مستقبل الرأسمالية (1)
1992/11/08م
المقالات
2,437 زيارة
يوسف عبد ربه ـ بروكسل في أياء (ماي) 1992
1- المقدمة
إن الحديث عن مستقبل الرأسمالية ينبع عندنا من السؤال التالي: لماذا سقطت الشيوعية قبل الرأسمالية؟ ومصدر هذا السؤال هو الواقع التاريخي لنشأة كل من الرأسمالية والشيوعية، لقد نشأت الرأسمالية كمبدأ قامت عليه دول ووُجدت على أساسه حضارة ومدنية منذ القرن الثامن عشر. ظل هذا المبدأ ـ مُمَثلاً خاصة بدولة إنكلترا وفرنسا ـ يزاحم الدولة العثمانية؛ التي كانت تُعد الدولة الأولى إلى ذلك الحين. ومع بداية القرن التاسع عشر استطاع المبدأ الرأسمالي أن يشق طريقه للتفرد بقيادة العالم. وتجسدت له هذه القيادة عملياً ـ باقتسامه تركه «الرجل المريض» حسب معاهدة سايكس ـ بيكو، ولا يزال هذا المبدأ يقود العالم الغربي، ويفرض هيمنته السياسية والاقتصادية على العالم؛ جاعلاً من قيادته الفكرية بديلاً حضارياً.
أما المبدأ الشيوعي فقد خرج من طي الكتب إلى ارض الواقع مع الثورة البلشفية التي حصلت في روسيا سنة 1917. فقامت على أساسه منذ ذلك الوقت دولة الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية وما تسمى بدول أوروبا الشرقية. إلا أنه بعد الحرب العالمية الثانية تراجعت كل من إنكلترا وفرنسا عن تزعم العالم الغربي. وخرجت أميركا من عزلتها لتتفرد هي بالقيادة السياسية للمبدأ الرأسمالي. وفي مقابل ذلك أصبح الاتحاد السوفياتي القائد الأول للمبدأ الشيوعي والحامل الأول لقيادته الفكرية. ظلت الدولتان تتزاحمان على قيادة العالم؛ حتى انتهى الصراع بينهما بالتراجع الجبري للاتحاد السوفياتي والانفراد الكلي للولايات المتحدة الأميركية بهذه القيادة.
والنتيجة التي نخلص إليها كالتالي: بدأت الشيوعية في نهاية العشرية الثانية لهذا القرن. وسقطت في بداية عشريته الأخيرة. والمقصود بالسقوط هنا، هو التراجع السياسي من الموقف الدولي والعجز الفكري عن معالجة الرأسمالية. في مقابل هذا السقوط الشيوعي استطاعت الرأسمالية الاستمرار في الوجود السياسي والفكري مدة تصل إلى ثلاثة قرون تقريباً.
وسؤالنا هو التالي: هل هذا السقوط المبكر للشيوعية والبقاء لأطول للرأسمالية دليل على بطلان المبدأ الأول وصحة المبدأ الثاني؟
إن هذا السؤال الفرعي يرتبط عفوياً بالسؤال المحوري الذي طرحناه: لماذا سقطت الشيوعية قبل الرأسمالية؟ ـ ذلك أن ظهور الرأسمالية كقيادة سياسية في الموقف الدولي كان بإزاحتها الدولة العثمانية حاملة المبدأ الإسلامي. ورغم عدم وجود دولة تقوم على الإسلام عقيدة ونظاماً في الوقت الحالي، فإن شعوباً كثيرة تعتنقه. وهي تتأهب من جديد لتجعل منه قيادة سياسية وفكرية بديلة للقيادة الشيوعية والقيادة الرأسمالية.
لذلك فإن محاولة المعالجة للسؤال الأساسي ستكون عبر محاور أربعة:
-
أسباب السقوط المبكر للشيوعية.
-
أسباب تأخر سقوط الرأسمالية.
-
أسباب حتمية سقوط الرأسمالية.
-
حتمية عودة البديل الإسلامي.
2- أسباب السقوط المبكر للشيوعية
عن قول الشيوعيين أن الرأسمالية تحمل في ذاتها بذور فنائها، هو قول ينطبق على الرأسمالية بقدر ما ينطبق على الشيوعية نفسها. فرغم أن المبدأ الشيوعي وُجد كعلاج لطغيان الرأسمالية إلا أنه أخفق فزاد الطين بلة. وسبب إخفاق الشيوعية ومن ثم سقوطها يعود إلى المبدأ نفسه وإلى احتكاك المبدأ بالواقع عند التطبيق سواء في المجتمع أو في الموقف الدولي، وبيان ذلك ما يلي:
1- مادية الوجود: إن المبدأ الشيوعية بُني على المادة لا على العقل في حلة للعقدة الكبرى المتعلقة بمعنى الوجود والمصير. وحله هذا كان رد فعل على رجال الدين وعلى المبدأ الرأسمالي الذي أقر وجودهم في زاوية ضيقة من المجتمع. فهو حل انفعالي حقود؛ وأن تلبس بلبوس العلم والفكر. فقد افترض الفكر الشيوعي أن الكون والإنسان والحياة مادة. ثم ذهب يبرر قوله بمصادرة رهيبة للعقل ومسلماته. كانت نتيجتها تدنيس الدين من حيث هو ومن ثم محاربة كل من يقول بأن الكون والإنسان والحياة مخلوقة لله. فمثل هذا الفهم «الرجعي البرجوازي» على حد قول أصحاب المبدأ الشيوعي يخدر المجتمع ويعيق الحضارة. وسبب القول به كما يرى «انفلز» هو الجهل بقوانين الطبيعة والخوف من المجهول: وبما أنه لا مندوحه للإنسان من التقديس والعبادة، فقد أشبعت هذه الطاقة ـ شذوذاً في تقديس الدولة وعبادة الزعماء.
