تحريف الإسلام باسم التجديد والعصرنة
1995/01/31م
المقالات
3,015 زيارة
بقلم: محمود عبد الكريم حسن
تحدثنا في العدد رقم (91) عن مواجهة أميركا للإسلام بأنها ذات ثلاث شعب: الأولى هي استمرار سياستها السابقة وهي الغزو الفكري وإحلال أفكار الكفر مكان الأفكار والمفاهيم الإسلامية. والثانية هي تشويه الإسلام وتاريخه، ووصم حَمَلَته بالإرهاب، والتنكيل لهم. والثالثة هي تفريغ الإسلام من مضمونه، وإحلال المفاهيم الغربية مكان المفاهيم الإسلامية من خلال إلقاء وصف الإسلام على مفاهيم الكفر، وذلك ما يؤدي بالمجتمعات الإسلامية إلى قبول الكف وشرائعه تحت عناوين إسلامية. ويقوم على تنفيذ هذا الخط الثالث علماء مسلمون متأثرون بالثقافة الغربية ومفتونون بها، ويعتمدون أجل غايتهم طروحات عدة منها: الدعوة إلى التجديد؛ تجديد الفقه أو أصول الفقه؛ النظر إلى مقاصد الشريعة أكثر من الشريعة نفسها.
وكلمة التجديد في الدين قد يريد منها مطلقها ما هو محمودٌ مطلوب شرعاً، وقد يريد منها ما هو مذموم مردود. فما هو المراد منها ومن إطلاقها والترويج لها اليوم؟
وأحب أن أنقل في هذا المقام كلمة للأستاذ أبي الأعلى المودودي – رحمه الله – تغنينا عن الإنشاء. يقول في رسالة له بعنوان: (موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه): «التجديد في حقيقته عبارة عن تطهير الإسلام من أدناس الجاهلية، وجلاء ديباجته حتى يشرق كالشمس ليس دونها غمام» ويقول: «قد ألف الناس في زماننا أ، لا يفرقوا بين التجدد والتجديد، فيسمّون، لسذاجتهم، كل متجدد من بينهم مجدداً، ظناً منهم أن كل من جاء بطريق جديد ثم أمضاه بشيء من القوة والعزم فهو المجدِّد. ويجودون بهذا اللقب خصوصاً على الذي يبادر إلى إصلاح حال الأمة المسلمة من الجهة المادية إذا وجدها إلى التقهقر، فيخرج بمسالمته للجاهلية الحاكمة في زمانه خلطاً جديداً من الإسلام والجاهلية، ويصبغ الأمة بصبغ الجاهلية الكامل الذي لا يبقى من خصائصها إلا الاسم. والحال أن أمثال هذا لا يكونون مجددين بل متجددين، ولا تكون مهمتهم تجديد الدين بل التجدُّد في الدين، وشتان ما بينهما. وذلك أن التجديد لا يكون عبارة عن التماس الوسائل لمسالمة الجاهلية، ولا هو عبارة عن إعمال خلط جديد من الإسلام والجاهلية، بل التجديد في حقيقته هو تنقية الإسلام من كل جزء من أجزاء الجاهلية، ثم العمل على إحيائه خالصاً محضاً على قدر الإمكان. ومن هنا يكون المجدد أبعد ما يكون عن مصالحة الجاهلية، ولا يكاد يصبر على أن يرى أثراً آثارها في أي جزء من الإسلام مهما كان تافهاً» أ.هـ.
لا مانع من التجديد بالمعنى الذي يريده الأستاذ المودودي، أو بمعنى فتح باب الاجتهاد لأهله وإعداد من يتأهل له، واستنباط أحكام شرعية للوقائع المستجدة في الحياة، لا مانع من التجديد بمعنى أعمال العقل في فهم الإسلام ونصوصه، وفي تفهميه للأمة وتحميلها إياه، وجعله وأفكاره ومفاهيمه أساس التفكير ومقياس الأفكار. لا مانع من التجديد بمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الدولة الإسلامية التي تطبق الإسلام وتحمله نوراً وهداً ورحمةً للبشرية وشهادةً عليها.
