قتال المسلم للمسلم
1993/09/09م
المقالات
12,406 زيارة
من المسائل التي غاب فهمها الصحيح عن كثير من الناس، مسألة اقتتال المسلمين. وذلك لوجود أحاديث عديدة في ذلك الموضوع، يسهل تأويلها على وجوه مختلفة، لأنها في الحقيقة متعلقة بحالات متغايرة. وبسبب الضعف الشديد الذي طرأ على الأذهان في فهم الإسلام نتيجة إقصائه عن معالجة مشاكل الحياة، حتى وصل الحال بأحد المرتدين المتحكمين إلى الطعن بالسنّة كلها، لما ظهر له من تعارض بين حديث: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، وما روي من أحاديث تُبشر بعض الصحابة الذين التقوا بسيوفهم بالجنة، كعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم. فما هو الحكم الشرعي في قتال المسلمين؟
فيما يلي طائفة من الأحاديث الشريفة المتصلة بالموضوع:
1- عن أبي هريرة قال: «جاء رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي، قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار» [رواه مسلم].
2- عن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قُتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» [رواه أبو داود والترمذي وصححه].
3- عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يمنعُ أحدَكم إذا جاء من يريد قتله أن يكون مثل ابني آدم، القاتل في النار والمقتول في الجنة» [رواه أحمد].
4- عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في الفتنة كسّروا فيها قِسِيّكُم وقطعوا أوتاركم واضربوا بسيوفكم الحجارة؛ فإن دُخل على أحدكم بيتُه فليكن كخيرِ ابني آدم» [رواه الخمسة إلا النسائي].
ظاهر الحديث الثالث والرابع وما في معناها يمنع القتال. وظاهر الحديث الأول والثاني يبيح القتال؛ فالذي يقرأ الأحاديث ممن لا يملك العالم الشرعي يتوهم التعارض. والذي يُريد أن يُلبس على عوام المسلمين أمر دينهم، يأتي بتلك الأحاديث ليزعزع عقيدتهم. أما الذي يراجع كتب الفقه وكتب شرع الأحاديث، يجزم أن من يطعن بالسنّة الشريفة لما في ظاهر هذه الأحاديث وما شاكلها من تعارض، إنما هو ضال مُضِل.
الحكم الشرعي في قتال المسلمين يختلف باختلاف أحوال ذلك القتال؛ فهو قد يكون مباحاً أو واجباً أو حراماً، حسب التفصيل التالي:
أولاً: حالة قتال الدفاع.
ثانياً: حالة قتال البغي.
ثالثاً: حالة قتال الفتنة.
رابعاً: حالة القتال على مُحرّم.
أما الحالة الأولى، فينطبق عليها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد». [وهذا حديث صحيح أخرجه أصحاب السنن].
والحديث وإن كان بصيغة الإخبار فإنه يفيد الطلب؛ فهو أمر بالدفاع عن الدين والنفس والمال والعرض. إلا أن واقع المال يختلف عن العرض. فالمال يمكن أن يسترده صاحبه بقتل أو بدون قتل. وللإنسان أن يتنازل عن ماله لمن يشاء ضمن ضوابط الشرع. أما العرض (أي الاعتداء على النساء)، فلا يحق للإنسان أن يتنازل عنه للغير؛ بل أنه ليس للمرأة أن تمكّن أحد منها إلا بالزواج. والعرض إذا اغتُصب لا يُسترد، وكما يعتدي آخرون على العرض، يمكن أن تعتدي المرأة على عرض نفسها، بإغراء الرجل أو إجباره. ومن هنا ينبغي التفريق بين الدفاع عن العرض وواقع الدفاع عن المال؛ فلا يقاس واحد على الآخر.
والحكم الشرعي لا يستنبط من ظاهر حديث واحد، بل لا بد من إعمال كل النصوص المتعلقة بالموضوع، ولا بد من فهم الواقع بدقة، وربط النصوص بوقائعها.
وواقع المال، وقول الرسول الأكرم: «من قتل دون ماله فهو شهيد» يفيد أن الدفاع عن المال جائز ولو بالقتل. قال الشوكاني في باب دفع الصائل من كتاب نيل الأوطار: (وأحاديث الباب فيها دليل على أنها تجوز مقاتلة من أراد أخذ مال إنسان من غير فرق بين القليل والكثير إذا كان الأخذ بغير حق وهو مذهب الجمهور كما حكاه النووي والحافظ في الفتح).
