مستقبل الرأسمالية (3)
1993/01/08م
المقالات
2,122 زيارة
يوسف عبد ربه ـ بروكسيل في أيار (ماي) 1992
5- حتمية عودة البديل الإسلامي
إن سقوط الرأسمالية وكل أنظمة الكفر في العالم الإسلامي ومن ثم نجاح القيادة الفكرية الإسلامية في استئناف الحياة الإسلامية وتحقيق وعد الله بالنصر أمور لا يعلم وقتها المحدد إلا الله سبحانه وتعالى. إلا أن التعجيل في إسقاط أنظمة الكفر والإسراع في تقريب وعد الله بالنصر أمر يتأثر بمدى حرص المسلمين الجاد على عودة الإسلام (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ). وهو أمر يتوقف على مدى إرادتهم الواعية في الأخذ بأسباب النصر (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). ولتحقيق نصر الله وعودة الإسلام لا بُد من توفر ثلاثة أمور على الأقل: أولاً: الوعي على الإسلام فكرة وطريقة فهو قوتنا الروحية والسياسية. ثانياً: الوعي على الواقع بمشكلاته لأنه موضع تغييرنا لا مصدر تفكيرنا. ثالثاً: المسؤولية الجادة في التنفيذ الجذري والتلبس العملي بما يؤدي إليه. وهذه الأمور لا يكفي توفرها في أفراد أو في كتله بل لا بد من توفرها في الأمة بشكل جماعي إن لم يكن إجماعياً.
1- الوعي على الإسلام: لقد ظل الإسلام مطبقاً منذ وصول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة حتى سنة 1918. وظلت الدولة الإسلامية الدولة الأولى في العالم حتى نهاية القرن الثامن عشر بحصول الانقلاب الفكري ثم الصناعي بأوروبا. وعلى طول هذه المدة أثبت الإسلام فعاليته كبيرة في حل مشكلة العقيدة ومشكلة إشباع الغرائز والحاجات العضوية. كما نجح الإسلام في إرساء سلام عالمي حقيقي؛ لم يعرف العالم خلاله آية حرب دولية. إن نجاح القيادة الفكرية الإسلامية طيلة القرون السابقة يؤهلها من جديد اليوم أن تقوم بدور تحرير العالم من المبدأ الرأسمالي وبراثنه. وسبب ذلك ما يتمتع به الإسلام من خصائص ذاتية. إن الإسلام يقوم على فكرة كلية للكون والإنسان والحياة مبنية على العقل وموافقة للفطرة. فالقيادة الفكرية الإسلامية تفرض على المسلم أن يؤمن بالله وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن عن طريق العقل. وتفرض الإيمان بالمغيبات على أن تأتي من شيء ثبت بالعقل كالقرآن والحديث المتواتر. وهي قيادة إيجابية تقرر ما في فطرة الإنسان من نقص واحتياج للخالق المدبر في كل أعمال الإنسان. فعقيدة الإسلام حلت مشكلة الإنسان في الوجود بالعقائد والعبادات وحلت مشكلة الإنسان في المجتمع بأنظمة السياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم أي بنظام المعاملات. وحلت مشكلة الإنسان في العالم بإخراجه من ظلم العباد إلى عدل رب العباد.
إذ قوة المبدأ الإسلامي تنبع من ربط فكرته بطريقته أي من ربط العقيدة الإسلامية بقيام الدولة الإسلامية لاستئناف الحياة الإسلامية. إن هذه الحقيقة عندما فهمها المسلمون الأوائل حملوها رسالة لتحرير العالم من ظلم العباد إلى عدل الإسلام. وهذه الحقيقة عندما تنغرس في العقول وتتغلغل في النفوس وتتجسد في السلوك تدفع الأمة أن تأخذ على عاتقها اليوم مهمة تحرير العالم من الظلم السياسي والنهب الاقتصادي اللذيْن يتخبط فيهما بسبب الطاغوت الرأسمالي. وهي حقيقة تدفع الأمة إلى إخراج العالم من ظلمات الضلال الفكري والضيق النفسي إلى نور الهدى الرباني وسعادة الدنيا، إن الأمة الإسلامية بحملها الإسلام عقيدة ونظاماً وقيادة فكرية ووجهة نظر في الحياة، ليست قادرة على النهضة الصحيحة فحسب بل أن تكون مصدراً للخير لبقية العالم لتنقذه مما تردى فيه من الشقاء والاستعباد.
