وهو عبارة عن نص محاضرة ألقاها أحد شباب حزب التحرير أمام جمع من المفكرين في ربيع عام 2001.
وبحث موضوع الملكية الفكرية له شقان:
الشق الأول: أحقية صاحب الفكرة بنسب الفكرة له، والانتفاع بها بيعًا في حاوية أو دون حاوية مثل الكتب أو الأشرطة أو الأقراص، أو الانتفاع بها إيجارًا مثل التعليم.
الشق الثاني: ما يتعلق بالملكية الفكرية من أحكام بحق الأفراد، مثل نسخ هذه الكتب واستخدامها لمنفعة شخصية مثل التعلّم أو الانتفاع بمضمون الحاوية مثل برامج أو نسخها من أجل بيعها.
وفي بحثنا هذا سنتناول الشق الثاني من الموضوع. وهو «نسخ الكتب والأقراص التي تحمل علامة الملكية الفكرية، والانتفاع بها لمصلحة شخصية أو تجارية”.
وقبل الخوض في تفاصيل الموضوع، لا بد من أن نبين أن عصرنا الحالي يعاني من التأثير الغربي على معظم أحوال المسلمين حتى طال تأثيره الفكر الشرعي أو «الفقه المعاصر». لذلك تجد معظم من بحث هذا الموضوع من رجال الدين المعاصرين يعتمدون على أفكار ترتكز أساسًا على تعليل الأحكام الشرعية بالمصالح. ويعتمدون كذلك على نصوص شرعية ذات دلالات عامة مثل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم»، وسيأتي تبيان هذا الحديث لاحقًا.
ولنضرب مثالًا من فقه الإمام الشافعي في كيفية بناء الحكم الشرعي، وهو مثالٌ من غير هذا الموضوع ولكنه يوضح منهجية التفكير. فمثلًا حين نقول أن الحكم الشرعي في شراء ثوب من خياطٍ قبل خياطته، ولكنه بصفة محددة يكون بيع صفة وهو عند الإمام الشافعي جائز، ولنفترض الآن أننا ذهبنا إلى نفس الخياط ووجدناه بدأ بخياطة ثوب فخاط نصفه، وأردت أن تشتريه، فمعظم الناس سيقولون إن هذا البيع جائز وإن هذه مثل تلك، بل هذه أولى من تلك؛ حيث رأيت في المثال الثاني نصف الثوب والباقي سيكون مثله، إلا أن الإمام الشافعي لم يجِز هذا البيع كما أورد الماوردي وفصل قائلًا: «إن الثوب إذا رأى بعضه اجتمع فيه حكمان مختلفان؛ لأن ما رأى منه لا خيار له فيه، وما لم ير منه له فيه الخيار، فصارا حكمين متضادين جمعهما عقد واحد، فبطل، وليس كذلك إذا كان غائبًا كله» والمقصود بـ»له فيه الخيار» أي في بيع الصفة إذا اختلفت السلعة عن الصفة المشروطة له أن يردها ويعيد البائع للشاري ثمنها، وأما في بيع العين فلا يملك ردها.
وفي عودة إلى موضوع الحاوية التي تتضمن علامة الملكية الفكرية أو حقوق الطبع والنسخ، ولنبدأ بمن اشترى نسخة من الشركة التي أصدرت هذه الحاوية (سواء أكان كتابًا أم قرصًا أم غير ذلك من الحاويات) أو اشترى مضمون الحاوية بصيغة إلكترونية عبر الإنترنت. فإن هذه الأمور بالعادة تحتوي على «مربع اختيار» ينص على أن من اختار المربع موافق على شروط الشركة المصدرة للمضمون. وهذا الأمر باطل من هذه النقطة، فعند اختيار هذه المربع لم يتلفظ الشاري ولم يبيت نية بالقبول، وسيقول الناس ولكنه بمثابة القبول، والجواب ليس لهذا وزن في الشريعة الإسلامية، وهل الفرق بين الزنا المحرم والزواج إلا ألفاظ ذات مبانٍ ومعانٍ محددة، فلو كان هناك مئة شاهد على علاقة رجل بامرأة فلا يجعل من علاقتهم هذه زواجًا شرعيًا دون التلفظ بالألفاظ الشرعية التي أمرنا الله بها، وقد ذهب الإمام الشافعي إلى وجوب التلفظ بالقبول والإيجاب في كل عمليات البيع، إلا البخس منها تشتريها وتدفع ثمنها وتنصرف.
ومع هذا فلنكمل البحث على فرض أنه حدث فعلًا تلفظ بالقبول والإيجاب بتلك الشروط عند البيع. وفي في عملية البيع هذه ثلاثة أوجه، نلخصها فيما رواه الطبراني عن عبد الوارث بن سعد قال: «قدمت مكة، فوجدت فيها أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، فسألت أبا حنيفة قلت: ما تقول في رجل باع بيعًا، وشرط شرطًا؟ قال: البيع باطل، والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته؟ فقال: البيع جائز، والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فسألته؟ فقال: البيع جائز، والشرط جائز. فقلت: يا سبحان الله! ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا علي في مسألة واحدة، فأتيت أبا حنيفة، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع، وشرط، البيع باطل، والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: أمرني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن أشتري بريرة فأعتقها؛ البيع جائز، والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني مسعر بن كدام، عن محارب بن دثار، عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ناقة وشرط حملنا إلى المدينة؛ البيع جائز والشرط جائز.»
