مستقبل الرأسمالية (2)
1992/12/08م
المقالات
2,543 زيارة
يوسف عبد ربه ـ بروكسل في أيار (ماي) 1992
3- أسباب تأخر سقوط الرأسمالية
بتتبع الأسباب التي تقف وراء تأخر سقوط الرأسمالية نجد منها أسباباً نابعة من المبدأ نفسه مثل فكرة الحل الوسط وفكرة النفعية، وأسباباً أضيفت إلى المبدأ، وليست من جنسه، كي تحافظ عليه في وجه هزات الواقع، مثل الترقيعات الكثيرة ومثل تغيير شكل الاستعمار ومثل فكرة النظام الدولي. وسنحاول بيان ذلك بإيجاز فيما يلي:
1- وسطية الحل: لقد قام المبدأ الرأسمالي على أساس الحل الوسط، لا بين الدين والعلم بل بين رجال الدين والعلماء. فهو حل ترضية بين الطرفين. وليس حلاً آيتاً من البحث العقلي الجاد في واقع الدين من حيث هو وواقع العلم أو الفكر من حيث هو. ومن هنا كان الحل الرأسمالي لمشكلة العقيدة بفصل الدين عن الحياة ولمشكلة المجتمع بفصل الدين عن السياسة حلاً فردياً لا حلاً إنسانياً. وانطلاقاً من فردية الحل، ترك المبدأ الرأسمالي متنفساً ضئيلاً يهرب إليه الفرد عندما تضيق عليه الدنيا وتخنقه الأزمات العقيدية والمجتمعية. ويُعتبر هذا المتنفس إشباعاً جزئياً وضئيلاً لبعض غريزة التدين المفطورة في الإنسان. ورغم هامشية هذا المتنفس فإنه يحمي، إلى حين، سور الفكر الرأسمالي من السقوط، إذ بسبب هذا المتنفس ترك الفكر الغربي الباب مفتوحاً أمام كل التفسيرات الممكنة للوجود ولو كانت خاطئة ومستحيلة.
2- مقياس النفعية: انطلاقاً من هذا المتنفس العقيدي انبثق مقياس الأعمال في الفكر الرأسمالي. فبوجود هذا المقياس وهو النفعية، نفهم لماذا تستمر الرأسمالية رغم ازدياد ظلمها السياسي للشعوب وبشاعة استغلالها لخيرات الأمم. إن النفعية سواء سُميت بالبراغماتية اقتصادياً، أو بالميكافيلية سياسياً، تعتبر حافزاً غريزياً للحفاظ على المبدأ الرأسمالي. فمن حرية الملكية إلى حرية العمل، ومن الحرية الشخصية إلى حرية الرأي، يأخذ الفرد منها ما يراه نافعاً ويترك ما يراه ضاراً. فالنفعية هي الحافز لتحقيق جميع الحريات. وهي الدافع للفرد كي يحقق مثله الأعلى في الحياة، أي نوال أكبر قدر ممكن من المتع الجسدية. وحيث أن النفعية لا حد لها في الإشباع وتدفع الناس للصراع على السلع والخدمات، كان لا بد من تقنينها بجهاز. ومن هنا صار الثمن هو الجهاز المنظم لكل الحريات والمنافع طبقاً لقانون العرض والطلب. إلا أن المشكلة أن من لا يملك ثمناً كافياً لا يتمتع جيداً. ومن يملك الثمن يحتكر كل المنافع. فصار حتى هذا الجهاز المنظِم خطراً على المبدأ نفسه. فكان لا بدّ من تقييده أيضاً. وبذلك دخلت الرأسمالية مرحلة الترقيعات للحيلولة دون سقوطها المبكر.
