الدعوة إلى الإسلام في مواجهة الأنظمة وعلماء السلاطين
1993/08/09م
المقالات
2,301 زيارة
محمود عبد الكريم حسن
تطالعنا الصحف والإذاعات كل يوم تقريباً، باعتقالات ومداهمات وقتلى في شتى بلاد العالم الإسلامي ممن تسميهم بالمتطرفين والأصوليين والإرهابيين. ولا يفتأ إعلام الأنظمة يُشيع، المرَّة تلو المرة، عن اكتشاف خطط للتخريب والتفجير والاغتيال. ولا يفتأ إعلام الأنظمة ورجالُها يصورون الذين يعملون لإقامة حكم الله في الأرض بأنهم إرهابيون مجرمون معتدون، ومضلَّلون خارجون على القانون وعلى الإسلام. ولا يفتأون يصورون الأنظمة والسلطات الحاكمة بأنها كالحمل الوديع في مواجهة الوحوش الكاسرة.
ولكن، هل من أدلة أو بيّنات على ما يدّعون؟ كلاً، وإذا حصل أن وجد في بعض الحالات من هو مرتبط ببعض هذه الأنظمة ويعمل لحسابها ضد أنظمة أخرى، فإنهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها، ويتخذون من ذلك ذريعة للافتراء على كل من يعمل، أو يؤيد من يعمل لتطبيق الإسلام.
ولا شك أن الأنظمة نفسها تقوم بتصفية بعض الشخصيات من العلماء أو الشرطة أو الجنود أو الضباط ممن يعملون أو يتعاطفون مع الدعاة، أو ممن يظهرون اشمئزازهم من استئساد السلطات في مواجهة المسلمين المتعطشين إلى حكم الإسلام، ومن انبطاحها وذلّها وتبعيتها الكاملة للعدو الكافر.
نعم تقوم بتصفية هؤلاء وأمثالهم، ثم تخاطب شعوبها، عبر إعلامها الكاذب، مفترية على المسلمين العاملين متهمة إياهم بما تقوم هي به، متخذة من ذلك ذريعة للبطش والتنكيل.
إن الأنظمة الحاكمة في العالم الإسلامي فقدت ما تغطي به عورتها، وهي تحتال على شعوبها بالكذب والخداع وتتذرع بالتزوير والتلفيق. والتضليل إحدى خواصها اللازمة لها، ولا ولن تفارقها حتى تتقوض.
ولو كان عند هذه الأنظمة شيء يسيرٌ مما تدعيه بأنها تريد الحفاظ على الشعب وأمن الشعب وحقوق الشعب وحريات الشعب، لسمحت للمسلمين العاملين وللحركات الإسلامية أن يعبّروا عن أنفسهم، وعن أهدافهم ومناهجهم. لو كانت هذه الأنظمة على شيء من الحق لتجرأت على السماح للمسلمين وللحركات الإسلامية أن تبيّن الإسلام وأحكامه ـ وخاصة الجانب السياسي منها، المتعلق بنظام الحكم ـ بأدلته، ولتجرأت على الوقوف أمام اتهامات المسلمين لها. ولكنها أنظمة تعلم أنها ليست جزءاً من هذه الأمة، وأنها عدوّةٌ للإسلام والمسلمين وأنها خاضعة وتابعة وعميلة لدول الكفر في أميركا وأوروبا. وإن أي مناظرة أو محاورة حقيقية مع خصومها من حملة الفكر الإسلامية الساعين إلى إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم عن طريق الجهاد، ستؤدي إلى تعرية هذه الأنظمة كشفها على حقيقتها الكافرة ولذلك فليس أمام هذه الأنظمة الفرعونية إلا الكذب والدجل والتلفيق والتزوير في مواجهة الشعوب المسلمة. وهي مدفوعة دفعاً بعد ذلك لأن تُجَمِّل صوتها، ولتلبس من الأثواب ما يظهرها، خداعاً، ملتزمة بالإسلام متمسكة بالعدل الإلهي. وهي مع هذا كله همها الأكبر وجل سياستها البطش والتنكيل بالدعاة الحقيقيين وإلباسهم شتى التهم الرخيصة الكاذبة. وإنما تأمل هذه الأنظمة ومَنْ وراءَها من كل ذلك أن تنتصر بكفرها على الإسلام، عسى أن يركن المسلمون إلى الكفر وأنظمته وأحكامه، وعسى أن يرضوْا بالتبعية الفكرية السياسية لأعداء الإسلام، وعسى أن تستقر الأمة الإسلامية استقراراً نهائياً وتخمد على مائدة ملة الكفر، فيعبثوا بمقدساتها ويستعبدوا شعوبها، ويفنوا خيراتها ويمتصوا دماءها. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال: 36]. وقال: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ) [سورة التوبة: 10].