وأوجب بعض العلماء القتال دفاعاً عن المال. قال الشوكاني: (وأحاديث الباب فيها دليل على أنها تجوز مقاتلة من أراد أخذ مال إنسان من غير فرق بين القليل والكثير إذا كان الأخذ بغير حق وهو مذهب الجمهور كما حكاه النووي والحافظ في الفتح).
وأوجب بعض العلماء القتال دفاعاً عن المال. قال الشوكاني: (ولعل مُتمسَّكَ من قال بالوجوب ما في حديث أبي هريرة من الأمر بالمقاتلة والنهي عن تسليم المال إلى من رام غصبه).
والأرجح ما حكاه الجمهور، فإن الرجل سأل: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي، قال فلا تعطه مالك. فكأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: لك أن لا تعطيه مالك. ولا يُفهم أنه أراد: يحرم عليك إعطاؤه مالك، ويجب عليك القتال دون المال. وجاء في رواية أحمد ما لفظه: «يا رسول الله أرأيت إن عدا على مالي؟ قال: انشد الله؛ قال فإن أبوا عليّ؟ قال: انشد الله؛ قال فإن أبوا علي؟ قال: قاتل فإن قُتلت ففي الجنة وإن قَتَلت ففي النار». وهذا نص يفهم منه أن الدفع إنما يكون بالأسهل فالأسهل. وللمدافع عن المال حق القتال، وله حق التنازل عن المال لعموم أدلة جواز التصرف بالمال هبة، أو لدفع الضرر والأذى. فالأصل حماية المال، ويجوز التنازل عنه في إطار الشرع، ويجوز القتال دفاعاً عنه.
أما إذا أدى التنازل عن المال إلى استطالة أهل الفساد والاغتصاب، وشجعهم على الاعتداء على أموال النسا عموماً، فالمسألة ينطبق عليها حينئذ أدلة النهي عن المنكر. لأنها تخرج من اعتداء فردي على مال فردي إلى اعتداء على الجماعة وأمنها؛ أي تتحول إلى منكر عام.
أما الدفاع عن العرض فهو من بديهيات الإسلام، ومن سجايا المسلمين التي ورثوها جيلاً عن جيل.
فواقع العرض، والأحوال الكثيرة التي نصبها الشارع لصيانة الأعراض، تجعل الدفاع عن عرض المرء من أوجب الواجبات عليه. وعدم الدفاع عن العرض يمكن أن تصوره في حالة الضعف أو النذالة أو غير ذلك. فإذا عجز زوج عن الدفاع عن زوجه، ورفع الأمر للقاضي بعد ذلك، فليس له إلا اللعان أو البيّنة، فإذا قصر عنهما يقام عليه حد القذف.
والضعف عن الدفاع عن العرض لعدم القدرة عذر شرعي، لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.
وكلمة أهله الواردة في الحديث الشريف تعني عرض الرجل الذي يمسه شخصياً من بنت وأخت وأم وزوجة. إما عرض غيره فليس عرضه.
والاعتداء على أعراض المسلمين منكر فظيع، يجب على المسلمين رده بكل الإمكانات، ولا يسكت عن تلك الجريمة إلا خائن نذل خسيس.
قال الشاعر يوسف إبراهيم:
واهتز من دمها المهدور نازفه
.
|
|
في كل قلب غيور الخَفْقِ شِريانُ
.
|
فأين في الغرب أحرارٌ كما زعموا
.
|
|
أم كلهم لصليب الكفر عُبْدانُ
.
|
ومجلس الأمن ماخور الفجور لمن
.
|
|
داسوا المواثيق بالأقدام، أو خانوا
.
|
فلا يسكت عن مصيبة الاعتداء على أعراض أخواتنا في البوسنة ـ مثلاً ـ إلا الكفار الحاقدون، ورجال مجلس الأمن المحكمون، وأرباب المواخير وأحقر الزناة والفسقة من المسلمين.
أما الحالية الثانية، وهي حالة البغي فهي أقسام:
1- قتال بين فئتين باغيتين.
2- قتال بين فئة باغية وأخرى مظلومة.
3- قتال بين فئتين تظن كلتاهما أن لديها دليلاً شرعياً يبيح قتال الأخرى.
وهذه الحالة فصّلها القرآن الكريم أيما تفصيل. قال الله عزّ وجلّ: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات: 9].