2- الوعي على الواقع: إلا أن عملاً جباراً كهذا يستحق القيام بأعمال عظيمة وجهود كبيرة حتى يتم تحقيقه. فمجرد الرغبة والحماس ليسا كافيين لاستئناف الحياة الإسلامية وتحرير العالم من الرأسمالية. ومن هنا صار لزاماً علينا الوعي على الواقع بمشكلاته وعياً كفيلاً بإنتاج الإرادة الصادقة للتغيير. فأعداء الأمة وطواغيت الرأسمالية وعملاؤها يقفون حرباً على المسلمين ليحولوا دون عودة الإسلام إلى القيادة السياسية. وقد وضعوا عراقيل كثيرة لتأخير قيام الخلافة الإسلامية وللحيلولة دون سقوط عروشهم. ومن أهم هذه الصعوبات والعراقيل تطبيق الحكومات في العالم الإسلامي لأنظمة الكفر وقوانينه. كيف لا، وقد أوْكل إليها الكافر المستعمر مهمة تكريس التجزئة الإقليمية والوطنية لحماية مصالح الرأسمالية. وذلك بما أوجده من أفكار ومشاعر غير إسلامية بين المسلمين، فرّقت صفوفهم وفكّكت رابطة الأخوة الإسلامية بينهم. وحتى يثبّت الكافر هذا الواقع ويضمن استمرار ديمومته وضع برامج التعليم والتوجيه على أساس سياسة الإلحاق الثقافي بنمط الحياة الغربية. كما أوجد أحزاباً عميلة وخائنة بين الأمة تعتنق الأفكار القومية العلمانية وتحمل المشاعر الوطنية وتنادي بالديمقراطية. وبسبب سياستي التجزئة والتغريب هاتين تَعُدت المسافة التاريخية بين المسلمين اليوم وبين الدولة الإسلامية خاصة فيما يتعلق بسياستي المال والحكم. وهو ما يجعل تصور المسلمين للحياة الإسلامية ضعيفاً ومتأثراً بنمط الحياة غير الإسلامية.
إلا أنه رغم هذه الصعوبات العراقيل الضخمة فإن قوة العقيدة الإسلامية التي تعتنقها الأمة كفيلة بأن تجعل منها قوة دافعة: إذا تحركت كان التحرير، وإذا زمجرت خَرَّ الجبابرة. وهو ما يدركه الكافر المستعمر أيّما إدراك. لذلك لم يستعمر الكافر هذه الأمة لنهب خيراتها فقط، رغم أن ذلك مظهر استعماره لها، بل استعمرها خاصة للحيلولة دون عودتها إلى اقتعاد مركز الصدارة في الموقف الدولي وحمل رسالتها إلى العالم. وهذا هو الأساس الجوهري والدافع الأصلي من تثبيت واقعَيِ التجزئة والاستعمار في بلادنا. أما سبب هذا السقوط العدواني الحقود من قبل الكافر فهو طبيعة التناقض المبدئي والدائمي بين الإسلام وبين الرأسمالية المترنحة إلى السقوط والشيوعية المنهارة. وإدراك هذا التناقض الجوهري بين الإسلام والكفر يفرض على الأمة الإسلامية دوام الصراع المصيري والحيوي ضد الرأسمالية وكل أنظمة الكفر. إلا أنه لا يمكن أن يرقى هذا الصراع إلى المستوى المطلوب خوضه ما لم تدرك الأمة والأحزاب الإسلامية المخلصة مسؤوليتها الشرعية بإقامة الخلافة قضية مصيرية يُتخذ إزاءها إجراء الحياة والموت.
