خطوط عريضة في السياسة الدولية ومنطقة الشرق الأوسط (2)
1993/08/09م
المقالات
1,951 زيارة
قضية فلسطين
قضية فلسطين هي قضية أرض إسلامية اغتصبها الكفار بمؤامرة دولية كبرى، وأقاموا فيها كياناً سياسياًٍ لليهود الكفار ليكون خطاً أمامياً لأميركا والدول الغربية في قلب بلاد المسلمين لتحقيق مصالحهم وحفظها، وليكون هذا الكيان خنجراً في ظهر المسلمين ليحول بين المسلمين وبين تمكنهم من إعادة توحيد البلاد الإسلامية في دولة واحدة، ومن إعادة الإسلام إلى الحكم، حتى يبقى المسلمون ضعافاً، ويبقى الغرب الكافر مهيمنا على بلادهم، ومتحكماً فيها، وناهباً لثرواتها، وجاعلاً إياها سوقاً لتصريف بضائعه ومنتجاته، وطريقاً تجارياً وعسكرياً له.
أما الموقف الذي يجب اتخاذه حيال قضية فلسطين فهو الموقف الذي يوجبه الإسلام، ويفرضه الحكم الشرعي. وهو وجوب استنقاذ فلسطين وكل أرض احتلها اليهود وهدم الكيان اليهودي، واستئصاله من جذوره بالجهاد الشرعي، يعلنه المسلمون المحيطون بفلسطين، فإن لم تحصل الكفاية بهم وجب مشاركة من يلونهم من المسلمين، فإن لم تتحقق الكفاية إلاّ بجميع المسلمين وجب على جميع المسلمين المشاركة في هذا الجهاد، ومقاتلة اليهود حتى يتم استنقاذ فلسطين، وهدم الكيان اليهودي، وسحق اليهود فيه.
هذا هو حكم الله في قضية فلسطين، ولا حكم غيره، وهو الحكم الذي يجب أن يتبناه جميع المسلمين، وأن يقوموا بتنفيذه، ولا يجوز لهم أن يتبنوا غيره، أو أن ينفذوا سواه. ولهذا فإنه يجب عليهم إلغاء جميع القرارات التي أتخذها حكامهم في مؤتمراتهم التآمرية، القاضية بإلغاء الخيار العسكري، وبإلغاء مقاتلة اليهود، والقاضية بالاعتراف بدولة اليهود، والتنازل لها عن معظم فلسطين، والقاضية بالدخول مع اليهود في مفاوضات لعقد الصلح معهم.
لذلك فإن المفاوضات الجارية بين الوفود العربية وبين اليهود وأميركا لإنهاء القضية الفلسطينية، وللصلح مع اليهود هي مفاوضات غير شرعية، وهي انحراف عن دين اللّه، وتثبيت لدولة اليهود، وقبول بالتنازل لهم عن الكثرة الكاثرة من فلسطين. وهذا خيانة لله ولرسوله ولدينه وللمسلمين.
إن الوفود العربية التي تفاوض اليهود والأميركان لم يفوضها المسلمون بالتفاوض مع اليهود والأميركان، ولم يخولوها حق الصلح مع اليهود، ولاحق التنازل لليهود عن أي شبر من فلسطين – والمسلمون جميعا حكاما ومحكومين لا يملكون حق التنازل عن أي شبر من فلسطين أو غيرها من الأراضي الإسلامية لأي دولة كافرة – لذلك فإن مفاوضات هذه الوفود العربية مع اليهود والأميركان هي مفاوضات غير شرعية، وإن أي اتفاق، أو أي صلح تعقده مع اليهود يكون غير شرعي، ولا يلزم به المسلمون، وان أي تنازل لليهود عن أي أرض من فلسطين يعتبر تنازلاً باطلاً ولا قيمة له في نظر الإسلام، ولا يلزم المسلمون بالوفاء به.
