إعداد: محمد أبو وائل
فرض الله على المسلمين الاحتكام للإسلام، وحرَّم عليهم الاحتكام لغيره. قال تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) سورة النساء. وقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) سورة النساء. وقال: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومَنْ يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً) سورة الأحزاب. وفرض عليهم حمل الإسلام للعالم، قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) سورة آل عمران، وقال: (وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به من بلغ) سورة الأنعام. وروى الترمذي عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما جُعل الإمام جنّة يقاتل من ورائه ويُتقَى به». فعرض عليهم نصب خليفة واحد لهم يبايعونه عن رضا واختيار على العمل بكتاب الله وسنة رسوله. فقد روى مسلم عن أبي سعيد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». وحرَّم عليهم أن يُمضوا فوق ثلاثة أيام وليلتين من حليفة. ودليل ذلك فعل الصحابة رضوان الله عليهم، وإجماعهم في اختيار أبي بكر، واختيار عثمان رضي الله عنهما.
وقد جعل الله السلطان للأمة، فهي التي تختار الخليفة، وهي التي تبايعه، وأباح لكل مسلم ذكر عاقل بالغ حرّ عدل أن يرشح نفسه لمركز الخليفة، وأن ينافس عليه غيره. وقد تنافس نفر من المهاجرين والأنصار، كأفراد وكفريق على مركز الخليفة في سقيفة بني ساعدة إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنافس عليه خمسة من الصحابة المبشرين بالجنة إثر وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ولا يقف دور الأمة عند نصب الخليفة ومبايعته، فقد أوجب الله عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه أمر الحاكم بالمعروف، ونهيه عن المنكر، أي محاسبته. وجعل العمل السياسي والكفاح السياسي طريقاً لذلك. قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون المنكر وأولئك هم المفلحون). وروى البخاري عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» وروى مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلّوا» وفي رواية أخرى: «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابعن قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلّوا».
وبتدّبر كل ما ورد نجد أن الإسلام قد أوجب على الأمة الإسلامية العمل السياسي، وحدّد لها أُطره ومحتواه. فالعمل السياسي فرض في إقامة الدولة الإسلامية إن لم تكن موجودة، لأن إقامتها واجب على المسلمين، وبالطريق السياسي، وفرْض في محاسبة الحاكم، وفرْض في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مباح في التنافس على مركز الخليفة، ومراكز الدولة الأخرى التي يجري عليها، مثل العضوية في مجلس الأمة. وقد يقوم بالعمل السياسي أفراد، وقد يقوم به أحزاب. والعمل السياسي من خلال التكتلات والأحزاب فرْض في محاسبة الحاكم، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفرْض في العمل لإقامة الدولة الإسلامية إن لم تكن موجودة. لقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة…) الآية. ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهذا لا يلغي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحاسبة فردياً.
والعمل السياسي من خلال الأحزاب مباح في التنافس على مركز الخليفة وغيره من مراكز الدولة. فقد تنافس عليه نفر من المهاجرين والأنصار إثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كفريق، فذكر المهاجرون فضل المهاجرين، وذكر الأنصار فضل الأنصار للفوز بالمركز. ويقوم العمل السياسي في جميع الحالات على الإسلام، ويحرم أن يكون على غير الإسلام.
ويتوجب على الأمة مقاتلة الحاكم بالسيف إذا كان الإسلام مطبقاً، أي إذا كانت الدولة الإسلامية قائمة، ثم ظهر الكفر البواح. فقد روى مسلم عن عبادة بن الصامت في حديث البيعة: «… وأن لا ننازع الأمر أهله، ثم قال: إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان». كما يتوجب عليها مقاتلته إذا حكمت محكمة لمظالم بعزله فلم يمتثل لحكمها، لأنه لم يعدُ حاكماً بعد صدور حكم المحكمة المختصة بعزله.
ولما اغتصب معاوية الحكم لولده يزيد اغتصب السلطان من الأمة، فتركز السلطان في الخليفة يستخلف من يشاء من ولده وأهله، وأصبح الحكم منذ ئذ ملكاً عضوضاً، وأصبحت بيعة الأمة لإمضاء ما أوصى به الخليفة السابق. وانعدم بذلك التنافس المباح الذي كان أيام الخلفاء الراشدين على مركز الخليفة.
غير أن الأمة لم تسكت على ما قام به معاوية، فقد أنكر عليه ذلك كبار الصحابة وأهل المدينة، إلا أنه بالتهديد وبالوعيد وبالإغراء استطاع أن يمضي ما صمم عليه من البيعة لابنه يزيد. ولما تُوفي معاوية، وبويع يزيد بالخلافة رفض أهل المدينة مبايعته، وخرج عليه الحسين بن علي رضي الله عنه، ثم خرج فيما بعد عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وقد عوقب أهل المدينة على ذلك بمجزرة وقعة الحرة، وقُتل الحسين بن علي رضي الله عنه في زمن يزيد، وقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في زمن عبد الملك بن مروان.