3- مسؤولية الأمة: إن الواقع الفاسد والمؤلم للمسلمين وللعالم يُحمل الأمة الإسلامية مسؤولية العمل على تغييره. والأمة وحدها مؤهلة للقيام بهذا الدور الريادي بحكم اعتناقها للإسلام عقيدة روحية وسياسية. فالإسلام هو المبدأ الوحيد الذي يفرض على من يؤمن به المسؤولية تجاه الغير عند التفكير برعاية الشؤون، ابتداءً من التفكير بالعيش وانتهاءً بالتفكير في الوجود، وهو أمر ينعدم كلياً من المبدأ الرأسمالي. فوجهة نظر الرأسمالية للحياة ولرعاية الشؤون خالية من هذه المسؤولية عن الغير. لذلك لم تخلف الرأسمالية في بلادها سوى الصراع المحتدم على الرغيف آكله أنا أو تأكله أنت. ولم تخلف في البلاد التي تسيطر عليها سوى الاستعمار والنهب بكل أشكالهما. أما المبدأ الشيوعي ـ الاشتراكي فقد حاول بادئ الأمر أن يكون مسؤولاً عن الغير، لكنه سرعان ما عاد في وجهة نظره للحياة وفي سياسته الدولية إلى نظرة قومية ودولة قيصرية أسقطتا من اعتبارهما المسؤولية على الغير. فخلفت في البلاد التي حكمتها فقراً مدقعاً ومستوى للمعيشة متدنياً وبائساً. لذلك لم يبق من بديل في العالم سوى الإسلام عقيدة ونظاماً، حضارة وثقافة.
وبيان ذلك أنه حتى في ظل الغياب الآنيّ لدولة الإسلامية وسلطانه فإن المسؤولية عن الغير في الأمة لما تنقطع.وأكبر دليل على ذلك هذه الصحوة الإسلامية المباركة وهذا المد الإسلامي السياسي الذي يجتاح المنطقة الإسلامية وقلب أوروبا. إن هذه الصحوة تعبير إسلامي أصيل عن المسؤولية عن الغير وعن الحس الجماعي الذي يفرضه الإسلام على معتنقيه. وما التكتل السياسي على أساس الإسلام سوى المترجم العملي لحضور الأمة واستعدادها الدائمين من اجل خوض غمار الحياة الإسلامية والعمل على أخذ الحكم لإقامة دولة الخلافة وتحرير العالم. لذلك فإنه بحكم ازدياد إحساس المسلمين الجماعي بمسؤوليتهم في إقامة الخلافة وتحرير العالم، ويزداد شعور الغرب وعملاؤه بخطر الإسلام السياسي. فليس غريباً ما نراه من إجماع غربي على محاربة الإسلام بمحاربة ومطاردة الأحزاب الإسلامية التي لم يستطيعوا ترويضها. وذلك في محاولة يائسة من الغرب لمنع هذه الأحزاب من قيادة الأمة إلى إقامة دار الإسلام.
ولكن هيهات، هيهات، لقد انطلق قطار الإسلام والمسلمين. ولن يوقفه نبح الكلاب. وإذا كان العدو يظن أن رصاصته قد أصابت مقتلاً من الأمة، فإنه واهم في ظنه ومخطئ في حسابه. فواقع الحال أن الأمة لا تزال تنبض بالحياة. بل تزداد معرفة بدينها وإصراراً على جعل قيادته الفكرية قيادة سياسية للعالم. ولن يضير الأمة أو يخيفها هذه البروج ذات الرؤوس النووية التي يشيدها الغرب ليحصن بها نفسه في معركته الأخيرة مع الإسلام. إن الموت لا محالة بارز إلى مضجعه. فقد صحا «الرجل المريض175 وهو يسترد عافيته. وهذا بركان الأمة يعتمل، مؤذناً بانفجاره في وجه الطواغيت، حاملاً معه انفراجاً لا للأمة فحسب بل للعالم بأسره، وإذا كان صراع الأمة اليوم بقيادة أحزابها المخلصة ضد أعدائها يأخذ بُعداً فكرياً سياسياً، فإن هذا الصراع سيضاف إليه بقيام دولة الخلافة الراشدة صراع دموي جهادي. ولئن رأى الكافر المستعمر وعملاؤه ذلك اليوم بعيداً فإننا بحمد الله نراه قريباً، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأََرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).