لهذا فإنه على هذه الوفود العربية أن تنسحب من هذه المفاوضات انسحاباً كلياً، ويحرم عليهم أن يستمروا فيها، كما يجب على المسلمين رفض هذه المفاوضات، وعدم السكوت عليها، وان يرفضوا كل اتفاق أو عقد أو صلح يتمخض عنها، لأن كل اتفاق أو عقد أو صلح ينتج عنها هو في مصلحة اليهود، وضد المسلمين، وخطر محقق عليهم، ومخالف للحكم الشرعي سواء كان الاتفاق والصلح على إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين، أو حكم كانتونات، أو حكم يربط بالأردن ربطاً فدرالياً أو كونفدرالياً، تبقي لليهود سيادة على الأرض المحتلة، أو يربط مع الأردن ودولة اليهود باتحاد كونفدرالي، أو يكون على شكل دولة في رقعة صغيرة من فلسطين فكل هذا لا قيمة له، ويحرم القبول به لمخالفته للحكم الشرعي ولكونه ضرراً كبيراً، وخطراً عظيماً، ولن تُحلّ به قضية فلسطين، وستبقى هذه القضية قائمة دون حلّ حتى يُقضى على الكيان اليهودي قضاءً تاماً، كما قُضى على الكيانات الصليبية أيام الحروب الصليبية قضاءً تاماً عفّى على كل أثر لهم في بلاد المسلمين. ونحن واثقون أن الكيان اليهودي سيقضى عليه قضاءً كلياً وان اليهود سيُغلَبون ويقتلون في فلسطين للأدلة الواردة في كتاب الله وسنة رسوله.
مادام هذا هو واقع القضية الفلسطينية، وواقع الحكم الشرعي فيها، والموقف الذي يجب إن يتخذ حيالها، فإن التلهف على الوقوف على ما وصلت إليه المفاوضات، وهل طريقها سالكة أو وصلت إلى الطريق المسدودة، وهل صحيح أن بعض الوفود أو كل الوفود قد توصلت إلى اتفاق مع أميركا واليهود، أو أن ذلك غير صحيح، نقول هو تلهف غير مناسب أو زائد عن الحد، ذلك أن المفاوضات من حيث هي لا قيمة لها عندنا ونعتبرها غير شرعية، ونعتبر كل ما ينتج عنها من اتفاقات لا قيمة له، وغير شرعي أيا كانت هذه الاتفاقات، لذلك سواء أكانت طريقها سالكة أو مسدودة – ونحن نتمنى أن تصل إلى الطريق المسدودة – وسواء حصلت فيها اتفاقات أو لم تحصل، فكل ذلك لا قيمة له ولا يستدعي التلهف الزائد للوقوف على ما يجري في المفاوضات، وإلى أين وصلت.
ومع ذلك فإننا سنعرض بعض الخطوط العريضة للواقع الذي حصل للقضية الفلسطينية، ورأي أميركا وبريطانيا، والحكومات والأحزاب اليهودية في فلسطين، والدول العربية، في حلها، ودافع المفاوضات وما يجري فيها.
دولة اليهود في فلسطين جرى إستصناعها من قبل بريطانيا وأميركا وغيرهما من الدول الغربية والحركة الصهيونية كما تستصنع السلعة حسب مواصفات معينة. وقد حددت المقولات الصهيونية مواصفات الدولة ومصالحها الحيوية، ومستلزمات العيش الآمن لها، ومما نصت عليه هذه المقولات أن تكون الدولة اليهودية دولة يهودية صرفه من غير عرب، وأن تنفذ إلى المصادر المائية في لبنان، وان تكون العقبة ميناء دولياً لها، وأن يكون لها وجود في هضبة الجولان.
قامت الدولة اليهودية منذ إنشائها سنة 1948 بعدة حملات وحروب لتحقيق مصالحها الحيوية المرسومة، فاحتلت المنطقة الجنوبية من فلسطين حتى ميناء العقبة، وثبتت حقها في المرور عبر مضائق تيران والبحر الأحمر، وفي سنة 1967 احتلت بقية فلسطين وهضبة الجولان الإستراتيجية، وفي حربها مع لبنان سنة 1982 جعلت نفسها شريكاً للبنان في مياهه.
كانت الأمم المتحدة اتخذت سنة 1947 القرار رقم 181 بتقسيم فلسطين، وإقامة دولتين عليها، يهودية وفلسطينية. لكن رفض العرب لقرار التقسيم، ورفض اليهود والبريطانيين لإقامة دولة فلسطينية حال دون إقامة الدولة الفلسطينية. ومما زاد الأمر تعقيدا ضم الأردن للجزء المتبقي من فلسطين غرب النهر، وأطلق عليه : الضفة الغربية.
وافقت الولايات المتحدة على القرار 181 واتخذته أساساً في حل القضية الفلسطينية، غير أنها اعترفت فيما بعد بالمتغيرات في الحدود على الأرض نتيجة توسيع الدولة اليهودية لرقعتها قبل سنة 1967.