3– إدخال الترقيع: دخل الترقيع في المبدأ الرأسمالي من خلال ما يسمى باشتراكية الدولة والعدالة الاجتماعية. فأما اشتراكية الدولة فقد ظهرت في أوروبا في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر. تبنتها أحزاب اشتراكية اسماً (روبيرت أوين في إنكلترا وسان سيمون بفرنسا) لتقف في وجه الأحزاب الاشتراكية الحقيقية، سواء منها التي تنادي بالإلغاء الكلي للملكية الخاصة أو التي تنادي باشتراكية رأس المال أو الاشتراكية الزراعية، واشتراكية الدولة تعني إدخال التأميم لبعض القطاعات الحساسة في المجتمع مثل البنوك والمواصلات، ووضع حد أدنى للأجور وحد أقصى للربح، مع إعطاء حق التجمع السياسي والنقابي للدفاع عن العمال. أما العدالة الاجتماعية فقد ظهرت خاصة في النصف الأول من القرن العشرين بعد نجاح الحزب البلشفي في الوصول إلى السلطة بروسيا. وهي تعني نظاماً معيناً يتلخص في مجانية التعليم والتطبيب للفقراء وضمان حقوق العمال والموظفين.
أما لماذا وُجدت هذه الترقيعات والضمانات الدخيلة على المبدأ الرأسمالي كما حدد معالمه الاقتصادية خاصة آدم سميث وريكاردو فسبب ذلك ما يلي: إن اشتراكية الدولة والعدالة الاجتماعية ظهرتا في النظام الرأسمالي كعلاج طارئ غير أصيل للمظالم الناتجة عن تطبيق الحرية الاقتصادية المطلقة. فهذا العلاج ـ المُسَكِّن هو رد فعل رأسمالي على الاشتراكية الحقيقية وسور حماية للرأسمالية من السقوط والاندثار. وبفعل هذه الترقيعات لم تزدد الرأسمالية إلا انتشاراً وقوة على التحكم والاستغلال، بل إن شعوبها استساغت ظلمها خاصة بعد فشل الشيوعية وسقوطها، وفي ظل الغياب من الساحة العالمية للدولة الإسلامية التي تصارع الرأسمالية وتصرعها.
4- تغير الاستعمار: إن تغير شكل الاستعمار يعتبر من الأسباب المساعدة على تأخر سقوط القيادة الفكرية والسياسية للرأسمالية عن كرسيها رغم أن الدود قد نخرها ولا يزال منذ مدة طويلة. إن الاستعمار هو طريقة نشر المبدأ الرأسمالي في العالم. وقد كان أسلوبه في البداية هو الاحتلال العسكري المباشر. كانت الرأسمالية تغطي هذا الاحتلال تحت أسماء الحماية والانتداب والوصاية. إلا أنه مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين كانت المنطقة الإسلامية خاصة، تشهد انجلاءً للوجود العسكري الرأسمالي من على أراضيها. إلا أنها دخلت تحت استعمار جديد أشد خطورة وأكثر هولاً من الاحتلال العسكري: إنه الاستعمار السياسي المتمثل خاصة في عمالة الحكام والأحزاب، أي كل الفئات الحاكمة. إنه الاستعمار الاقتصادي المتمثل خاصة في السيطرة على المواد الأولية عبر ربط المنطقة بنظام نقد دولي محكم الهيمنة. إنه الاستعمار الثقافي المتمثل في رسم سياستي التعليم والتوجيه على نمط غربي يسهر على توطيده عملاء في الفكر والتعليم والدين. ومما زاد الطين بله واقع التجزئة الوطنية والإقليمية الذي ترزح تحت نيره الأمة بعد سقوط الخلافة العثمانية على يد هذه الرأسمالية الكافرة.
5- النظام الدولي: ومما زاد في طغيان المبدأ الرأسمالي وعلوه في الأرض وإفساده فيها ما يُسمى بالنظام الدولي أو السلام العالمي. وحتى نفهم أسباب تأخر سقوط الرأسمالية لا بُد أن نتعرف على سبب نشأة النظام الدولي وعلى واقعه الحالي. ذلك أن هذا النظام بات أسلوباً دائمياً تعتمده الرأسمالية للحفاظ على كيانها ولإطباق هيمنتها على العالم.