ولكن هَيْهات هيهات، فالأمة الإسلامية اليوم على اختلاف شعوبها تعيش حالة استيقاظ، وهي في طريقها رقياً إلى اليقظة الكاملة، وما أبعد الفرق بين بادية هذا القرن ونهايته. فإذا شهدت بدايته بداية الغطيط والسبات، وحالة انحطاط وانحدار، حتى إذا ما انتصف كانت تغط في سبات عميق وتتهاوى على حافة الانهيار الكامل والفناء، فإن ثلثه الأخير شهد انطلاقه الاستيقاظ والوعي على حقيقة الإسلام وحقيقة الواقع الأليم والذليل الذي تحياه الأمة والذي لا ينسجم مع عقيدتها وشريعتها، ولا مع المركز الذي كلفها الله سبحانه وتعالى أن تتبوأه. وها هي نهاية هذا القرن تشهد رياح تغيير عاصفة قوية تعصف بأنظمة الكفر وزبانيته، وتبشر بخلافة راشدة على منهاج النبوة، يعزّ فيها الإسلام وأهله ويذل بها الكفر وأهله.
وكيفما دار الزمان فليدر، وكيفما تعاقبت أحداث الدنيا فلتتعاقب، فلكأنها تترتب ترتيباً، فيأتي هذا الحدث هنا وذاك هناك، وتتسابق فيأتي هذا قبل ذاك وذلك بعده لتصاغ بذلك كله بشرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخلافة راشدة على منهاج النبوة. قال صلى الله عليه وآله وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» [مسند أحمد ج4/ ص273].
ولا آتي بجديد إذا قلت إن الأمة الإسلامية لم تعد تثق بحكامها أو بأنظمتهم. وإن الأمة الإسلامية قد أدركت أن العقيدة الإسلامية هي عقيدة عقلية وروحية وسياسية، وهي أغلى ما يملكه المسلم. وإن الله تعالى قد أنزل الإسلام ليحكم الناس في كافة الشؤون، وليس فقط لأحكام العبادات كالصلاة والصيام أو للزواج والطلاق أو الحيض والنفاس. وإن الأمة الإسلامية قد أدركت أنه لا يقف في طريق إقامة الخلافة وتطبيق الإسلام وتحرير العباد والبلاد من رجس الكفار كأميركا وأوروبا واليهود والصرب وغيرهم، لا يقف في وجهها لتحقيق ذلك كله إلا هذه الأنظمة المفضوحة. إن المسلمين وقد أدركوا كل ذلك وغيره من مثله كثير، ودماؤهم تسيل وكرامتهم تنزف، أدركوا أيضاً أن لا سبيل لهم إلا الانقضاض على هذه الأنظمة الفاجرة وتحويلها إلى أنقاض وإقامة الدولة الإسلامية، دولة الخلافة، وطيِّ صفحات أحلك فترة من تاريخ الأمة.
إن ما ذكرناه عن الكذب والتزوير والتحريف وعداوة الإسلام عند أنظمتنا له من الشواهد ما لا يحصى. يكفي المرء أن يكون مؤمناً فيلمس ذلك لمساً. وعلى سبيل المثال كل الحركات يسمح لها بالعمل سواء كانت يمينية أو يسارية، قومية أو وطنية، أو مهما كانت، عدا الأحزاب والحركات التي تقوم على أساس العقيدة الإسلامية. وإذا سمح لفئة تدعي اتخاذ الإسلام أساساً لها فليس ذلك إلا من قبيل التضليل، ولا تكون تلك الحركة أو الفئة إلا جزءاً من النظام يستخدمها وسيلة لتجميل صورته وإخفاء عيوبه.
والأنظمة ووسائل إعلامها التي تخاطب الشعوب مدّعية أنها لا تحظر على أحد حرية العمل الحزبي أو السياسي أو حرية الدعوة أو حرية الرأي والتعبير، هي كاذبة في ذلك، تعتقل وتعذب وتقتل كل من يعارضها. مما يضطر المؤمنين إلى العمل بسرية، فإذا فعلوا ذلك اتخذت الأنظمة وأبواقها وعملاؤها تلك السرِّية ذريعة للصد العنيف والردع الدموي. ثم بعد ذلك التهمُ جاهزة.
