الدعوة إلى الإسلام (12)
1992/08/01م
المقالات
1,940 زيارة
أنه ليس المطلوب شرعاً هو مجرد وجود جماعة، بل المطلوب شرعاً هو إيجاد الجماعة التي من شأنها أن تقيم هذا الأمر. وأدلة وجود الجماعة تبين ذلك.
– ففي قوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أوجب الشرع إيجاد جماعة سياسية مبدؤها الإسلام وتحمل الأفكار والأحكام الشرعية التي تلزم لإقامة الغاية التي وجدت من أجلها وهي الإظهار والتميكن والاستخلاف. فليس المطلوب هو إيجاد جماعة من أجل وجودها فقط، بل لا بد لها من تحقيق ما طلب منها هو (الدعوة والأمر والنهي). وليس المطلوب كذلك (الدعوة والأمر والنهي) من أجل ذاتها فقط وإنما من أجل تحقيق الغاية التي وجدت من أجلها (الدعوة والأمر والنهي) وهي الإظهار والتمكين والاستخلاف.
– وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لثلاثة في فلاة إلا أمّروا عليهم أحدهم» أفاد الشرع أن كل عمل مشترك مطلوب من المسلمين إقامته، لا بد له حتى يقام، من أميرك تكون طاعته واجبة فيما أُمِّر وفيمن أُمِّر ومن جماعة تلتزم بأمر الأمير، حتى تأتي النتائج من هذا العمل المشترك بحسب ما يريده الشرع.
– ولما رأينا أن الله سبحانه وتعالى قد فرض على المسلمين كثيراً من الفروض، وأناطها بالخليفة وحده دون سواء، صار شرعاً لا بد من نصب خليفة لإقامة هذه الفروض. ولما كان نصب الخليفة وإقامة الخلافة لا يقيمه إلا جماعة، صار شرعاً لا بد من وجود جماعة من شأنها أن تقيم الخليفة والخلافة. من باب القاعدة الشرعية: «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب».
وهكذا يتبين أن وجود الجماعة مرتبط بوجود الغاية الشرعية المطلوبة ارتباطاً لا ينفصم، فهي ليست جماعة لكي تقوم بمجرد الدعوة للإسلام. وليست جماعة تبليغ من أجل إقامة الإسلام في حياة المسلمين عن طريق إقامة الدولة الإسلامية التي تعتبر الطريقة الشرعية لتطبيق كل أحكام الإسلام الفردية والجماعة، وعليه لا بد من وجود جماعة من شأنها أن تحقق الغاية التي من أجلها وجدت.
وحتى تعبر هذه الجماعة مستوفية لكل ما هو مطلوب منها كان لا بد لها من:
– التبني لكل الأفكار والأحكام والآراء الشرعية المتعلقة بعملها. وإلزام أتباعها بالتقيد به قولاً وعملاً وفكراً. لأن من شأن التبني أن يحافظ على وحدة الجماعة. وأنه متى وجدت الجماعة كان أفرادها مختلفي الأفكار، ومتعددي الاجتهادات، فإنها، وإن توحد أفرادها على الغاية، وتوحدوا على الإسلام بشكل عام، لا بد ستصاب بداء التشرذم وستعصف بها الانشقاقات، وسيوجد بداخلها التحزبات، وتصير جماعات داخل الجماعة، وستتحول دعوتها من دعوة الآخرين إلى العمل معها لإقامة هذا الفرض إلى دعوة بعضهم البعض، وسيتنازعون فيما بينهم كل يريد إيصال رأيه إلى سدة الجماعة. من هنا تأتي أهمية التبني وشرعيتها. فوحدة الجماعة مطلوبة شرعاً ولا يحافظ على وحدتها في هذه الحالة إلا بالتبني الواحد لكل أفكار العمل وإلزام شبابها بهذا التبني. ويصير التبني مطلوباً من باب: «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب».