وتقوم الخطة الأميركية على أن تكون الدولة اليهودية مستقراً ومستودعاً لكل يهودي يرغب في ذلك من يهود العالم، وأن يكون أمن أميركا من أمن الدولة اليهودية، بمعنى أن يكون أمن الدولة اليهودية من المصالح الحيوية لأميركا. كما تقوم الخطة على إقامة دولة فلسطينية إلى جانب الدولة اليهودية لتكون دولة عازلة تعزل الدولة اليهودية عن البلاد العربية، وتعزل البلاد العربية عن الدولة اليهودية، وتكون هذه الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح إلاّ ما تحتاجه لأمنها الداخلي، وتضمن الدول الكبرى ومجلس الأمن حدود الدولتين اليهودية والفلسطينية، وتضع قوات دولية على الحدود بين الدولتين.
ولما كان إنشاء الدولة يحتاج إلى أرض وشعب وقيادة سياسية، عمدت أميركا إلى إيجاد قيادة سياسية فلسطينية، فأوعزت إلى جمال عبد الناصر أن يقنع مؤتمر القمة المنعقد في الإسكندرية سنة 1964 بإيجاد منظمة التحرير، فاتخذ المؤتمر قراراً بذلك، ولإبراز هوية الشعب الفلسطيني، وتكريس قيادة منظمة التحرير تبنى مؤتمر الرباط سنة 1974 بتوجيه من عملاء أميركا قرارا يقضى بأن تكون منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ثم تبنى مؤتمر قمة فاس المنعقد سنة 1981 قرار يقضي بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بما في ذلك حقه في إقامة دولته. وهكذا انتزعت أميركا القضية الفلسطينية من الأردن لتركزها في يد منظمة التحرير. وبالنسبة لموضوع الأرض فإنه لما احتلت الدولة اليهودية سنة 1967 الجزء المتبقي من فلسطين أجرت اتصالات مع الملك حسين، وكانت على استعداد لأن تعيد إلى الأردن هذا الجزء الأخير الذي احتلته من فلسطين باستثناء القدس مع تعديلات كبيرة في الحدود كجزء من التسوية. غير أن أميركا رفضت ذلك حتى لا يعاد هذا الجزء للأردن، وبالتالى للنفوذ البريطاني، على أمل أن يعاد للفلسطينيين كجزء من تسوية القضية الفلسطينية، ليكون أرض الدويلة الفلسطينية المرجوّة، كما أن القدس لها وضع خاص في الخطة الأميركية فهي ترى تدويلها بشكل أو بآخر. وإذا استثنينا القدس والتعديلات الكبيرة في الحدود فإن الدويلة الموعودة عدا عن كونها منزوعة السلاح فإنها ستكون كياناً هزيلاً على رقعة ضيقة من الأرض، لن تتجاوز 15% من مساحة فلسطين، مقابل تنازل الفلسطينيين عن 85% من أرض فلسطين لليهود. وإقامة هذه الدويلة الهزيلة للفلسطينيين على رقعة ضيقة هو جانب نظري في الخطة الأميركية وغيرها، أما تحول ذلك إلى واقع فعلمه عند الله سبحانه. والظواهر البادية من تعنت اليهود، ومن مسايرة أميركا لهم وعجزها عن الضغط عليهم لا تدل على أنه سيحصل.
وأميركا عندما تبنت خطتها هذه في حلّ القضية الفلسطينية فإنها لم تراعِ فيها مصلحة الفلسطينيين والعرب. لأنها عدوة حقيقية للمسلمين جميعا بما فيهم الفلسطينيون والعرب، بل إنها ضربت بهذه الخطة جميع مصالح الفلسطينيين والعرب وبقية المسلمين وقضت بذلك على كل أمل باسترجاع فلسطين. وما كان تبنيها لهذه الخطة إلاّ لتحقيق مصالحها الحيوية في المنطقة. ومع ذلك فإن الإدارات الأميركية المتعاقبة تراعي في سيرها تنفيذ هذه الخطة الجانب اليهودي وتسايره، ولا تتصدى لمجابهته عندما يقف أمام تنفيذ خطتها، ذلك أن الشعب الأميركي يعتبر أن قضية اليهود في فلسطين قضية أمريكية داخلية، ويعتبرها من المصالح الحيوية لأميركا، كما أن اللوبي اليهودي في أميركا له تأثير كبير على مراكز القرار في أميركا، وبخاصة الكونغرس الأميركي. هذا فضلاً عن أن اليهود لهم أثر في الانتخابات الأميركية، مما يجعل رؤساء الولايات المتحدة، والمرشحين للرئاسة، وأعضاء الكونغرس يتحسبون من مجابهة اليهود، أو من الضغط المؤثر عليهم. وهذا ما يجعلنا نرى أن جميع محاولات تغيير الرأي العام الأميركي تجاه اليهود في فلسطين، وتجاه محاولة فك الارتباط بين مصلحة الولايات المتحدة ومصلحة الدولة اليهودية إذا تقدمت خطوة إلى الأمام فإنها تتراجع خطوتين إلى الخلف.