4- واقع التحدي: وهنا يرد سؤال: كيف يمكن للفرد أو للحزب أن يعمل على إسقاط الرأسمالية ويواجه النظام الدولي ويتصدى للحضارة الغربية، لا سيما وأن اتجاه السياسة العالمية الاستعمارية قد أخذ دور العراقة؟
لننطلق أولاً من مُعْطىً أساسي ينبثق من العقيدة الإسلامية: إن العمل على دحر الرأسمالية وقلع الاستعمار ومن ثم إقامة الخلافة الإسلامية لاستئناف الحياة الإسلامية فرض محتم لا تخيير فيه ولا هوادة في شأنه. والتقصير في القيام به معصية من اكبر المعاصي يعذب الله عليها أشد العذاب. وبناءً على هذا المُعطى الشرعي فإن الفرد المسلم أو الحزب الإسلامي حين يتابع الأعمال السياسية ويتفهم السياسة الدولية لا يصح أبداً أن يتابعها من أجل المتعة الفكرية أو الترف العقلي أو من أجل التعليم وزيادة المعلومات بل يتتبعها من أجل أن يرعى بها شؤون أمته ومن أجل أن يفكر بالطريقة والأساليب التي يؤثر بها في العالم. وهذا هو معنى تحلّي الفرد أو الحزب بالوعي السياسي الكامل والإرادة الصادقة في التغيير وليس مجرد الرغبة، وإن لم يكن الفرد أو الحزب من المقررين لسياسة الدولة أو المنفذين لها بعدُ، فإنهما يطمحان أن يكونا ممن يقررون أو ينفذون أو يكونا من المحاسبين للمنفذين والمقررين. ومن هنا تكون الخطوة الأولى للتأثير في السياسة الدولية وإحباط مخططات الاستعمار الغربي هي بلورة المفاهيم السياسية الصحيحة اللازمة للوعي والعمل السياسيين. لذلك يجب أن تدرك الأحزاب تمام الإدراك أن تحرير الأمة من الاستعمار لا يكون إلا بالنهضة على أساس الإسلام أي بإقامة الخلافة. ويجب أن تدرك أن ربط قضيتنا هذه بغير أنفسنا يعتبر انتحاراً سياسياً. ومن ثم فإن كل استعانة بالدول الأجنبية والترويج للاتكال على الأجنبي أياً كان جنسه يعتبر تسميماً أجنبياً وخيانة لله ولرسوله وللأمة، ولو عن حسن نية.
هذه ناحية، أما الناحية الثانية فهي أن الفرد حين يعمل للقضاء على الاستعمار الرأسمالي وإقامة الخلافة لا يتصور أنه فرد أعزل بل يجب أن يعمل بوصفه جزءاً من كلٍ هو الأمة الإسلامية. أما الحزب فهو يعمل بوصفه كياناً فكرياً يسعى إلى إحداث الاحتراق الشعوري والانقلاب الفكري داخل الكيان المجتمعي. أي الأمة. وذلك من أجل أخذ قيادتها باعتبارها السند الطبيعي لإقامة الكيان التنفيذي المتميز بصفته الإسلامية أي الحلافة. لذلك فإن الحزب بوصفه الحامل للمفاهيم والمقاييس والقناعات الإسلامية يكون كياناً فاعلاً مؤثراً بأن تحتضنه الأمة حاملةُ المبدأ الإسلامي. وإن أخشى ما تخشاه الدول الرأسمالية هو أن تخوض معركة مكشوفة مع الأمة، ويظهر في هذه المعركة أن الصراع حقيقة هو بين الإسلام والكفر. لذلك تعمل الدول الكافرة دائماً على تحييد الأمة عندما تخوض معركة لحماية مصالحها في منطقتنا. ومن هنا كان لزاماً على الحزب القائم على أساس الإسلام أن يعمل على تعْرية الأنظمة القائمة في العالم الإسلامي لعزلها عن الأمة. وذلك من أجل تحطيم أضلاعها وإزالة هيبتها من أعين الناس؛ حيث تكثر الأيدي التي تأخذ بحلاقيمها وتزداد النفوس الطامعة فيها. كل ذلك حتى تعيش هذه الحكومات العميلة في أجواء خانقة تؤدي بها إلى السقوط.