فإذا حصل قتال بين فئتين عند كل منهما دليل أو شبهة دليل، فالواجب ترجيح أحد الأدلة، والخضوع للدليل الراجح. قال القرطبي في تفسيره: (فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند نفسها محقة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على راشد الحق. فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هُديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لها فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين).
فإذا أصرت الفئتان الباغيتان على القتال، فالواجب قتالهما. قال القرطبي: (فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما). لأن الواجب إخضاع المسلمين لأحكام الشرع، فإن لم تخضع فئة أو أكثر لأمر الله حسبما تقرر في القضاء وجب على المسلمين القتال من إمامهم لإزالة ذلك البغي.
فإذا خضعت فئة لأمر الله وأصرت الأخرى على البغي، أو إذا بغت فئة ابتداء على فئة أخرى مظلومة، فالواجب قتال الفئة الباغية حتى تذعن لأمر الله. فإن فاءت فالواجب الإصلاح بينهما بالعدل. قال الله عزّ وجلّ: (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) الآية. هذا إذا كان الظلم واضحاً بيّناً، وكانت الفئة الباغية مصرة عليه، عاملة بالسيف في الفئة المظلومة. قال القرطبي إذا كانت (إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل).
وقال الشوكاني: (وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين وكذا قال النووي وزاد أنه مذهب عامة علماء الإسلام… ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور قوله تعالى: (فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) وقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) ونحو ذلك من الآيات والأحاديث. ويؤيده أيضاً الآيات والأحاديث الواردة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… وحديث سهل بن حنيف وما ورد في معناه يدل على أنه يجب نصر المظلوم ودفع من أراد إذلاله بوجه من الوجوه، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً، وهو مندرج تحت أدلة النهي عن المنكر). ولفظ حديث سهل بن حنيف المذكور هو: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أُذِلَّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله عزّ وجلّ على رؤوس الخلائق يوم القيامة» [رواه أحمد].
وقال الطبري: (إنكار المنكر واجب على من يقدر عليه؛ فمن أعان المحق أصاب، ومن أعان المخطئ أخطأ؛ وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها).
وحالة الإشكال هذه، هي حالة الفتنة المُعنْونَةَ «ثالثاً»، ويعتبر الحديثان الثالث والرابع نصيْن صريحين على حرمة القتال فيها. والفتنة هي الحالة التي يختلط فيها الحابل بالنابل والحق بالباطل؛ فلا يدري المسلم موضع الحق، فعندها يحرم عليه القتال؛ فإذا ظهر له الحق فالواجب القتال حسبما هو مفصل في الحالة الثانية.
أما الحالة الرابعة؛ فمن أمثلتها القتال بين اثنين على سرقة، أو القتال بين فئتين على زجاجة خمر، أو ما إلى ذلك؛ فإن القاتل والمقتول يكون قد فعل المحرم، وهذا الوضع ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار». والفرق بين هذه الحالة والوضع المعنون «قسم (1) من الحالة الثانية»، إن في الثانية يكون القتال على مباح؛ وفي المذكورة ههنا يكون القتال على محرم.
تلك بعض الأحكام المتعلقة بقتال المسلمين، فيها جوانب كثيرة تتعلق بواقعنا اليوم؛ فالقتال الذي يحصل بين بلدين إسلاميين على بئر بترول ـ مثلاً ـ حرام، لأن البترول ملكية عامة لكل المسلمين، والاستئثار به من قبل فرد أو جماعة معينة من المسلمين حرام؛ والقتال للاستئثار به قتال على محرم.
أما القتال للدفاع عن أعراض المسلمات في البوسنة أو لاسترداد الأراضي المغتصبة فهو واجب. والعجب كل العجب أن المسلمين يشاركون في القتال المحرّم مع حكامهم، ويسكتون عن امتناع حكامهم عن القتال الواجب، ويشاركونهم في تلك المعصية الشنيعة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والناظر يرى أن المصائب ستلاحق المسلمين حتى يرجعوا إلى دينهم ويعيدوا اعتبارهم بين الناس بإعداد القوة والجهاد الشرعي. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ضَنّ الناسُ بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يُراجعوا دينهم». [رواه أحمد وأبو دادو؛ ولفظه: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»ٍ].
اللهم إنا نسألك أن تعز المسلمين بخلافة راشدة، ونسألك العلم والعمل والمغفرة.
1993-09-09