إن الخلافة العثمانية بعد أن تسلّقت أسوار «روما» تتطلع بشوق إلى الفاتيكان علّها تحقق نبوءة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بفتح روما بعد القسطنطينية، انبرت الدول الأوروبية خاصة إنكلترا وطلعت على العالم بفكرة السلام العالمين وقد عملت على إيجاد رأي عام دولي لهذه الفكرة. كان هدف الرأسمالية من هذه الدعاية إبتداءً هو إيقاف زحف الجهاد والدعوة الإسلامية. فلما توقف الزحف أصبح السلام العالمي يعني استرداد الأراضي الأوروبية التي فتحتها الدولة العثمانية. فلما استردت هذه الأراضي واستقلت سياسياً بفصلها عن الأستانة صار السلام العالمي هو الطمع بما تبقى من تركة «الرجل المريض». ومع بداية القرن العشرين وبسقوط الدولة العثمانية بات السلام يعني توزيع هذه التركة كمناطق نفوذ للدول الرأسمالية المنتصرة في الحرب.
ورغم تغير المتزعمين للنظام الدولي فإن واقعه بقي هو هو: أي إضفاء الشرعية الدولية على الاستعمار بكل أشكاله للمحافظة على مصالح الرأسمالية. ولتوضيح هذا الواقع سوف نتتبع أبعاد النظام الدولي كما تنادي به أميركا بعد انتصارها على حكام العراق. أولاً: التدخل في سيادة الدول التي تشق عصا الطاعة للقيادة السياسية الرأسمالية أو تهدد حضارتها وقيادتها الفكرية. وذلك ضمن ما سمته أميركا بالترتيبات الأمنية في المنطقة. ثانياً: السيطرة على أسلحة الدمار الشامل (الجرثومية والكيماوية والنووية) وتنظيم تدفق الأسلحة التقليدية إلى مناطق النفوذ. وذلك بما يبقي السبق العسكري الإسرائيلي وبما يحفظ كيان الحكومات القائمة في العالم الإسلامي. ثالثاً: ضمان تدفق الأموال والثروات خاصة البترول وتنظيم توزيع الأسواق في المنطقة لاستهلاك السلع الأجنبية. كل ذلك بما يخدم مصلحة أميركا ويُبقي لها السبق على أوروبا واليابان للسيطرة على العالم. وما مؤتمر الصلح والسلام مع إسرائيل إلا حلقة من هذا التنظيم للأموال. وذلك من أجل إرساء تعاون اقتصادي علني بين إسرائيل ودول المنطقة بهدف ترويض عقل الأمة ونفسيتها لتقبل سياسة الأمر الواقع أي مبادلة الأرض بالسلام أو حتى مقايضة السلام بالسلام. وليست منظمة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والشركات العالمية وغيرها من الجمعيات الدولية والإقليمية سوى أدوات سياسية ومالية لإضفاء الشرعية للسيطرة السياسية والنهب الاقتصادي اللذين تمارسهما الرأسمالية في العالم.
والسؤال الذي نطرحه بعد هذا البيان لأسباب تأخر سقوط الرأسمالية هو: هل هذا الاستكبار الرأسمالي «قَدَر» لا يُرجى الفكاك منه أم أنه واقع سياسي يخضع ـ رغم جبروته ـ وكبقية الوقائع السياسية والتاريخية إلى سنة التداول وإلى قانون الصراع بين الحق والباطل وبين الإسلام والكفر.
4- أسباب حتمية سقوط الرأسمالية: إن تغير موازين الصراع وتبدل مواقع القيادة سنة الله التي لا تحابي هذه الأمة في تاريخها منذ انبثاق فجر الإسلام. والمعادلة الوحيدة التي تحكم تاريخ أمتنا الإسلامية هي معادلة الصراع بين الإسلام والكفر. يكون الصراع فكرياً تارة ودموياً تارة أخرى. وستظل هذه المعادلة ـ الحقيقة تتجدد طالما كان ثمة إسلام وكفر ومسلمون وكفار. وبناءً على هذه المعادلة نُسجل بارتياح حَذِر أننا نقف على أعتاب مرحلة احتضار الحضارة الغربية وترنّحها للسقوط وميلاد الحضارة الإسلامية وتأهبها للسيادة. فما هي أعراض موت الحضارة الرأسمالية ومن ثم حتمية سقوطها؟ وما هي بوادر استئناف الحياة في الحضارة الإسلامية ومن ثم حتمية انتصارها؟
سنبدأ بالإجابة عن السؤال الأول، والإجابةُ عن السؤال الثاني في المحور الأخير.