والتجديد بالمعنى الذي سماه المودودي – رحمه الله – تجدداً مذموم ومرفوض شرعاً. فهو بمعنى تغيير وتعديل أو تطوير الإسلام لأجل التقارب مع أفكار ومفاهيم الحضارة الغربية الكافرة. مردودٌ ومذموم التجديد في الدين بمعنى التنازل عن أي شيء من ديننا لصالح أي حضارة أو فكر أو مذهب، بحجة أن العالم وأصبح قرية صغيرة. نعم نرفض تجديداً معناه تركه الوحي إلى الهوى وشرع العقل والمصلحة. إنّ المراد بالتجديد الذي يروَّج له اليوم ويطرحه ذوو مظهر إسلامي فهو الانحراف بالمسلمين عن طريق تفريغ الإسلام من أحكامه ومفاهيمه، فَيُتَذَرَّعُ بكلمة التجديد لتبرير الانحراف وتبنِّي التوجه السياسي والفكري الغربي أو الأميركي الكافر.
وسأتناول هذا المعنى من خلال كتابين، ناهيك عن الأقوال والتصريحات الكثيرة المبثوثة هنا وهناك في صحف ومجلات وكتب عديدة لكثيرين من رواد المنهج البربري.
الكتاب الأول: (تجديد أصول الفقه الإسلامي) للدكتور حسن الترابي.
الكتاب الثاني: (أوليات الحركة الإسلامية) للدكتور يوسف القرضاوي.
في الكتاب الأول يبيّن لنا الدكتور الترابي حاجتنا لفقه جديد فلا يكتفي ببناء هذه الحاجة على وجود مستجدات في الحياة، وعلى وجود تطور مدني يقتضي نشوء علاقات جديدة لا بد لها من معالجات شرعية، وإنما يدعي أن ما كان حقاً قبل ألف عام لم يعد حقاً اليوم، أو ما كان محرماً قبل ألف عام لم يعد مقبولاً أن يظل محرماً اليوم في ظل تطور هذا العصر. ويزيد الترابي أن الإمكانات في عصرنا تقتضي انقلاب الأحكام، يقول في الصفحة 8: «ذلك أن قطاعات واسعة من الحياة قد نشأت من جراء التطور المادي وهي تطرح قضايا جديدة تماماً في طبيعتها التي لم يتطرق إليها الفقه التقليدي ولأن علاقات الحياة الاجتماعية وأوضاعها تبدلت تماماً ولم تعد بعض صور الأحكام التي كانت تمثل الحق في معيار الدين منذ ألف عام تحقق مقتضى الدين اليوم لا توافي المقاصد التي يتوخاها لأن الإمكانات قد تبدلت وأسباب الحياة قد تطورت والنتائج التي تترتب على إمضاء حكم معين بصورته قد انقلبت انقلاباً تاماً».
هذا النص يشكل مدخلاً لفهم تجديد الترابي. إنه ليس جلاء صورة الدين والمحافظة عليه، وأهما هو تعديل وتغيير أحكامه.
ثم يبين لنا الترابي حاجتنا لمنهج أصولي جديد فيقول صفحة 12: «وفي يومنا هذا أصبحت الحاجة إلى المنهج الأصولي الذي ينبغي أن تؤسس عليه النهضة الإسلامية حاجة ملحة، لكن تتعقد علينا المسألة بكون علم الأصول التقليدي الذي نلتمس فيه الهداية لم يعد مناسباً للوفاء بحاجتنا المعاصرة حق الوفاء لأنه مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها بل بطبيعة القضايا الفقهية التي كان يتوجه إليها البحث الفقهي».