هذا بالنسبة لأميركا. وأما بريطانيا فإن لها خطة في حلّ القضية الفلسطينية، كان يقوم جوهرها على إقامة دولة ديمقراطية – علمانية في فلسطين بأكملها بين العرب، مسلمين ونصارى، وبين اليهود، يكون فيها اليهود الفئة الحاكمة والمهيمنة والمتسلطة، على أن تتحد مع الأردن اتحاداً كونفدرالياً. ولما رأت بريطانيا التوجه المحلي والإقليمي والعالمي باتجاه الدولة الفلسطينية غيرت من خطتها شكلا مع الإبقاء على الجوهر، وتقوم خطتها الجديدة على إقامة دولة فلسطينية، وتشكل الدولة اليهودية والدولة الأردنية والدولة الفلسطينية اتحاداً كونفدرالياً.
ولما رأت دولة اليهود أن المد باتجاه الدولة الفلسطينية يأخذ زخماً قامت سنة 1982 بغزو لبنان. وكانت تريد من ذلك الغزو اجتثاث القيادة السياسية للشعب الفلسطيني وكوادرها اجتثاثاً تاماً، وان تقضى عليها قضاءً مبرماً، وأن تضرب سورية لإيجاد واقع جديد يجري التفاوض عليه بدل التفاوض على القضية الفلسطينية، وللاستيلاء على مصادر الماء في لبنان، وإجبار لبنان على عقد صلح منفرد يجعل من لبنان منطقة نفوذ للدولة اليهودية. ومع أن الدولة اليهودية انتصرت عسكريا غير أنها فشلت سياسيا، فقد حالت أميركا بينها وبين ضرب سورية، كما ضربت خطتها لاجتثاث القيادة السياسية للشعب الفلسطيني، وهَرِعَتْ إلى إنقاذ منظمة التحرير قيادة وكوادر، كما أحبطت مساعي الدولة اليهودية بعقد صلح منفرد مع لبنان. وتحوّلَ وجودها في لبنان إلى حرب استنزاف لها، وكان كل ما حققته من غزوها هو المشاركة في المياه اللبنانية باحتفاظها بالشريط الحدودي.
إن الحكم اليهودي في فلسطين يستند إلى الأحزاب. وان 90% من السياسيين يرفضون التنازل عن الأراضي المحتلة، ويصرون على الاحتفاظ بها بشكل أو بآخر. ويرى معسكر اليمين المكون من حزب الليكود وأتباعه من اليمين من الأحزاب الدينية الاحتفاظ بكل شبر من الأراضي المحتلة، وطرد العرب منها. أما حزب العمل فتستند سياسته إلى مشروع الون الذي يقول بالاحتفاظ بالأراضي المحتلة عسكريا وسياسيا، بأن يبقى الجيش اليهودي على نهر الأردن، وفي مراكز استراتيجية يقتضيها أمن الدولة اليهودية وان يتبع السكان الفلسطينيون إداريا إلى الأردن، وهو ما كان يسمى بالخيار الأردني، وأن تكون المناطق العربية مفتوحة اقتصاديا على كل من إسرائيل والأردن. ولما أخذ الفلسطينيون زمام القضية بأيديهم، وأعلن الملك حسين فك الارتباط، سقط الخيار الأردني، فأخذ حزب العمل يقول بنظام الكانتونات، أي بجعل الفلسطينيين كانتونات تتمتع بحكم ذاتي موسع عوضا عن إلحاقها إداريا بالأردن. وهكذا فإن الخلاف بين الفريقين في الشكل لا في الجوهر.
إن الإدارات الأميركية المتعاقبة لم تتمكن من الضغط المؤثر على الدولة اليهودية، لأن الضغط المؤثر عليها يحتاج إلى مساندة الشعب الأميركي، ولا زال الرأي العام عند الشعب الأميركي بجانب الدولة اليهودية رغم محاولات تغييره، كما أن الدولة اليهودية ليس لديها استعداد للرضوخ لأي ضغط يناقض مصالحها الحيوية. لذلك فإن الإدارة الأميركية ليست مؤهلة لإيقاع الضغط الملزِم على الدولة اليهودية. ويقلل من قدرة الإدارة الجديدة على الضغط انشغالها في قضايا داخلية وخارجية تأخذ بتلابيبها وتستنزف طاقتها، خاصة حاجتها لإعادة رسم دورها في العالم.