إن المسلمين العاملين الذين رضوا حمل الأمانة، والذين يرجون الله أن يكونوا ممن استخلف في الأرض يعتبرون هذا الموقف وهذا المكر من الأنظمة طبيعياً بحسب سنة الله في العلاقة بين الإيمان والكفر. ويعتبرون أن واجبهم الشرعي هو إسقاط هذه الأنظمة الجاهلية.
إن المد الإسلامي وانحسار الباطل حتمي في علاقة الصراع بين الحق والباطل طالما هناك مسلمون فاهمون لإسلامهم عاملون على تطبيقه ونشره. ولذلك نحن نرى المسلمين العُزّل، إلا من الإيمان، يواجهون الأنظمة العاتية في كل مكان. ونقول للمثبطين: بلى، الكفُّ يقابل المخرز، والعين تقابل المخرز. يقول تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأََشْهَادُ) [غافر: 51]. ويقول: (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 173]. ويقول: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ) [القصص: 6] ويقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج: 38].
والمارد الإسلامي بدأ يفيق. فها هو العالم الإسلامي يتململ في بعض أجزائه ويغلي في بعضها الآخر ويتهيأ للانقضاض في أماكن أخرى. وها هي السعودية التي كانت إلى عهد غير بعيد كل البعد عن العمل الجماعية في وجه السلطة فيها، بدأ بعض العلماء والمؤمنين فيها بالمواجهة تلو المواجهة للنظام ولأداته المسماة هيئة كبار العلماء. وتلك مصر يتصعد العمل الإسلامي فيها ويعلن عن نفسه جهراً أنه يريد إسقاط النظام وإقامة الخلافة، على الرغم من كثرة الأدوات بيد السلطة ممن يعتبرون أنفسهم علماء أو مفتين أو مفكرين.
ومحاولات التنسيق بين الأنظمة لمواجهة التطرف والإرهاب والأصولية، كما يدعون، قد تكررت وشغلت حيزاً نظرياً وعملياً واسعاً. وليس آخرها جولة حسني مبارك على دول الخليج للتنسيق ضد الحركات الإسلامية. ودعوته إلى عقد قمة أفريقية لمواجهة الإرهاب.
وقد أشارت الصحف في حديثها عن جولة مبارك من أجل التعاون الأمني أن المحادثات السعودية المصرية استعرضت القضايا التي تهم الأمن القومي العربي وهي قضايا التطرف والإرهاب. ودان وزير الداخلية السعودي في تصريحات له التطرف ووصفه بأنه غلو وليس من الإسلام. وبدا الوفد المصري مرتاحاً لتلك التصريحات. وقد تزامنت زيارة مبارك للسعودية مع حركة الاعتقالات للعلماء المتحركين في السعودية حيث قام النظام بطرد بعض العلماء من وظائفهم وهم الذين أسسوا لجنة الحقوق المشروعة التي واجهت السلطة بأنها لا تطبق الإسلام، ورفضت حل نفسها مما ألجأ السلطة إلى الاعتقال واستصدار الفتوى من هيئة كبار العلماء. إن الأمن القومي عند أنظمتنا هو كيفية التصدي للإسلام وكيفية تجهيز التهم واستصدار الفتاوى ضده، ووصفه بالتطرف والإرهاب، وكيفية احتوائه والقضاء عليه، وليس كيفية القضاء على القوات الأميركية الكافرة في الخليج، وليس كيفية رفع الهيمنة الأميركية والأوروبية الاستعمارية عن بلاد المسلمين، وليس في مواجهة إسرائيل وإزالتها، وليس في كيفية نصر المسلمين في البوسنة، وليس في كيفية إزالة التهديدات العسكرية والحضارات الاقتصادية التي تهدد وتضغط على المسلمين.
وتلك هي الجزائر وما يجري فيها. فالشعب الذي عبّر عن عقيدته وإرادته لتطبيق الإسلام واجهه النظام بالحديد والنار وبكل وقاحة وكذب، وبتأييد من كل الأنظمة في بلاد المسلمين وفي العالم. وأطلقوا على كل من يريد ويؤيد الحكم بالإسلام صفة التطرف والأصولية والإرهاب.
هذا غيض من فيض، ولا داعي لاستقصاء الأمثلة والوقائع في كل بلد وعند كل نظام. فما يمارسه الفراعنة والطواغيت في عصرنا لم يعد بحاجة إلى أبحاث فكرية ونظرية ومحاولات إقناع.