1- خطأ الوسطية: إن المبدأ الرأسمالي وإن ترك متنفساً للفرد في حله للعقدة الكبرى المتعلقة بالسؤال حول الوجود والمصير، إلا أنه متنفس خاطئ لا يحل مشكلة الفرد فضلاً عن عجزه أن يحل مشكلة الإنسان أو الأمم. ذلك أن فطرة التدين عند الإنسان كما تبرز في التقديس للخالق تبرز في التدبير لشؤون الحياة. بحيث أن التدين كما يُشبع بالعقائد ونظام العبادات يُشبَع كذلك بنظام الحياة والمعاملات. فعجز الإنسان واحتياطه للخالق المدبر لا يظهر فقط في علاقة الإنسان بربه أو بنفسه بل يظهر جلياً في علاقة الإنسان بالإنسان. ويتأكد حضور هذا الاحتياج للخالق المدبر في هذه العلاقة بالذات، وذلك نظراً لتعقد علاقات بني الإنسان وتطور وسائل إشباعه لحاجاته وغرائزه. فإقصاء الدين عن الحياة عموماً وعن السياسة خصوصاً مخالفة لفطرة الإنسان. ومن هنا كان المبدأ الرأسمالي مخفقاً من ناحية فطرية وعقلية لقبوله بالوسطية في أمر خطير يحدد معنى وجود الإنسان في الحياة الدنيا ونمط سلوكه فيها. لذلك كانت القيادة الفكرية الرأسمالية سلبية بجعلها الدين مسألة فردية وبإبعاده عن حل مشاكل الإنسان في الحياة.
2- وضعية النظام: انطلاقاً من فردية الحل لمسألة العقيدة صار الإنسان في المبدأ الرأسمالي هو الذي يضع نظامه في الحياة ويحدد مثله الأعلى فيها. إن كان نظام مجتمعي يُشرعه الإنسان يكون عرضة للتناقض والتأثر بالبيئة، لذلك فليس غريباً ما نراه من فراغ روحي يعصف بالإنسان الرأسمالي، وليس غريباً أيضاً ما نشاهده من تنقيحات دائمية للدساتير والقوانين الوضعية في محاولة لإخفاء عجزها عن حل مشاكل الإنسان. إن الرأسمالية الآيلة إلى الزوال والشيوعية المنهارة يتفقان سوياً في أن الإنسان هو الذي يضع نظام حياته بنفسه. ويتفقان أيضاً أن المثل الأعلى للإنسان والسعادة عنده تكون عبر الأخذ بأكبر نصيب ممكن من المتع الجسدية. إن مثل هذا المثل الأعلى ومثل هكذا مفهوم عن السعادة هما جملة ما أودى بحياة الشيوعية. وهما من جملة ما سيُؤدي بحياة الرأسمالية. فبجعل المتع الجسدية مثلاً أعلى في الحياة صار الإنسان لاهثاً هستيرياً وراء إشباع غرائزه وحاجاته العضوية. ولكن بحكم تناهي المثل الأعلى الذي يضعه الإنسان ومحدوديته يقف الرأسمالي أمام وضعين رهيبين: أولاً: إذا تمكن من الإشباع الكلي لحاجاته وغرائزه بحكم توفر الثمن له، فإنه يصبح معَرَّضاً للعيش في فراع مقيت يؤدي به إلى الانتحار أو الشذوذ أو على أقل تقدير إلى رتابة الحياة وتفاهتها. ثانياً: وفي صورة عدم امتلاكه للثمن الكافي فإنه لا يستطيع إشباع حاجاته إشباعاً كاملاً. وهذا أمر غالباً ما يدفعه إلى اليأس والإحباط وكل الأمراض النفسية والعصبية التي تدرسها أبحاث النفس والتربية. وقد يَرُدّ بعض الرأسماليين الفعل في محاولة لنسيان الوجود والهروب من المجتمع وأزمة الحضارة الغربية من خلال الجريمة والمخدرات والهامشية في حركات الهيبز والبنكس.