فطالما أن أفكار وأحكام وآراء العمل عند الجماعة كلها شرعية، وطالما أن هذه الجماعة تحوز على ثقة شبابها فقد جاز من حيث الأصل تقيد الشباب بأفكار العمل من باب جواز ترك المسلم لرأيه والعمل برأي الآخرين. ففي بيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه رضي سيدنا عثمان أن يبايَع بالخلافة شرط أن يترك اجتهاده إلى اجتهاد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وإن خالفاه. وقد اقره الصحابة على ذلك. وبايعوه. إلا أن ذلك يعتبر جائزاً وليس بواجب بدليل أن سيدنا علياً رضي الله عنه لم يقبل أن يترك اجتهاد لاجتهاد أبي بكر وعمر، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة. كذلك فقد صح عن الشعبي أن أبا موسى كان يدع قوله لقول علي، وأن زيداً كان يدع قوله لقول أبيّ بن كعب، وأن عبدالله كان يدع قوله لقول عمر. ورويتْ حوادث عن أبي بكر وعمر أهما كان يدعان قولهما لقول علي فيها. فهذا يدل على جواز رجوع المجتهد عن قوله لقول غيره بناء على الثقة باجتهاده. وعلى شباب هذه الجماعة أن يتقيدوا بفهمها، وأن ينشأ منهم كُلٌّ فكريٌّ شعوريٌّ واحد.
– وكما أن على الجماعة أن تتبنى في الأحكام الشرعية المتعلقة بعملها، كذلك عليها أن تتبنى ما يلزم في أساليب تنفيذ هذه الأحكام. والأسلوب هو الوجه الذي ينفذ به الحكم الشرعي. وهو حكم يتعلق بحكم أصل جاء الدليل على إثباته فمثلاً: المطلوب من الجماعة إيجاد الثقافة المركزة عند شبابها أسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم وهذا حكم شرعي يجب التقيد به. فعلى أي وجه؟ وكيف سينفذ هذا الحكم الشرعي؟ فلا بد من أسلوب معين يؤدي بواسطته هذا الحكم الشرعي. فقد يكون أسلوب الحلقات أو الأسر أو أي شكل آخر.
فاختيار الأسلوب يكون اختياراً عقلياً للعمل الأنسب الذي يؤدي به هذا الحكم الشرعي. ويأخذ حكم الإباحة من حيث الأصل. والشرع قد طلب الحكم الشرعي وترك أسلوب تنفيذه للمسلم.
وتعدد الأساليب للحكم الشرعي الواحد يضغط على الجماعة لكي تتبنى أسلوباً معيناً وترشد شبابها إليه، فتكون الجماعة قد تبنت حكماً شرعياً واحداً، وتبنت أسلوبه الموصل إلى تنفيذه ومن ثم يأخذ حكم الأسلوب حكم متبوعه. أي يصبح أسلوباً ملزماً كالحكم الشرعي الملزم التابع له.
فإذا اختارت جماعة ما نظام الحلقات كأسلوب لإيجاد الثقافة المركزة فعليها أن تتبنى ذلك كأسلوب ملزم، وتنظر حين تبنيها لهذا الأسلوب إلى تحقيق الغاية المرجوة من هذا الأسلوب وهي إيجاد الثقافة المركزة فتتبنى في أسلوب الحلقات كل ما من شأنه أن يحقق هذه الغاية. فمثلاً: عدد أفراد الحلقة يجب أن يكون متناسباً مع الغاية. فإن زاد العدد فقد يكون على حساب التركيز، وإن قل فستكثر الحلقات حتى يصبح الأمر مرهقاً ومعوقاً. فلا بد أن يكون هناك عدد يناسب عملية تركيز الأفكار من غير زيادة ولا نقصان. ويكون تحديد العدد عقلياً. وكذلك مدة الحلقة لا بد أن تكون وقتاً يبقى فيه الدارسون مالكين لوعيهم في فهم الأفكار بحيث لو طال لقل الاستيعاب، ولو قل لما أديت الأفكار بشكل متكامل. وموعد الحلقة هل هو يومي أو أسبوعي أو نصف شهري فلا بد أن يكون موعداً من شأنه أن لا يعوق الجانب العملي في الدعوة فلا ينشغل الشباب بالناحية العملية على حساب الناحية العملية. وهكذا يجري التبني لكل الأساليب المناسبة للأحكام الشرعية بحيث تأتي منسجمة تماماً مع تحقيق الحكم الشرعي الذي يراد تحقيقه. وما يقال في الأساليب يقال كذلك في الوسائل تقريباً. ويجوز للأمير أن يغيّر في الأساليب والوسائل حسب ما يقتضيه تنفيذ العمل.