كذلك نقل الإمام النووي اختلاف الأقوال في هذه المسألة في «المجموع شرح المهذب» تحت مسألة (مذاهب العلماء فيمن باع شيئًا بشرط ينافي مقتضاه): «بطلان هذا البيع، وسواء شرطًا واحدًا أم شرطين، وبه قال ابن عمر وعكرمة والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وجماهير العلماء (وهو مذهب النووي رحمه الله) (…)، وقال الحسن البصري والنخعي وابن أبي ليلى وأبو ثور وابن المنذر: البيع صحيح والشرط باطل لاغٍ. وقال ابن سيرين وعبد الله بن شبرمة التابعيان وحماد بن أبي سليمان: البيع صحيح والشرط صحيح”
ثم بيَّن الإمام النووي رحمه الله أدلة كل فريق، وبيَّن مذهبه محتجًا بما قاله الماوردي في المهذب ببطلان البيع، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن بيع وشرط» ثم علق الإمام النووي قائلًا: «واحتج من صحح البيع وأبطل الشرط بقصة بريرة في قوله صلى الله عليه وسلم: «واشترطي لهم الولاء» رواه البخاري ومسلم. قالوا: فصحح النبي صلى الله عليه وسلم البيع وأبطل الشرط. واحتج من صححهما بحديث جابر رضي الله عنه أنه قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فاشترى مني جملًا واستثنيت حملانه يعني ركوبه إلى أهلي» رواه البخاري ومسلم، وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون على شروطهم» رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح.”
وباستقراء الأدلة نجد أن حديث «نهى عن بيع وشرط» هو أضعف من باقي الأدلة، ضعفه ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام وابن تيمية في مجموع الفتاوى.
إذًا يبقى لدينا رأيان، أما الرأي الثالث وهو القول بصحة البيع وصحة الشرط، فما ورد في قصة جابر لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقصد منه التجارة، وقد صرح بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول كما ورد في مسند أبي داود : «تراني إنما ماكستك لأذهب بجملك؟ خذ جملك وثمنه فهما لك»، وذكر الخطابي الحديث من رواية أخرى في نهايتها: «بعت النبي صلى الله عليه وسلم جملًا فافقرني ظهره إلى المدينة» وقال الإفقار إنما هو في كلام العرب إعارة الظهر للركوب. فدل هذا على أنه لم يكن عقد شرط في نفس البيع، وقد يحتمل أن يكون ذلك وعد له بالركوب، والعقد إذا تجرد عن الشروط لم يضرَّه ما يعقبه بعد ذلك من هذه الأمور. (…) على أن قصة جابر إذا تأملتها علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستوفِ فيها أحكام البيوع من القبض والتسليم وغيرهما، وإنما أراد أن ينفعه ويهب له فاتخذ بيع الجمل ذريعة إلى ذلك، ومن أجل ذلك جرى الأمر فيها على المساهلة. ألا ترى أنه قد دفع إليه الثمن الذي سماه ورد إليه الجمل، ويدل على صحة ذلك قوله «أتراني إنما ماكستك لأخذ جملك”.
أما حديث «المسلمون على شروطهم» فهو عام مخصوص بالشروط الجائزة، وقد فصل الإمام النووي رحمه الله الشروط الجائزة قائلًا: «ما هو من مقتضى العقد بأن باعه بشرط خيار المجلس أو تسليم المبيع أو الرد بالعيب أو الرجوع بالعهدة أو انتفاع المشتري كيف شاء وشبه ذلك فهذا لا يفسد العقد بلا خلاف لما ذكره المصنف ويكون شرطه توكيدًا وبيانًا لمقتضاه. (…) وأن يشترط ما لا يقتضيه إطلاق العقد لكن فيه مصلحة للعاقد كخيار الثلاث والأجل والرهن والضمين والشهادة ونحوها، وكشرط كون العبد المبيع خياطًا أو كاتبًا ونحوه؛ فلا يبطل العقد أيضًا بلا خلاف بل يصح ويثبت المشروط.»
وأما الرأي الثاني وهو الصواب والله أعلم، أي صح البيع وبطل الشرط لما أخرجه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ ونصه كما أورده الشافعي في الأم: «عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها قالت: جاءتني بريرة، فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني، فقالت لها عائشة: إن أحب أهلك أن أعدها لهم عددتها، ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم ذلك، فأبوا عليها فجاءت من عند أهلها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم، فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها؟ فأخبرته عائشة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذيها واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق»، ففعلت عائشة رضي الله عنها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الناس فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله عز وجل، ما كان من شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق».
الخلاصة:
1- إن اختيار «مربع الاختيار» في البرنامج أو زر قبول أو ما شابهها لا يعتبر قبولًا وإيجابًا.
2- إن الشروط إذا كانت تنافي أصل البيع كما وصفها الخطابي من أن «العقد يقتضي التمليك، وإطلاق التصرف في الرقبة والمنفعة» هذه الشروط تعتبر باطلة غير ملزمة ويصح البيع.
وبالتالي فإن شراء ما يحتوي علامة «حقوق الطبع والنسخ» أو «الملكية الفكرية» جائز دون أن تكون شروطه ملزمة، وبالتالي فإن نسخها وتوزيعها واستخدامها يجوز بعد ذلك. والله أعلم.
2016-12-30