3- الأزمة الاقتصادية: إن تصاعد نسب الإجرام والمخدرات ومرض الإيدز والهامشية… في العالم الغربي يعبر عن الأزمة الخانقة للفكر الأساسي للرأسمالية. ولئن استطاع هذا الفكر أن يُنهض الغرب سابقاً إلا أن هذه النهضة خاطئة، وسبب ذلك أن هذا الفكر لم يكن أساسه روحياً، ولم يُبنَ على العقل، ولم يوافق الفطرة في حلّه للعقدة الكبرى. وحتى التقدم الاقتصادي والصناعي الذي جسّد مادياً هذه النهضة فإنه بدأ يدخل مرحلة الأزمة الحرجة من تاريخ الرأسمالية.
تبدو معالم هذه الأزمة من خلال أهم القطاعات الإلكترونيك والكومبيوتر. لقد نشأ هذان القطاعان بعد الحرب العالمية الثانية. ولئن حافظا على نمو مطرد، ولم يتعرضا إلى التقلبات والأزمات الدورية التي مرت بها صناعات أخرى مثل السيارات والكهرباء والكيمياء، إلا أنه إثر حرب الخليج وما تبعها من نظام دولي ضبط بيع الأسلحة ذات الدمار الشامل والتقليدية دخل هذان القطاعان كبقية الصناعات الأخرى في مرحلة حرجة. وما الأزمة التي تمر بها شركتا «جنرال موتورز» و«إ.ب.أم» (I.B.M) واختفاء شركة «بان أميركان» إلا مظاهر لهذه المرحلة الحرجة. وهذا ما دفع الكثير من الشركات والبنوك الصغيرة في أوروبا وأميركا واليابان أن ينضم بعضها إلى بعض، أو تنضم إلى مؤسسات مالية وتجارية كبرى حتى تهرب من الإفلاس والعجز وتستطيع مواجهة تحديثات الأزمة الاقتصادية.
إن تراجع النمو الاقتصادي في الدول الرأسمالية أصبح أمراً يقلق ساستها. فهذه أميركا تعاني عجزاً كبيراً في الموازنة وانخفاضاً هاماً في الصادرات وفقداناً للقدرة على المنافسة. أما استراليا وبريطانيا وكندا وفرنسا فحالها أسوء من أميركا. بقيت اليابان وألمانيا. فإنهما تشهدان نمواً بطيئاً بحكم عالمية الأزمة وارتباطهما برؤوس الأموال والشركات الأميركية، فخلال عام 1991 نما كل من الاقتصاد الياباني والألماني بنسبة 1,5% وهو أمر يخيف كثيراً بال الإدارة الأميركية ويؤثر على وضعيها الدولي والداخلي؛ لهذه الأسباب سعى جورج بوش إلى عقد اتفاق مع اليابان يقربها من أميركا ويبعدها عن أوروبا. فما كان من جاك ديلور رئيس السوق الأوروبية المشتركة إلا سارع إلى زيارة اليابان لتحقيق تعاونها مع أوروبا وحتى لا يوجد مجال لتمايز أميركي ـ ياباني. ومما يريد في قلق السياسة الاقتصادية الرأسمالية هو الاضطرابات الاقتصادية الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفيتي وما تبعه من تزايد خلل اقتصاديات دول أوروبا الشرقية.