– بما أن عمل الجماعة يتناول رقعة واسعة من الأرض، ويكون له امتداد بين الدول، لذلك فإن ضخامة المهمة الملقاة على الجماعة أو الحزب تفرض وجود جهاز إداري يستطيع الحزب أن يقوم بواسطته بمتابعة الدعوة وتحقيق أهدافها على كامل مساحة العمل، وينظم حركة الدعوة ويضبطها، ويتابع تركيز الشباب ويهيئ الأجواء العامة على الفكرة. وخوض الصراع الفكري والكفاح السياسي ويَطِلُّ على الأمة كجسم وقف نفسه على تحقيق هذا الفرض. إذاً لا بد من هيكلية تنظيمية تقف على تحقيق الغاية كأفضل ما يكون فتلاحق مكتسبات العمل وتحافظ عليها.
وهذا الجهاز الإداري يتمثل بالجسم الحزبي من أمير إلى مسؤولين إلى أعضاء ودارسين. فمم تتألف تركيبة هذا الجهاز؟ وكيف يتوزع العمل فيه؟ وما هي صلاحيات كل منهم؟ هل يتألف هذا الجهاز من روابط تتناول مختلف نواحي العمل، وعلى كل رابطة مسؤولها، وهؤلاء يتصلون بأمير المنطقة، وأمراء المناطق يتصلون بدورهم بالأمير العام؟.
أم تقسم تقسيماً آخر كأن تقسم المناطق إلى ولايات، وتكون كل دولة من الدول الحالية ولاية من ولايات العمل وعلى رأسها مسؤولها، وهذا المسؤول هو الذي يدير حركة العمل في ولايته فيتابع النشاط فيها ويكون حلقة اتصال بين الأمير وبين الشباب، بين القيادة والقاعدة فيطلع الأمير على كامل النشاط وينفذ ما يصدر منه لولاياته. والأمير الذي هو رأس العمل وموجهه يجب أن لا يكون بعيداً عن العمل، فلا يكون على رأس هرم عال بحيث تضعف رؤيته للقاعدة ونشاطها، بحجة التنظير، أي أن القيادة كلما ارتفعت كلما استشرفت، بل ينبغي أن يحافظ على أن تبقى القيادة هي الأكثر تحسساً وشعوراً بالمسؤولية وقياماً بالفرض. وأن يكون منصب القيادة منصب تكليف شاق لا منصب تشريف وتعال. ويجب أن يلي مسؤولو العمل قيادتهم في التحمل والقيادة. وليس العكس. فلا تنحصر التكاليف في شباب الدعوة دون مسؤوليهم.
فلا بد من تبني جهاز إداري أو هيكلية تنظيمية يمكنها إدارة أعمال الدعوة بشكل ناجح يؤدي إلى تحقيق المطلوب.
ثم يأتي بعد هذا تبني قانون إداري ينتظم فيه كل جسم الحزب والحركة فيه. يحدد صلاحيات الأمير، وكيف يدير الحزب، وكيف يتم اختياره؟ ومن يعين مسؤولي المناطق أو الولايات وما هي حدود صلاحياتهم. فهو القانون الذي ينظم إدارياً كل عمل الحزب ويعين حدود صلاحيات الجميع.
وكل هذا يأخذ حكم الأسلوب والوسائل التي تلزم للأحكام الشرعية المتعلقة بالعمل. والأساليب الإدارية المتبناة تكون واجبة الالتزام ما دام الأمير يراها لازمة، لأن طاعة الأمير واجبة.