ولا يظَنُّ أن الدولة اليهودية ستستجيب للضغوط الأميركية حتى لو قطعت المساعدات الأميركية عنها، ذلك أن الدولة اليهودية ترى في الاحتفاظ بالأراضي المحتلة مصلحة حيوية لأمنها ووجودها، ومن الصعب أن تتنازل عنها إلاّ إذا هددت مصلحة حيوية لها أهمية وخطورة أكبر. ومن جهة أخرى فإن ميزانية الدولة العبرية ضخمة وتزيد عن أربعين بليون دولار في السنة، والمساعدات الأميركية يمكن احتواؤها بمزيد من التقشف، وقليل من زيادة الضرائب.
بعد انتصار الولايات المتحدة عسكريا في حرب الخليج، وهزيمة العرب هزيمة فظيعة، نتيجة هزيمة العراق، تمكنت أميركا من جمع العرب واليهود على طاولة واحدة للتفاوض فيما بينهم للتوصل إلى حل القضية الفلسطينية، بعد أن كان ذلك متعذراً قبل حرب الخليج.
وعلى رغم أن أميركا سايرت اليهود واستجابت لكثير من شروطهم التي اشترطوها لقبولهم الاشتراك في هذه المفاوضات إلاّ أنها تمكنت من أن تجعل قراري 242 و 338 ومبدأ مبادلة الأرض بالسلام أساسا للمفاوضات للوصول إلى الحل النهائي والشامل.
وقد رتبت أميركا المفاوضات لتجري على صعيدين حسب شروط اليهود : مفاوضات ثنائية، ومفاوضات متعددة الأطراف، ورتبت المفاوضات الثنائية بحيث تجري في مسارات أربع بين اليهود، وكل من الأردن وسورية ولبنان والفلسطينيين. ولما كان المطلوب حلا شاملا ومترابطا فإن التقدم في المفاوضات المتعددة الأطراف رهن بالتقدم في المفاوضات الثنائية بإطارها الشامل. وإنه وإن كان لكل مسار خاصيته فإن تحقيق الحلول فيها مرهون بتحقيق حلّ القضية الفلسطينية، لأنها القضية المركزية في المفاوضات. والمقصود بالحل هو الحل النهائي للقضية الفلسطينية، وليس الاتفاقات المرحلية. فالاتفاقات المرحلية إن حصلت فليست سوى محطات على طريق الحلّ النهائي. وحتى لا تتحول الاتفاقات المرحلية نفسها إلى حل نهائي فإنه يتوجب أن تربط بالحلّ النهائي. وأن يكون الحل النهائي حلا شاملا ومترابطا على جميع الجبهات. إلاّ أن اليهود يرفضون ربط المرحلة الانتقالية بالمرحلة النهائية.
وقد راوحت المفاوضات مكانها. وكان شامير يقصد منها تقطيع الوقت حتى يتم زرع الضفة وغزة بالمستوطنات اليهودية، وإيجاد الظروف لطرد العرب، أو خروجهم منها حتى لا يبقى شيء يتفاوض عليه. ولا زالت المفاوضات تراوح مكانها بعد مجيء رابين إلاّ في المسار الأردني اليهودي، فقد حصل بعض التقدم. والأردن ليس أكثر من دولة حدودية. وكانت الاتصالات السرية جارية بينه وبين اليهود من أيام هزيمة 1967 وحصلت اتفاقات أولية بينه وبين اليهود على نوعية الحل. لذلك ليس من العسير أن يتوصل إلى اتفاق بين الأردن واليهود منذ المراحل الأولى من المفاوضات، إلاّ أن تنفيذ ذلك مرهون بتنفيذ الحل الشامل، لأن الحلول المنفردة غير مقبولة أميركياً وعربياً.
أما لبنان فله أرض محتلة، وليس من العسير التوصل إلى اتفاقية بينه وبين اليهود لولا أن لبنان يربط التقدم في مباحثاته مع اليهود بالتقدم على المسار السوري، بسبب العلاقة الخاصة بين لبنان وسورية، ولتأثر سورية بأي اتفاق يحصل بين لبنان واليهود، لذلك ستبقى المفاوضات على المسار اللبناني تراوح مكانها ما دام المسار السوري اليهودي يراوح مكانه.