ومع ذلك نرى حول كل نظام من يطلق عليه «المفتي»، مفتي الدولة، أو جماعة من العلماء وظيفتهم تفصيل الفتاوى على قدر حاجة السلطان وحسب الطلب، وظيفتهم تبرير كل ما يفعله النظام، ويسعون إلى إسكات الأمة وغلى تضليلها. فيعطون للنظام حق إسكات صوت كل مسلم مخلص في الأمة بحجة أنه إرهابي أو متطرف أو جاهل، أو أنه لم يفهم حقيقة الإسلام وجوهره. مثل هؤلاء الذين تقربهم الأنظمة يُبَرِّرون لها كل فعل مهما كان، ويحرفون الإسلام فيما يتعلق بالحكم والحاكم، ويعملون على تربية الحقد عند الأمة على الدعاة، وعلى الحركات التي لا تسير في ركابهم وركاب أنظمتهم. هؤلاء شعارهم أن الذي يأكل من مال السلطان عليه أن يضرب بسيفه، ويشكلون عقبة في طريق هدم الكفر وأنظمته وبالتالي في طريق تطبيق الإسلام.
نعم هؤلاء العلماء المبرِّرون، علماء السلاطين الذين يفتون للأنظمة وللحكام، والذين يعقدون الندوات والمؤتمرات والمحاورات الفكرية بتوجيه مخطط له من الأنظمة أو بعض أجهزة الاستخبارات، بحجة دراسة الإسلام السياسي، أو نظرة الإسلام أو (الإسلاميين) إلى الليبرالية أو العلمانية أو الديمقراطية، أو بحجة دراسة وتفنيد آراء ومناهج الحركات الإسلامية. هؤلاء الذين يطلق عليهم أسماء العلماء أو المفكرين ويتصلون بالمسلمين عبر مؤسسات الأنظمة وأجهزتها ووسائلها ويحاولون إقناع المسلمين أن لا يكونوا جذريين أو أصوليين أو راديكاليين حسب تعبيرهم، ويبثون فكرة احترام الآخر والرأي الآخر ولو كان كفراً، ويصورون أن الإسلام ليبرالي أو ديمقراطي، ولا يمانع في خضوع المسلمين لحكام غير مسلمين أو لأحكام غير منبثقة من العقيدة الإسلامية طالما أن ذلك في إطار الديمقراطية، والذين ينعتون الدعوة إلى إقامة الخلافة وإلى تطبيق الإسلام بالتحجر والتخلف وبمناقضة الديمقراطية ويرفضونها، هؤلاء وإن أطلق عليهم اسم علماء أو مفكرين أو رواد في الفكر الإسلام، هؤلاء جزء من هذه الأنظمة وأداة من أدواتها.
هؤلاء موجودون حول كل نظام، منهم من يفتي الناس بأن النظام يطبق الإسلام ولا يُصْدِرُ إلا عنه كما يحصل من «هيئة كبار العلماء» في السعودية، بل منهم من يدعي بأن الإسلام لم يطبق في أي عصر من العصور كما هو مطبق الآن في المملكة.
وفي نظام آخر كمصر مثلاً يفتي أحدهم بأن الإسلام هو المطبق وأن الإسلام هو مصدر التشريع في الدولة، وأن المجالات التي لا يطبق فيها الإسلام تسعى الدولة لأجل تطبيقه فيها ولا يمنعها إلا الظروف. وأن حانات الخنا والزنا ليس النظام هو الذي افتتحها ولا هو الذي يروج لها.
وتراهم يسكتون عن جرائم النظام في إقرار نظم اجتماعية واقتصادية وعلاقات سياسية قائمة على أسس غربية تقر التهتك والخلاعة تحت اسم التحضر والتمدن والحرية والفن وما شاكله، ويسكتون عن الربا والغش والظلم والمحسوبية وعن النهب والاختلاس وكافة القوانين المحرمة تحت شتى الأسماء والمبررات، ويسكتون على خضوع النظام وإخضاع الشعب ومقدراته للغرب وسياساته والسير في فلكه. ويفتون بمصالحة اليهود. ويسكتون على اعتراف الحكام بحق اليهود في فلسطين وعلى المفاوضات معهم وعلى الخضوع لقوانين الكفر الصادرة عن الأمم المتحدة، ويسكتون على مذابح المسلمين في فلسطين وجنوب لبنان والبوسنة وفي كل مكان، فهل هؤلاء علماء الأمة حقاً؟!