والنتيجة التي نخرج بها من تحليل أبعاد الأزمة الاقتصادية التي تخنق العالم الرأسمالي هي التالية: إذا كان النظام الاقتصادي الرأسمالي هو أبرز ما نتج عن عقيدة هذا المبدأ، وبما أن الحكم في الغرب يقوده عملياً رؤساء الأموال، فإن سقوط القيادة السياسية والفكرية للرأسمالية مرتبط إلى حد كبير باستمرار الأزمة الاقتصادية وتفاقمها. وهذا ما تدركه الدول الرأسمالية أيّما إدراك. وإلا فما معنى هذا السباق الهستيري والصراع المحموم بينها على مناطق النفوذ والثروات في العالم عامة وفي المنطقة الإسلامية خاصة.
4- الصراع بين الرأسماليين: إن الصراع بين الدول الرأسمالية يأخذ تارة بُعداً اقتصادياً وتارة أخرى بُعداً سياسياً. وهما بُعدان يعكسان حقيقة الأزمة التي تعيشها الرأسمالية. وحل هذه الأزمة يكون عندنا باحتلال مقعد الدولة الأولى للسيطرة على الثروات والأسواق والمواد الأولية. إن مبدئية الدول الرأسمالية لا تمنعها أن تتعامل فيما بينهما وفق المصالح القومية والوطنية. وهذا أمر طبيعي ناتج عن المبدأ نفسه. فالنفعية هي مقياس لكافة الأعمال المتعلقة بالفرد والدولة والمجتمع. لذلك تعتبر الثروة البترولية الهائلة الموجودة في منطقتنا هي سبب الصراع بين أميركا وأوروبا عموماً، خاصة بعد اندحار الشيوعية وسقوط الاتحاد السوفياتي من الموقف الدولي. ومن هنا تعمل أميركا على كسر شوكة بريطانيا وفرنسا وتسعى للحيلولة دون صعود اليابان وألمانيا للتأثير في الموقف الدولي بما لهما من وزن اقتصادي هام.
لهذا نفهم سبب السرعة الصاروخية التي أخذ بها قرار جعل جمهورية روسيا تخطى بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن والتمتع بحق الفيتو. وهو قرار أخذته أميركا وبريطانيا بسرعة جنونية حتى لا يُوجد مجال للنقاش حول المفاضلة بين الجمهوريات السوفياتية. وكذلك حتى لا يُفتح المجال أمام ألمانيا واليابان للمطالبة باحتلال مقعد دائم مع حق النقض في مجلس الأمن؛ خاصة وأنهما يتمتعان بوزن اقتصادي قد يؤثر على السياسات الأميركية مستقبلاً. فهذا الصراع الأميركي ـ الأوروبي ـ الياباني اقتصادياً يُخفي رغبة سياسية من جانب أوروبا وبريطانيا خاصة لاحتلال مقعد الصدارة السياسية في العالم، ولملء الفراغ النتاج عن غياب الاتحاد السوفياتي عن المسرح الدولي. فأميركا التي أعانت أوروبا عبر مشروع مارشال وباركت تكاملها الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية لتقف في وجه الاتحاد السوفياتي، تخشى اليوم أن يقود هذا التكامل الاقتصادي للبيت الأوروبي إلى تكامله السياسي. وهو أمر يُهدد السلام العالمي كما تريده أميركا. لذلك فهي تحاول لعب دور الشرطي المنفرد رغم ما تكلفها هذه السياسة من نفقات كبيرة تزيد في أزماتها الداخلية.
إلا أن الصراع الأميركي ـ الأوروبي لا يُفهم على حقيقته إلا بالتعرض لموقع بريطانيا وموقفها من الوحدة الأوروبية السياسية والمالية. فما نعلمه أن بريطانيا ضد الوحدة الأوروبية. لأن هذه الوحدة تقتل حلمها الإمبراطوري القديم. إلا أننا نعمل كذلك أنها تريد تقوية نفسها بأوروبا الموحدة للوقوف في وجه المارد الأميركي.