أما المفاوضات السورية اليهودية فإنها لم تحقق تقدماً، وليس من المتوقع التوصل لاتفاق بين الطرفين. ذلك أن سورية تصر على مبدأ السيادة السورية على الجولان، بغض النظر عن الترتيبات الأمنية فيها، وتصر على الانسحاب اليهودي الشامل منها أو لا تمانع من أن تسلمها لقوات أمريكية ولو بمشاركة قوات دولية أخرى لترابط فيها كعازل بين الطرفين، مثل القوات الدولية في سيناء. بينما يصر اليهود على الاحتفاظ بالجولان أو بأجزاء منها لأسباب أمنية، لذلك ليس من السهل أن يحصل اتفاق بين الطرفين.
أما على المسار الفلسطيني فقد جرى الاتفاق على أن تكون هناك مرحلة انتقالية تتمثل بالحكم الذاتي، ويرفض اليهود ربط المرحلة الانتقالية بالمرحلة النهائية كما تريدها الأطراف الأخرى، مما جعل المفاوضات تراوح مكانها. فالنظرة إلى المرحلة النهائية متناقضة تماما، فبينما يصر اليهود على الاحتفاظ بالضفة وغزه عسكرياً وسياسياً يطالب العرب بانسحاب اليهود، وإعطاء الفلسطينيين حق تقرير المصير، بما في ذلك حق إقامة دولة فلسطينية، وإدخال القدس في المفاوضات، وان ترتبط المرحلة الانتقالية بالمرحلة النهائية، بحيث تؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية، بينما يرفض اليهود ذلك، لأنهم يريدون أن يؤدي الحكم الذاتي إلى حكم ذاتي موسع، لا إلى دولة فلسطينية. لهذا فإن المفاوضات واقعة في مأزق، وستبقى تراوح مكانها، خاصة وأن المسارات الأخرى مربوطة بالمسار الفلسطيني، وأن تنفيذ اتفاقات المسارات الأخرى إن حصلت مرهون بالتوصل إلى الحل النهائي للقضية الفلسطينية. على أنه ليس من المستحيل إيجاد مخرج بشكل أو بآخر يوصل إلى اتفاق على الحكم الذاتي للفلسطينيين، على أن لا يؤدي ذلك إلى أن تصبح المرحلة الانتقالية مرحلة نهائية، أو تحول دون تحقيق المرحلة النهائية. والمفاوضات على المرحلة النهائية ستكون بعد ثلاث سنوات من تطبيق الحكم الذاتي إن تحقق، وستأخذ عشرات السنين، أما ماذا ستحقق إن حصلت فعلم ذلك عند الله، وإن كانت جميع الظواهر تدل على أنها سوف لا تحقق شيئًا إلا مصلحة اليهود وأميركا.
قضية الخليج
احتلت منطقة الخليج في الماضي أهمية خاصة في السياسة البريطانية لقربها من الهند، درة التاج البريطاني عندئذ، ولوقوعها على طرق مواصلات بريطانيا التجارية والعسكرية. وازدادت منطقة الخليج أهمية بعد اكتشاف البترول فيها، مما حدا ببريطانيا أن تربطها بها ربطاً وثيقاً، وأن تقيم القواعد العسكرية فيها وحولها، لحمايتها وإبقاء سيطرتها عليها، وحفظ مصالحها فيها. أخذت الولايات المتحدة تصارعها للسيطرة على منطقة الخليج وعلى مخزون النفط الهائل الموجود فيها، وأمام الضغط الأميركي الشديد، وبعد تسرب الضعف والوهن إلى بريطانيا بعد حرب السويس أعلنت بريطانيا سنة 1968 أنها حددت سنة 1971 موعدا لانسحابها من شرق السويس. ولملء الفراغ الناجم عن انسحابها عمدت إلى اعتماد إيران شرطياً للخليج، وإلى تجميع سبع إمارات من إمارات الخليج في دولة اتحادية واحدة، ثم أوجدت مجلس التعاون الخليجي سنة 1980 بعد أن طردت أميركا الشاه من إيران.