وتراهم يسكتون بل ويفتون بجواز إحضار مئات الألوف من جيوش الكفر إلى بلاد المسلمين ويساندونهم في مقاتلة المسلمين وتدمير ثرواتهم وبلادهم وليس ذلك إلا بطلب من رأس الدولة، والذي يفتي بذلك ربما يعتبر نفسه أعلم رجل في العالم، فهل هناك استهتار أكثر من هذا بالإسلام وبالمسلمين.
هؤلاء العلماء اسماً، المحرّمون للحلال والمحللون للحرام، الساكتون عن الباطل يعلمون أن نظام الحكم في الإسلام هو الخلافة، وأن الأمة الإسلامية أمة واحدة يحرم أن تكون مقسمة إلى دول متعددة ويحرم أن يكون على رأسها إلا خليفة واحد. ويعلمون أن إسرائيل يجب أن تزال لا أن تصالح، ويعلمون أن الأموال التي يتمتع بها الملوك والشيوخ والرؤساء ويركمونها في بنوك أميركا وأوروبا، هي ملك الأمة الإسلامية وللدفاع عنها وعن عقيدتها، وليست لبناء قصورهم ويخوتهم وقضاء ملذاتهم. وغير ذلك كثير كثير، فما بالهم يسكتون!! ألا يبصرون، ألا يسمعون، ألا يعقلون!. (لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [المائدة: 78 ـ 81].
هذه هي الحال في بلاد المسلمين، وهذا الصنف من العلماء المتوجين على عروش التوجيه والبيان والإفتاء ليس هو الصنف الذي يجب أن تثق به الأمة وتأخذ عنه دينها وأحكام شرعها. هؤلاء جزء من أنظمة الكفر وأدواتٌ له. وظيفتهم ومسؤوليتهم أن تظل الأمة جاهلة مضلّلة تساق إلى فنائها ومذبحها راضية مقتنعة، وإنّ خلع أمتنا ثقتها منهم هو علامة على نهوضها وصحوتها ومنارة على الطريق باتجاه اكتمال يقظتها.
إن أنظمتنا الكافرة ومَنْ وراءها من الكفار المستعمرين قد لمسوا انتفاضة الأمة الإسلامية، وهم يتوقعون آثارها المدمرة عليهم. ولذلك فهم يخططون وينفقون للانحراف بها، وقد اختار المتسلطون على الأمة الإسلامية أن يتعاملوا مع بعض الرموز وتلميعها لتكسب ثقة المسلمين ليتسنى لهم عن طريق ذلك إحباط الأمة وسوقها إلى حيث يريدون. وبعض الرموز المخدوعين أو المخادعين، والمضلَّلين أو المضلِّلين رضوا بذلك وأحبوا أن يطلق عليهم اسم المعتدلين. بل إن بعض هؤلاء ممّن له علاقة في نظر العامة بالعمل الإسلامي يتسابقون ليكونوا هم معتمد الأنظمة أو بعض الدول الغربية أو الأجهزة المخابراتية، فيتسابقون في التصريحات أو الفتاوى التي تظهرهم أمام الكافر بمظهر المعتدل الذي يرضى بالليبرالية وبالديمقراطية وبالحرية، ويرضى بالوطنية وغيرها طالما أن ذلك كله ضمن الديمقراطية. وتراهم ينفون عن أنفسهم بشدة أنهم أصوليون ويهاجمون الحركات التي يسمونها إرهابية، ويرضون بالحكم بالكفر بل ويشاركون فيه ويفتنون بذلك، ويفتون بأن الديمقراطية والإسلام لا تعارض بينهما، ويطالبون بالوحدة الوطنية على أساس الوطن وليس على أساس العقيدة، مثل هؤلاء أيضاً من الحركات المفتعلة أو التي يتم تلميعها وإشهارها بعد أن ترضى بفكر الغرب وبموالاته، لا يمكن أن يكونوا بعملهم هذا إلا أداة من أدوات الأنظمة ووسيلة من وسائل الكفر لإحباط الصحوة الحقيقية على الإسلام، لاحتوائها وصهرها في بوتقة الفكر الغربي. هؤلاء يشكلون خندقاً دفاعياً مباشراً خلف خندق المفتين وعلماء السلاطين الذين يحيطون بالأنظمة. ولذلك نراهم يتشابهون كثيراً معهم، فنسمع منهم فتاوى تبيح الربا وتبيح التحالف مع أحزاب الكفر ونسمعهم ونقرأ لهم وطنياتهم ومساواتهم بين المسلم والنصراني واليهودي، فالمؤمن بالله مؤمن بالله سواء كان مسلماً أو نصرانياً أو يهودياً، على حد قول أحدهم. ونسمعهم يرمون المسلمين الذين يكافحون أنظمة الكفر بالجهل والحماسة العاطفية الخالية من فهم حقيقة الإسلام.