2- عدمية النظام: إلا أن هذا الشذوذ الفكري قد تجاوز العقدة الكبرى إلى العقد الصغرى المتعلقة بكيفية إشباع الحاجات العضوية والغرائز. فكان أن ألغى المبدأ الشيوعي الملكية الخاصة إلغاء مطلقاً، استهلاكاً وانتاجاً، إلا أن لينين تبنى اشتراكية رأس المال أمام ضغط الواقع. ومن ثم خصص هذا الإلغاء المطلق للملكية الفردية بثروات الإنتاج دون الاستهلاك. فكان ذلك أول قراءة تحريفية وترميمية للشيوعية الماركسية. وهو أمر طبيعي لأن المبدأ الشيوعي لم يعالج حقيقة المشكلة بل عالج افتراضاً للمشكلة. فكان حلوله خاطئة، بل خيالية. فهو لم يبحث في الدين من حيث هو، بل أخذ موقفاً مسبقاً من رجال الدين المسيحيين. وهو لم يعالج احتكار الثروة من قبل أصحاب الأموال بل ألغى الثروة امتلاكاً وإنماءً لتهيمن عليها الدولة. وفوق ذلك فإنه لم يعالج الاستبداد السياسي عند الحكام بل جعل من وجود الدولة طريقة إلى إلغائها كلياً. فكان له هذا مخالفة للفطرة وتحديداً لحافز العمل وقتلاً للنشاط الإنساني.
والنتيجة هي التالية: إن الحل الشيوعي للعقدة الكبرى وللعقد الصغرى منافٍ لمسلمات العقل ولفطرة الإنسان. وحيث أنه كذلك، كان لا بد لإلزام الناس العمل بهذا الحل من استعمال الحديد والنار. ومن ثم وقع تكميم الأفواه وقتل الأجساد وكبت المشاعر ومصادرة العقول. أي تدجين الإنسان في مزرعة الدولة المقدسة.
3- استنزاف الاقتصاد: ظل هذا الوقع الإرهابي مخيماً على المزرعة مدة تقرب من السبعين عاماً. وقد تميزت هذه الفترة بنظام مركزية القرار والتخطيط لكل السلع والخدمات من قبل الدولة، وبالملكية العامة لأدوات الإنتاج واعتماد الاتحاد السوفياتي على المستوردات الغذائية. وبما أن الاعتماد يضعف موقفه في السياسة الخارجية ويحول دون تصديه للسياسات الأميركية، كان لا بد من إعادة النظر في المبدأ الشيوعي وفي طريقة نشره. وأولى من حاول ذلك بجدية هو نيكتا خروتشوف. فقد تهجم على المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي سنة 1956 على جرائم ستالين. ونادى بإلغاء ممارسته المتمثلة في التصفية الدموية للمعارضين. هذا على مستوى السياسة الداخلية. أما على مستوى السياسة الخارجية فقد عقد خروتشوف سنة 1961 اتفاقاً مع كيندي، دخل على أثره الاتحاد السوفياتي في سياسة التعايش السلمي مع أميركا. والذي دفع خروتشوف لمثل هذا الاتفاق هو اللحاق الأميركي بالسوفيات في مجال الصواريخ العابرة للقارات والاهتراء الاقتصادي الذي حلفته سياسة التخطيط من قبل الدولة. وبسبب هذا الاتفاق تحول الاتحاد السوفياتي من دولة مبدئية تبشر بتحرير العالم من ظلم الرأسمالية إلى دولة قومية بل قيصرية تسعى إلى المحافظة على كيانها السياسي بالدرجة الأولى. هنا دخل العالم سياسة ما سُمي بالتوازن الدولي.