إن معركتنا مع المبدأ الرأسمالي ودوله في الوقت الحالي على الأقل ذات مستويين: أولاً: المستوى الأفقي، وهو الصراع الفكري ضد كل الاتجاهات والتيارات التي تتخذ الفكر الرأسمالي والغربي عموماً مرجعية ثقافية وحضارية لها، أي تناقض المبدأ الإسلامي عقيدة ونظاماً، ثقافة وحضارة. ثانياً: المستوى العمودي، وهو الكفاح السياسي على الأمة، وضد الكافر المستعمر لفضح مخططاته ومكائده الاستعمارية. هذا جانب الهدم. أما جانب البناء فيتمثل في العمل على تركيز المفاهيم والمقاييس والقناعات الإسلامية وتزويدها بالوعي السياسي الصحيح، وذلك كي لا يبني المسلمون البيت ويسكنه غيرهم. وإن الفرصة اليوم مؤاتية جداً لخلع العدو من بلاد الإسلام ورفع كابوسه عن الأمة الإسلامية. لأن العداء الفكري للرأسمالية وفساد وجهة نظرها في الحياة وفي السياسة قد ظهر للناس جميعاً. وإن عملاء أميركا وغيرها من الدول الكافرة المستعمرة قد فُضِحوا ولم يَعُد ينطلي تضليلهم حتى أتباعهم والمنتفعين منهم. بل إن أركان قواعد الكافر المستعمر التي حاول أن يجعلها رأس جسر له مثل إسرائيل ولبنان قد تزلزلت. يقول تعالى: (يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ @ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران: 196 ـ 197).
والسؤال الذي نطرحه بعد بيان واقع التحدّي بين الإسلام والرأسمالية هو: هل إن معركة الأمة بقيادة أحزابها المخلصة لإقامة الخلافة تقف فقط عند هذا المستوى الفكري ـ السياسي؟
5- قيادة المعركة: في الواقع وكما سبق أن أشرنا آنفاً إن تاريخ أمتنا محكوم بصراع دائم بين الإسلام والكفر في إطار سنّة التداول على مركز القيادة. ولئن كانت الغلبة اليوم عسكرياً وتكنولوجياً للكفار فإن النصر حتماً للإسلام إن شاء الله. ولئن كان الصراع حالياً بين الإسلام والكفر يأخذ بُعداً فكرياً سياسياً فبإقامة دولة الخلافة يُضاف إلى هذا الصراع بعدٌ حربيٌ وجهاديّ. ذلك أن ما يتشوق إليه المسلمون هو أن تتحول وزارات «الدفاع» في بلادهم إلى وزارة «الحرب». وهو ليس تحولاً اسمياً البتة. إنه تحول نوعي في واقع الدولة والأمة. وهو تحول استراتيجي في مهمة الدولة وسياستها الخارجية. ذلك أن الدولة الإسلامية دولة مبدئية. وعملها الأصلي هو حمل الدعوة الإسلامية إلى العالم. فمن المحتّم أن تكون لها مكانة دولية متميزة تؤهلها للتأثير في العلاقات الدولية سواء بالمناورات السياسية أو الفخاخ الدولية أو بالسياسة الحربية.