ولما أعلنت بريطانيا عن نية الانسحاب طلبت إدارة نيكسون من مجلس الأمن القومي الأميركي إعداد دراسة تبين كيف يمكن لأميركا أن تملأ الفراغ، وأن تستولي على منطقة الخليج. وقد توصلت الدراسة إلى أن إيران قوية وأمريكية يمكن أن تفي بالغرض. وفى أيام كارتر أنشأت أميركا قوات التدخل السريع، وأعدتها للعمل في الصحراء و في الظروف الصعبة، ووضعت لها خطة للاستيلاء على منطقة الخليج عندما تسنح فرصة مناسبة لذلك. وهكذا أخذت الولايات المتحدة تعمل على إسقاط الشاه، وعلى أخذ إيران من بريطانيا. ولما أخذت الدول الأوروبية تشكل بوحدتها الاقتصادية تحدياً للولايات المتحدة، أخذت أميركا تَغُذُّ الخُطا في أخذ إيران تمهيداً للسيطرة على منطقة الخليج، وعلى مخزون النفط الهائل الموجود فيها. وكان لها ما أرادت، وتمكنت من القضاء على نظام الشاه، مما دفع الدول الأوروبية، وعلى رأسهم بريطانيا، للتصدي لأميركا وإيران، فدفعت العراق للدخول في حرب دامية مع إيران، بغية القضاء على الثورة الإيرانية، وبالتالي إحباط خطة أميركا في السيطرة على إيران، وعلى منطقة الخليج. وقد امتدت الحرب ثماني سنوات دون أن يتمكن العراق والدول الأوروبية من ورائه من القضاء على الثورة الإيرانية، ولا على السيطرة الأميركية على إيران. كما أن الولايات المتحدة لم تتمكن في هذه الحرب من تحقيق مسعاها، ولم تتمكن من إرضاخ الكويت وبقية دول الخليج لإرادتها رغم ضغطها على إيران بعدم القبول بإيقاف الحرب الذي كان العراق ينادي به بشكل دائم ومستمر من السنة الأولى من ابتداء الحرب، ورغم شدة ضغطها على الكويت وبعض دول الخليج الأخرى، وتسليط إيران عليها لضربها والاعتداء عليها لأجل إرضاخها لإرادتها، وبقي النفوذ البريطاني هو المسيطر على دول الخليج.
ومع اشتداد التنافس الاقتصادي من الولايات المتحدة وكلٍ من أوروبا واليابان زادت أميركا تصميما على السيطرة على صنبور النفط في الخليج، والتحكم فيه، لتتحكم في شريان الحياة لأوروبا واليابان. ولما رأت فشل إيران في أن تكون الإدارة التي تريد لفرض سيطرتها على دول الخليج، ورأت عدم إمكانية أخذ الخليج من الداخل بواسطة دوله، قررت أخذ القضية بيدها، وأخذت تتحين الفرصة المناسبة لتنفيذ ذلك. فجاء احتلال العراق للكويت في 2 آب سنة 1990 تلك الفرصة التي كانت تتحينها لتقوم بتنفيذ خطتها التي وضعتها من أيام كارتر للاستيلاء على الخليج. وكان صدام قد قام بهذه المغامرة بناء على حساباته الخاطئة بأن أميركا سوف لا تتدخل، وعلى الحسابات الخاطئة لبريطانيا التي كانت خلفه، وبناء على انخداعه بالتصريحات الأميركية الخادعة التي ورطته، والصادرة عن السفيرة الأميركية في بغداد في لقائه معها قبل الغزو بأيام قليلة، وبتصريحات مساعد وزير الخارجية الأميركية بأن أميركا لن تتدخل في النزاعات الحدودية بين العراق والكويت، لعدم وجود اتفاقات أمنية بين أميركا والكويت تلزم أميركا بالتدخل.
نجحت أميركا عسكرياً في حرب الخليج، فقد أخرجت العراق من الكويت، واستولت على مساحات واسعة في العراق، وكان بإمكانها أن تستمر بالزحف على بغداد، وأن تسقط نظام حكم صدام – وكانت بريطانيا قد بدرت منها معارضة لاستمرار القتال والزحف على بغداد – لكن بوش أمر بإيقاف القتال، وبعدم استمرار الزحف على بغداد، رغم اعتراض شوارتزكوف قائد قواته ومستشاري بوش العسكريين على ذلك. وقد اتخذت أميركا من بقاء نظام صدام بعبعا لإخافة حكام الخليج منه لتتمكن من عقد اتفاقيات أمنية معهم، لإتمام فرض هيمنتها على منطقة الخليج، وعلى مخزون النفط الهائل الموجود فيها. ومع هذا النجاح العسكري لأميركا في حرب الخليج، واناختها بكلكلها على منطقة الخليج، فإن بقاء نظام حكم صدام، هو عدم استطاعتها السيطرة على القرار السياسي في العراق، وعدم استطاعتها كسب ولاء دول الخليج لها رغم عقد اتفاقيات أمنية معها، وبقاء نفوذ ودور للإنجليز في هذه الدول يعتبر فشلا سياسيا لأميركا. وقد أخذت بريطانيا بعد صدمة الخليج تعمل على ترميم وجودها فيه بعد أن أخذ بالتشقق.