وبعد ذلك فُقِدت المحاسبة الجماعية من الأمة للحكام، كما فُقِد بالتالي الكفاح السياسي بشكل جماعي من الأمة إلا من بعض الجماعات كالخوارج والشيعة، وإلا من بعض الأفراد ممن كانوا يتمكنون من الوصول إلى الخلفاء. إلا أن الخوارج كان كفاحهم السياسي، وإنكارهم للمنكر بالأعمال المادية، فخرجوا على الحكام بالسيف، وأما الشيعة ـ وقد قاموا على أساس سياسي كحزب أو أحزاب لإيصال ذرية علي بن أبي طالب رضي الله عنهم إلى منصب الخلافة والإمامة للمسلمين ـ فقد كان كفاحهم السياسي للحكام يأخذ أسلوب الخفاء، وكانوا يتخذون التقية في علاقاتهم مع الحكام شعاراً لهم، حتى اعتبروها دينهم، ودين آبائهم. وقد استعملوا القوة المادية عندما سنحت لهم الفرصة بعد أن كسبوا إلى جانبهم أبا مسلم الخراساني وجماعته من الفرس مما أدى لإسقاط الحكم الأموي.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه وإن أخذ صفة الشمول في الأمة فقد بقي فردياً، ولم يأخذ الشكل الجماعي فيها. وقد ساعد في تكريس خلو الأمة من الأعمال السياسية الجماعية تطبيق الخلفاء للإسلام، وانصراف المسلمين للجهاد والفتوحات.
وقد قاتلت الأمة الإسلامية منذ الهجرة الأمم والشعوب، وقاتلتها الأمم والشعوب وكانت لا تقعد عن الجهاد، ولا تغفل عن سلاحها، فلا تنام إلا والأيدي على مقابض السيوف، والخيول جاهزة ومسرجة. ومع مرور الأيام تشكلت أعراف وتقاليد للامة الإسلامية. ومضت تلك الأعراف والتقاليد في أن تكون الأمة الإسلامية أمة سيف وجهاد، أمة قتال ورباط، أمة استشهاد وبذل وعطاء، وفي أن لا تكون أمة كفاح سياسي، وعمل سياسي وأحزاب سياسية بالرغم من أن الإسلام قد أوجب ذلك.
ولما أخذت الأحزاب في الآونة الأخيرة في التشكّل، كان من الطبيعي أن تجد صدوداً وإعراضاً من أمة هذه أعرافها وتقاليدها، وبخاصة الأحزاب السياسية، حتى مَنْ نطق منها بفكر الأمة وحسّها، واعترفت الأمة له بالإخلاص، ومما زاد في صدود الأمة وإعراضها قسوة أنظمة الحكم القائمة في كمِّ الأفواه، وفي محاربة ذوي التوجهات السياسية، جماعاتٍ وأفراد، فجعلت من أجهزة أمنها أجهزة قمع وحشي، ومن أجهزة إعلامها أجهزة تضليل وافتراء، ووضعت الناس في دوامات جارفة سحيقة تسلبهم كل قدرة على التفكير السوي، وهكذا جمعت الأمة بين المتناقضات والأضداد، بين الإقدام على طلب الشهادة في الجهاد، والإحجام عن العمل السياسي والكفاح السياسي ومحاسبة الحكام.
وقد تضافرت هذه العوامل لتجعل من العمل السياسي أصعب من حفر الصخر بالأظافر. فهو يحتاج إلى المثابرة والمصابرة وتوطين النفس على المعاناة. فالمثابرة والمصابرة والمحن المتتالية كفيلة بتغيير واقع الأمة، فتجعلها تقنع بأن الكفاح السياسي صنو الجهاد، فتطلب الاستشهاد في جهاد الحكام، كما تطلبه في جهاد الأعداء من الكفار، ومما يوجد الطمأنينة في القلب أن المصائب والمحن التي تُلِمُّ بالأمة جعلتها تقنع بأن مصادر القرار فيها، وأنظمتهم هي سبب البلاء، وأن لا قيمة لأي عمل إن لم يستهدف القضاء على مصدر القرار ونظامه. ومن تباشير ذلك أن الأمة أخذت تتطلع للإسلام وتحلم بعودة نظام حكمه، وسيتحول هذا التطلُّع إلى عمل إن عاجلاً أو آجلاً.
ولما كانت الأمة الإسلامية أمة جهاد واستشهاد فإنها ستنطلق بزخم غير معتاد في غيرها من الأمم من غير مقدمات بمجرد إيجاد نقطة الارتكاز للحكم الإسلامي، كما ينطلق المارد من قمقمه بمجرد رفع السدادة عن القمقم، وذلك فإن الكفر وأركانه وأعوانه وطلاله يتمترسون بكل ما أوتوا من قوة للدفاع عن أنظمة الحكم الحالية في البلاد الإسلامية، والمحافظة عليها، حتى لا يحصل اختراقها. ولا عجب في ذلك، فأنظمة الحكم هذه تمثل خط الدفاع الأول عن الكفر وأنظمته، والقمقم الذي تسجن فيه الأمة. ولكن الله غالب على أمره.
20 من جمادى الأولى 1413 هـ
14/11/1992م