4- سباق التسلح: لئن تميزت سياسة التوازن الدولي بالدفاع الاستراتيجي، لكنها فتحت سباقاً محموماً ورهيباً نحو التسلح في محاولة لكسر توازن الرعب القائم بين الدولتين. إلا أنه من الجانب السوفياتي فقد تميّز وضع سياستها الخارجية بالسيطرة الكاملة على دول أوروبا الشرقية وبالحد من الخطر الصيني ولو بالتعاون مع أميركا. وبما أن هذه السياسة تتطلب إنفاقاً دفاعياً ضخماً، فإن نتيجتها كانت استنزاف الاقتصاد السوفياتي وإثقال كاهله؛ خاصة مع تعاظم تكاليف تواجد الجيش السوفياتي في أفغانستان. ولذلك ليس غريباً أن يظهر على الساحة السوفياتية شخص اسمه ميخائيل غورباتشوف، فيتبنى سياسة إعادة البناء (البريسترويكا) داخلياً وسياسة الشفافية والتسامح (الغلاسنوست) خارجياً. فكان أول ما قام به على مستوى السياسة الخارجية هو التخلي عن الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية والموافقة على وحدة الألمانيتين وتخفيف العبء العسكري عن دول القارة وتقليل ضخ السلاح إلى دول العالم الثالث وخاصة منطقة الشرق الأوسط. أما في سياسته الداخلية فقد سعى غورباتشوف إلى تحرير القرار المركزي الخاضع لتخطيط الدولة وتحفيز المنافسة بتشجيع القطاع الخاص متجهاً بالاقتصاد السوفياتي نحو اقتصاد السوق الحر.
5- طوباوية النموذج: إن تحليلنا لأسباب سقوط الشيوعية توجه عن قصد إلى الاتحاد السوفياتي دون باقي الدول الأخرى حاملة المبدأ الشيوعي. وسبب ذلك أنه يمثل الحامل الأول تاريخياً وسياسياً للقيادة الفكرية الشيوعية في العالم عموماً وفي الموقف الدولي خصوصاً. وبسقوط هذا النموذج السياسي والفكري سقطت الدول حاملة الفكرة الشيوعية أو الدائرة في فلك الاتحاد السوفياتي. أما الصين الشعبية التي تعتبر دولة مستقلة وتزاحم الاتحاد السوفياتي على الزعامة، فإن مسارها الفكرية والسياسي تأثر كثيراً من جراء انهيار النموذج السوفياتي وفي ظل الواقع الدولي الجديد. فالفكرة الشيوعية فقدت زخمها الفكري وانطفأ شعاعها الأيديولوجي وظهر عوارها للعالم. وسبب ذلك أن الفكرة الشيوعية سواء في الاتحاد السوفياتي أو في الصين أو غيرهما من البلدان لم تعتنقها شعوب هذه الدول وأممها. وإنما اعتنقها أفراد وإن بلغ عددهم الملايين. ونفذت على الناس بالحديد والنار لا بالطوع والاختيار. فالدولة السوفياتية ظلت شيوعية بمقدار تولي الحزب الشيوعي للحكم فيها. وما انطبق على الاتحاد السوفياتي ينطبق على غيره من الدول الشيوعية. فالدولة هنا ليست دولة شيوعية إلى الأبد. فبمجرد سقوط الحزب الشيوعي سقوط الدولة تبخرت الفكرة الشيوعية من الرأي العام وصارت سراباً بِقيعَةٍ في حلم ماركس وطوباوية منهارة في واقع غورباتشوف.
والنتيجة التي نصل إليها بعد تحليل أسباب تداعي الشيوعية وسقوطها هي التالية: إن الاتحاد السوفياتي انسحب من حلبة التنافس على قمة الزعامة العالمية مع أميركا. وسلم لها بأنها أصبحت رأس العالم دون منافس. وقد تجلى ذلك صراحة في إدانته اللامشروطة كبقية دول التحالف الغربي للدخول العراقي للكويت وتأييده لكل قرارات مجلس لأمن الخاصة بأزمة الخليج: قرار الحصار الاقتصادي للعراق وقرار استخدام القوة لإخراجه من الكويت وقرار التعويض عن الأضرار.
هكذا إذن يتقطع حبل الشيوعية الكافرة كي تعود إلى أحضان أمها الرأسمالية. وبخروج الرأسمالية منتصرة في حربها ضد الشيوعية وفي حرب الخليج طلع علينا جورج بوش بخبر ميلاد نظام دولي جديد للعالم تكون قيادته السياسية لأميركا وتكون قيادته الفكرية للمبدأ الرأسمالي حضارة وثقافة. والسؤال الذي يطرحه علينا ميلاد هذا النظام الدولي الجديد هو: ما سبب هذا «الانتصار الساحق» للرأسمالية الديمقراطية ولماذا يتأخر سقوطها رغم انكشاف سوءاتها في خضم هذا «الانتصار»؟ o
(يتبع)
الإمامة:
«رياسة تامة وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، مُتَضَمَّنُها: حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الجَنَف، والحَيْف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين وإيفاؤها على المستحقين»
الإمام الجويني (49 هـ ـ 478 هـ)
(الحوزة: الناحية. الجَنف: الميل. الحيف: الجور والظلم)
1992-11-08