إن الاستعمار المطبق على العالم لا يمكن مقاومته مادياً فحسب. بل لا بد من إزالة فكرته من الرأي العام الدولي، وذلك حتى يوجد رأي عام عالمي مضاد له في المجتمع الدولي. وعلاج الاستعمار يكون بطرح الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة في ميدان النقاش العالمي، وذلك حتى يقع تغيير المفاهيم المغلوطة وإيجاد المفاهيم الصحيحة عن الحياة في العالم وعند الشعوب الرأسمالية نفسها. فهذه الشعوب تعاني الويلات من تطبيقات النظام الرأسمالي. ولكن حيث أنه لا يوجد بديل ملفت للنظر على الساحة الدولية، فإنها تظل قابعة في السجن الرأسمالي. فالاستعمار وجهة نظر ولن يقضي عليه فعلاً سوى وجهة نظر أخرى صحيحة تحملها دولة مبدئية في الموقف الدولي وهي الخلافة الإسلامية. صحيح أن الرأي العالم الدولي الذي أعقب نشأة الاتحاد السوفياتي أثر على الاستعمار ولكنه لم يقضِ عليه ولم يُضعف وجوده. وكل الذي حصل هو أن الرأسمالية غيرت أسلوبها من استعمار عسكري مباشر إلى استعمار ثقافي واقتصادي وسياسي(1)، والدول التي أخذت «استقلالها» صورياً لا تزال في الواقع مستعمرات للدول الرأسمالية. ولذلك لا سبيل لإزالة الاستعمار إلا بضرب فكرته دولياً وقلع جذوره محلياً. وعمل جبار كهذا لا يمكن أن يقوم به إلا دولة مبدئية هي الخلافة وأمة عريقة هي الأمة الإسلامية.
وإنه مهما تعاظمت قوى الشر واجتمعت، فإن الأمة الإسلامية تحت قيادة الخلافة هي أقوى من تلك القوى وذلك لسببين. أولاً: أن الأمة تملك فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة لا توجد عند غيرها من الأمم. وهي فكرة نضالية ودينامية. وهذه الفكرة التي هي القوة الروحية والسياسية للأمة تخيف الرأسمالية وتقضّ مضجعها. ثانياً: إن الأمة تملك من القوى المادية (بشرية وطبيعية…) ما لا يملكه سواها. وهي قوى هائلة بالمقارنة مع ما يوجد في مناطق الدول الرأسمالية الكافرة. إن وجود هذه الثروات الفكرية والمادية في الأمة سيجعل مهمة الدولة الإسلامية القائمة قريباً بإذن الله هي تحويل هذه الثروة إلى ثورة فكرية سياسية ومادية صناعية تحدث انقلاباً جذرياً ونوعياً في ميزان القوى الدولي.
إن الأمة الإسلامية وهي تقرأ الكتاب والسنة والسيرة النبوية لا شك أن السياسة أو الحرب لا تكون من معارفها فحسب ولا من حاجاتها فقط وإنما تكون أفكاراً من عقيدتها وأحكاماً من شريعتها، بحيث أنها تكون متغلغلة في حنايا نفسها ومتأصلة في دمها وجزءاً من تكوينها. ولذلك فمن الطبيعي أن تكون الأمة الإسلامية تربة خصبة تنبت المفكرين والمجتهدين والمبدعين. وهي فوق ذلك تنبت الرجال السياسيين الذين يحكمونها بالإسلام ويحملون رسالته إلى العالم لإخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ولتحريرهم من ظلام الكفر وتنويرهم بهدى الإسلام.