5- واقع القوميات: أظهرت حرب الخليج أن هناك صراعاً اقتصادياً وسياسياً بين الدول الرأسمالية، والحرب اليوغسلافية كشف عن الصراع العرقي والسياسي الذي يهدد أوروبا. وهذا ما يجعل البيت الأوروبي الكبير كما حلم به شارل ديغول من الأورال إلى الأطلسي قابلاً للانفجار بفعل تعدد القوميات. إن الوحدة الأوروبية المرتقبة مالياً وسياسياً لم تمنع سريان حركة القوميات فيها. بل يمكن القول أن الوحدة الأوروبية تسعى لاحتواء هذه القوميات والأعراق في محاولة يائسة للحيلولة دون انفجارها ومطالبتها بالانفصال والاستقلال. فالدلو الأوروبية الكبرى تهددها حركات قومية انفصالية. وذلك ابتداءً من جمهوريات أشلاء الاتحاد السوفياتي المنهار، مروراً بفرنسا (كورسيكا) وبريطانيا (أيرلندا الشمالية) وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا… ووصولاً إلى ألمانيا التي تحلم بعودة دولة الرايخ الكبرى. بل إن أميركا التي تحاول إحكام هيمنتها على أوروبا بأساليب كثيرة منها استغلال هذه القوميات (كما يظهر في تعاملها مع الحرب اليوغسلافية)، تعاني صراعاً تاريخياً وعرقياً بين البيض والسود. وما أحداث لوس أنجلوس الأخيرة إلا تعبير عن هذا الصراع العرقي القديم انطلاقاً من أزمة حقوقية وقانونية.
يمكننا القول أن حرب الخليج والحروب اليوغسلافية وانتشار القوميات في كامل أوروبا وأميركا، أمور يمكن أن نستشف منها ما سكون عليه النظام الدولي الجديد. فنستطيع القول أن هذا النظام الدولي الجديد يحمل في طياته صراعاً اقتصادياً حاداً على المنافع والثروات وصراعاً سياسياً مستعراً على زعامة العالم. وهو أمر ممكن جداً في ظل الفراغ السياسي الناتج عن سقوط الاتحاد السوفياتي وفي ظل الفراغ الاستراتيجي المتولد عن غياب الخلافة الإسلامية. فمثل هذا النظام الدولي يحمل في بذوره إمكانية نسف العلاقات التقليدية بين أوروبا وأميركا عموماً وبين بريطانيا وأميركا خصوصاً. مما يؤذن بإمكانية اختلال كبير في الميزان الدولي للقوى. ولئن كانت بعض الدول الأوروبية أو غيرها من دول العالم ليست مستعدة لمواجهة أميركا في الوقت الحالي، فإن هذا أمر لا يمكن استبعاده في المستقبل المنظور والقريب.
والنتيجة التي نصل إليها بعد معالجة المحاور الثلاثة السابقة هي كما يلي: إن النظام الدولي الذي انبثق بعد سقوط الدول العثمانية ونشأة الاتحاد السوفياتي قد تميز بتزامن بين اشتعال الحرب الباردة وصعود التيار غير الإسلامي (يساري ـ قومي ـ علمان) في منطقتنا. أما النظام الدولي الجديد والمتأتي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتسلّم أميركا مركز القيادة في العالم فقد تميز هو الآخر بتزامن من نوع ثان: إيقاف الحرب الباردة والصعود القوية للتيار الإسلامي. وإذا كان الدفاع الاستراتيجي عند الغرب بعد الحرب العالمية الثانية كان متجهاً أساساً ضد الخطر الشيوعي فإن الدفاع الاستراتيجي اليوم للرأسمالية بعد حرب الخليج (التي يعتبرها بعضهم حرباً عالمية ثالثة) يتوجه بالأساس ضد الخطر الإسلامي. فلا عجب إذن ما نراه من حملة أوروبية ـ أميركية مستعرة ضد الإسلام عقيدة ونظاماً وضد الحركات الإسلامية.
ولكن إلى أي مدى ستصمد الرأسمالية في وجه الصعود المتنامي للإسلام؟ وما هي إمكانيات نجاح القيادة الفكرية الإسلامية في الوصول إلى موقع الشهادة السياسية على العالم في الموقف الدولي؟ هذا ما سنحاول معالجته في القسم الأخير من هذه الدراسة c
(يتبع)
1992-12-08