– إن كل ما يجري تبنيه يجب التزامه. فكيف سيتصرف الحزب عندما تتم المخالفة. هل يعالج المخالفة بالتوبيخ أو بعقوبات إدارية؟
إن على الكتلة تبني عقوبات إدارية لكل من يخالف أي حكم متبنى أو يخرج عن الخط الشرعي المرسوم. ومشروعية هذه العقوبات تندرج تحت باب (مخالفة الأمير) وبما أن الحكم الشرعي أوجب وجود أمير، كذلك فقد أوجب طاعته وحرم مخالفته فيما أمّروه فيه عليهم. وإلا لما كان من معنى لوجود أمير للجماعة.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصى أميري فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله» وفي رواية أخرى: «من أطاع الأمير».
ووجود العقوبات الإدارية يجب أن يطال الجميع من الأمير حتى أصغر عضو في الحركة. وهذه العقوبات هي على المخالفة لكل ما متبنى. فمن خالف في الأحكام الشرعية المتبناة أو في الأساليب، أو لم يراع وجود الجهاز الإداري أو القانون الإداري، أو خرج عن حدود صلاحياته، يجب أن تطاله المحاسبة.
وهكذا يجب أن يصحب الإطار الفكري إطار تنظيمي منضبط يسهر على الترجمة الدقيقة لأفكار العمل وأحكام الطريق. ولقد رأينا بأم العين كم من التنظيمات الإسلامية وغير الإسلامية قد انهارت لأنها لم تنتبه للناحية التكتلية فيها.
فمن الطبيعي عندما لا تأخذ الجماعة فكرة التبني بعين الاعتبار أن تعصف بها الخلافات، وأن تعيش في تخبط وعشوائية ودوران في حلقة مفرغة، أن تصاب الشطط وليس من يحاسب، وهذا يخرجها عن كونها الجماعة التي من شأنها أن تحقق الكفاية الشرعية.
ومن الطبيعي أنه إذا لم يكن اختيار الأعضاء والمسؤولين بناء على شروط شرعية منضبطة وكان بناء على القرابة، أو المركز الاجتماعي، أو المنصب، أو المركز العملي. فإن من شأن كل هذا أن يسيء إلى توزيع المهمات ويجعل من الأفراد هواة مناصب.
ومن الطبيعي أنه إذا لم توجد القوانين الإدارية التي يخضع لها الجميع فستتميز المحاسبة ويطغى الميزان.
ومن الطبيعي أنه إذا لم توجد العقوبات الإدارية التي لا تحابي أن تمر المخالفة الكبيرة كما تمر المخالفة الصغيرة، وأن تُستمْرأ معاصي العمل، وتكثر الأخطاء.
وعليه فلا بد من الانتباه إلى الناحية التنظيمية وتشكيل جسم حزب فاعل في حركته بحيث تنتظم ضمنه أفكار الدعوة وشبابها، وبحيث يسهل العمل، وتركيبة الحزب أو الجماعة يجب أن تتفق تماماً وتحقيق الغاية التي من أجلها وجدت.
ولا يظننَّ ظانٌّ أن الناحية التكتلية هي أمر ثانوي، بل هي تأخذ طابعاً مهماً جداً. فإذا لم تحسن صياغتها وتركيبتها ويتبنى لها الأحكام اللازمة وتأخذ ناحية الإلزام فإن كل ما وفقت الجماعة إليه مما تقدم ذكره يصبح معرضاً للانهيار والضياع.
ثم أن القيام بالمهمات الحزبية تفرض على الحزب أو الجماعة بعض الأعباء المادية: فمن تفرُّغ لبعض شبابها تحتاج إليه الجماعة، إلى مصاريف انتقال، إلى نفقات طبع، إلى غير ما هنالك مما تفرضه تكاليف حمل الدعوة الإسلامية. فهذه الأعباء المالية يجب أن يتحملها جسم الحزب أي شبابه، فمن قدم نفسه في الدعوة يسهل عليه تقديم ما هو أخف من ذلك.
ويجب أن تحرص الجماعة على أن لا تمد يديها إلى خارج جماعتها سواء كان هذا الخارج فرداً أم جماعة أم حكومة، فإنما تؤتى الجماعة من هذا القبيل، ويفكر أعداء الدعوة باستغلال حاجة الجماعة إلى المال فيعرضون عليها المساعدة البريئة في بادئ الأمر، ثم لا يلبث أن يتغير وجه المساعدة إلى مساعدة ذات غرض وأرب
1992-08-01