6- الخاتمة: مما لا شك فيه أن التمكين لدين الله في الأرض بإقامة الخلافة الإسلامية لنهضة الأمة واستئناف الحياة الإسلامية منحة من الله سبحانه وتعالى. وهو كذلك أمر يتوقف على حَمَلَةِ الدعوة. فهم الذين يعملون للتغيير على أساس الإسلام. إلا أنه يجب أن يكون واضحاً عند العاملين للإسلام وبالتدقيق عند التكتل السياسي الإسلامي أن إقامة الدولة الإسلامية وتحقيق النهضة لا يتمان بدون الأمة. كما يجب على الأمة أن تدرك يقيناً أن سبب نهضتها لا يكون إلا بهذا التكتل السياسي. فالحزب السياسي والذي هو كيان فكري فاعل يمدّ الأمة بالمفاهيم والمقاييس والقناعات الإسلامية، والأمة التي هي صاحبة السلطان تنيب عنها الدولة لترعى شؤونها طبق هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات. إلا أن الأمة لا تسلم قيادتها للحزب السياسي المخلص ولا تتحرك معه للتغيير إلا إذا أدركت أمرين: أولاً: أن تحقيق التغيير يعود عليها بالمصلحة. ثانياً: أن تحركها لهذا التغيير يوجد فيه قابلية النجاح. والأمة الإسلامية باتت تدرك يقيناً أن مصلحتها تكون استئناف الحياة الإسلامية، وهي تدرك أيضاً أن نجاح القيادة الإسلامية الفكرية والسياسية في رعاية شؤونها هو نجاح منقطع النظير. فتاريخ هذه الأمة حافل بالشواهد الكثيرة.
هذا هو قانون تغيير الشعوب. وهو قانون عام يشمل كل أمة من الأمم. لذلك كان سقوط الاتحاد السوفياتي والدول الدائرة في فلكه أمراً طبيعياً للأسباب التي حاولنا بيانها في هذا المقال. فالحزب الشيوعي الذي كان يُغذي الدولة بالأفكار اللازمة لرعاية الشؤون، فَقَدَ ثقة الأمة الشيوعية به. ذلك أن القيادة الفكرية الشيوعية لم تعد صالحة ولم تعد فيها قابلية النجاح عند رعاية الشؤون. أما الرأسمالية هي سائرة إلى الزوال بحكم عجزها الفكري والسياسي عن رعاية شؤون أممها في الداخل والخارج. وهو ما يفسر الفشل الذريع الذي تعانيه الأحزاب التقليدية في أوروبا وأميركا. واضطراب البرامج السياسية لهذه الأحزاب هو الذي يفسر الصعود المتنامي للأحزاب اليمينية المتطرفة. لذلك تتحيل الرأسمالية على شعوبها من خلال تلهيتها «بانتصارات» في سياساتها الخارجية ومن خلال استغلال «مشكلة» المهاجرين في الداخل. وذلك حتى تصرف الناس عن التفكير في وضعها الداخلي الآسن والمتأزم. وتعمل الرأسمالية عن طريق عملائها في منطقتنا للحيلولة دون سقوطها، على محاربة الأحزاب الإسلامية المخلصة وتنفير الأمة منها. وذلك حتى تشغل هي بعض الأحزاب والشخصيات ذات المظهر الإسلامي وترويضها أو إدخال بعض الترقيعات التسكينية على دول المنطقة. وبهذا الشكل تحاول أن تنفس مشاعر الأمة وتمتص غضبها ونقمتها على الكفر والاستعمار.
ومن هنا لا بد للتكتل السياسي المخلص القائم على أساس الإسلام أن يكون واعياً سياسياً على مشاكل أمته مدركاً لحلولها قادراً على قيادة الأمة إذا ما أتيح له أن يرعى شؤونها بالإسلام. كما أنه لا مفر للأمة من أن تلتف وراء هذا الحزب لتخوض بقيادته صراعاً فكرياً يحطم أفكار الكفر وكفاحاً سياسياً يكشف مؤامرات الكفار. وهذا هو الطريق السياسي الوحيد لإقامة الخلافة واستئناف الحياة الإسلامية ونهضة الأمة c
1993-01-08