وتعمل أميركا الآن بالنسبة لمنطقة الخليج على ما يلي :
1- إكمال الاتفاقيات الأمنية مع دول الخليج بإتمام عقد دفاع أمني مع دولة الإمارات.
2- إتمام فرض هيمنتها على منطقة الخليج، وفرض سيطرتها على مخزون النفط سيطرة كلية.
3- إسقاط النظام في العراق والسيطرة على القرار السياسي فيه، وتركيز تجزئته ليصبح كيانا اتحاديا ضعيفا لا يعود إلى قوته وخطورته وتطلعاته السابقة، وحتى لا يكون حجر عثرة أمام المصالح الأميركية. ولتحقيق ذلك وضعت العراق في وضع بلد يعيش تحت الوصاية، وجعلت من الحصار الاقتصادي، ومن دوام الرقابة على التسلح بعد إتمام إتلاف السلاح المتطور، الأداة الفعالة لتثبيت هذه الوصاية، وجعلها حقيقة واقعة، ولإبقاء العراق عند أدنى حدود القوة، وعامل ضغط لإسقاط النظام فيه.
4- أخذ أنظمته الحكم في الخليج إلى جانبها، وجعل ولائهم لها، لا لغيرها ولو بإسقاط حكامها.
5 – إيجاد هيكل أمني في منطقة الخليج يحقق المصالح الأميركية، ويحافظ عليها. وقضية الأمن في الخليج هي من أهم القضايا المطروحة، وهي التي ستقرر مدى نجاح أميركا، أو فشلها في الخليج. وتعمل أميركا على أن تكون هي أحد أعمدة الأمن في الخليج، وذلك بعقدها اتفاقات دفاع مشترك مع كل من إمارات الخليج ومشيخاته. غير أن الاتفاقات تفقد الكثير من قيمتها عندما تعمد تلك الإمارات إلى عقد اتفاقات مشابهة مع كل من الدول الكبرى الأخرى.
ولما كانت الولايات المتحدة تعمل على تخفيض الإنفاق، وتسير على طريق تخفيض وجودها العسكري في الخارج فمن الطبيعي أن لا تبقي قوات أرضية كبيرة من قواتها في الخليج على المدى البعيد وسيقتصر وجودها على القوة البحرية والجوية، وقوة رمزية من القوات الأرضية. وليس من المنتظر أن تعمد الولايات المتحدة إلى إيجاد هيكل أمني على شكل منظومة أمنية واسعة لأن إيجاد مثل هذه المنظومة يقتضي وجود عدو خارجي مشترك، وهذا غير موجود في الظرف الراهن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال خطره.
كما أن دول الخليج تكتفي بمجلس التعاون الخليجي كإطار أمني في ظل الدفاع المشترك التي عقدتها مع أميركا وغيرها من الدول الكبرى. وكانت أميركا قد اعتمدت إعلان دمشق ليكون أحد أعمدة الهيكل الأمني لمنطقة الخليج تشارك فيه كل من مصر وسورية. لكن دول الخليج رفضت تطبيقه أو بالأحرى الشق العسكري فيه، حتى ولو ربط بميثاق الجامعة العربية كإطار عام للأمن العربي، وفشلت محاولات أميركا في تخويف دول الخليج من إيران لتثبيت حاجتها لقوة مصر وسورية، وبالتالي إلى إعلان دمشق. ذلك أن دول الخليج تخشى أن يكون إعلان دمشق أداة ابتزاز مالي لحساب مصر وسورية، واستخدام وجود القوات المصرية والسورية كأداة مؤثرة للإطاحة بأنظمة الحكم في الخليج لحساب أميركا. لذلك فمن المرجح أن يبقى أمن الخليج يتمثل في مجلس التعاون الخليجي في ظل اتفاقات الدفاع المشترك مع أميركا والدول الكبرى، و في ظل شبح ميثاق الجامعة العربية، الذي سيكون الإطار الأعم والأشمل لوهم الأمن العربي.
1993-08-09