ومن هؤلاء بعض الرجالات صنائع الأنظمة الذين فُتِحَتْ لهم كل أبواب الإعلام لإشهارهم وجعلهم قادة وموجهين، وغالباً ما يتحدثون في قضايا حساسة ويتبنون قضايا الأمة أو الشعب، ولكن في النهاية كل أعمالهم تصب في توجيه الناس نحو الانفضاض عن الحركات الإسلامية التي تعمل للخلافة، أو عن الدعاة والحركات التي ترفض كل فكر تشريعي آتٍ من الغرب أو الشرق أو ليس منبثقاً عن العقيدة الإسلامية.
هؤلاء الذين يصنعهم الغرب الكافر عن طريق سفاراته وأجهزته ومخابراته وعن طريق أنظمتنا الكافرة، يريدون ويريد الذين خططوا لهم أن ينالوا ثقة الأمة في أماكن وجودهم كي يقعدوا في مراكز التوجيه والنصح والبيان، بدلاً من الحركات الإسلامية المخلصة، من أجل الانحراف بالأمة الإسلامية ومن أجل وضعها على السكة المرسومة كي يوجهها الكفار المستعمرون كيفما شاءوا.
نقول: إن هؤلاء جميعَهم من علماء السلاطين والمفتين ومن الحركات المتعاونة أو المتواطئة مع الأنظمة أو مع بعض الحركات الخارجية وغيرهم ممن يتم إبرازهم وإشهارهم على أنهم دعاة مسلمون وموجهون، هؤلاء هم العقبة الآن أمام تأجيج الصراع مع الأنظمة، وأمام تحريك الأمة لهدم كيانات الكفر والفجور، ومثل هؤلاء يجب أن يسقطوا، هم الذين يجمّلون صورة الأنظمة قدر ما يستطيعون، ويقبّحون صورة الحركة الإسلامية الحقيقية الملتزمة. هؤلاء يجب أن ينالهم ما نال الأنظمة من خلع الثقة، ومن رفض توجيهاتهم وعدم الالتفات إلى نصائحهم.
ولا يتم ذلك إلا بإيجاد الوعي عند الأمة أن الإسلام يؤخذ من مصادرة، ومصادرُه هي القرآن والسنة، ولا يؤخذ من أصحاب زي معين أو منصب أو موقع. وأن الحكم الشرعي هو الحكم الذي يدل عليه النص، ولا يكتسب الحكم الشرعي شرعيته من موقع قائله أو من شهاداته. وأن الرجال يُعْرَفون بالحق ولا يُعْرَف الحقُ بالرجال. ولا تعطى الثقة العمياء لأي كان دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والثغرات في السلوك عند أي داعية أو عالم أو مفتٍ أو أي مفكر أمر منكر يجب تغييره، وليس كون المرء داعية أو عالماً دليلاً على جواز ذلك المسلك.
إن النهضة الحقيقية عند الأمة هي في ردها في كل شيء إلى الله ورسوله. قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأََمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59].
لا بد أن تنزع الأمة ثقتها من علماء السلاطين ومن العلماء العملاء صنائع الأنظمة أو أجهزة الاستخبارات. وأن تعطي قيادتها لحَمَلَةِ الفكر الإسلامي الصافي الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم.
إن العمل لإيجاد سلطان الله في الأرض لا يجزئ إلا أن يسير على النهج الذي حدده وارتضاه الله سبحانه وتعالى، ولا يكون ذلك إلا اقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ونهجه صلى الله عليه وآله وسلم مع الكفر وأفكاره وزعمائه هو نهج صراع بين الحق والباطل، ليس فيه مداهنة ولا مسايرة ولا أنصاف حلول، وليس فيه مكان لرضى أي كان سوى الله سبحانه وتعالى. وإن النصر في هذا الصراع والفوز هو لمن وعده الله بذلك، فمن يتولَّ الله فهو المنتصر وهو الفائز، ومن يتولّ من دون الله أولياء فقد أهلك نفسه. قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 41]، وقال أيضاً في آخر السورة نفسها: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ). وقال أيضاً: (كَتَبَ اللَّهُ لأََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21]. وقال: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأََرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) [الأنبياء: 105 ـ 106].
1993-08-09