إذاً، نحن أمام (مجدَّد) يعتبر فقهنا تقليدياً يجب تغييره، ثم هو جريء يرى أصول الفقه أيضاً تقليدية وعاجزة عن الوفاء بحاجتنا، فهل هي بحاجة إلى إضافات أم إلى بعض التوضيحات؟ إنها عند هذا المجدد بحاجة إلى نسف كما سيظهره، وهي كما يزعم متأثرة بمنطق الأغريق وتعقيداته. وما هذا القول منه إلا لخلق المبرر في الأذهان لتغيير الشريعة، ولأعداد الناس لطروحات مثيرة في مناقضتها للنصوص، المبرر لقبول التأثر بالفكر الغربي عند الاستنباط، بل لجعل القوانين الغربية إسلامية كما سنرى.
ثم يرى هذا المجد أن التجديد يجب أن يكون في الأصول، وسيطال بشكل أساسي أحكام العلاقات السياسية والاقتصادية، وقد يطال أيضاً أحكام القضايا الخاصة كالعبادات وعلاقات الأسرة وغيرها. وهي الميادين التي لم يسبق أن ادعى مسلم أن نصوص الشرع فيها قاصرة. يقول صفحة 19: «وأكثر فقهنا من ثم لا يتجه إلى الاجتهاد في العبادات الشعائرية والأحوال الشخصية فتلك أمور يتوافر فيها فقه كثير ويحفظها المسلمون كثيراً… أما قضايا الحكم والاقتصاد وقضايا العلاقات الخارجية مثلاً فهي معطلة لديهم ومغفول عنها». ويقول في الصفحة 20: «ونحن أشد حاجة لنظرةٍ جديدةٍ في أحكام الطلاق والزواج نستفيد فيها من العلوم الاجتماعية المعاصرة ونبني على فقهنا الموروث وننظر في الكتاب والسنة مزودين بكل حاجات عصرنا ووسائله وعلومه وبكل التجارب وبكل التجارب الفقهية: الإسلامية والمقارنة لعلنا نجد هدياً جديداً لما يقتضي شرع الله في سياق واقعنا المعين». وهنا أوجه القارئ لقراء النص أعلاه بتأنِّ. فكلما أنعمنا النظر فيه كلما ازددنا ريبةً في مراد الرجل. فهو بإزاء العلوم الاجتماعية المعاصرة وضع كلمة: نستفيد منها. وبإزاء القرآن والسنة وضع كلمة ننظر فيها. لم يقل: نحتكم إليهما. أو نأخذ منهما. وإنما: ننظر فيهما. ومن خلال هذه النص، يريد الترابي أن يخرج بهديٍ جديد، حتى فيما يتعلق بشؤون الزواج والطلاق، هديٍ ينبع من المزج بين شرع القرآن والسنة والشرائع الجاهلية، حيث يدعي أن حاجتنا لهذا الأمر شديدة. ثم يبين لنا أن تجديده يهدف إلى هدي جديد لا يكتفي بهدي القرآن والسنة، لأنهما لا يكفيان لحاجات عصرنا ووسائل. فهو يريد هدياً (ديناً) جديداً يستفيد من شتى التجارب الفقهية الإسلامية والمقارنة. إن الله يعمل ما في قلب صاحب هذه الدعوة، ويعلم عن رضى من يبحث، فيقول له: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى) ويقول: (قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) ويقول: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)، ويقول: (وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) صدق الله العظيم.
ألم يقرأ القرآن هذا الذي يبحث عن هدي جديد عبر خليط من شريعة الإسلام مع الشرائع الجاهلية؟ وهنا نتساءل مع القارئ ونريد أن نحاول الترابي وتلامذته الذي يرونه مجدداً وأستاذ لجيل هم منه، والذين يدعون لفتح أبواب الحوار مع اليهود والنصارى (المؤمنين) بزعمهم، ومع العلمانيين ومع الغرب الذي يفخرون أنهم تلقوا ثقافتهم منه، أن نحاورهم ونسألهم، هل هذا الذي تدعوه إليه إسلام؟ هل أنتم دعاة إسلام، أم علمانيون؟ وأمام هذه الدعوة، وغلوها في الجرأة على دين الله فسنشعر بحاجة لطمأنة نفوسنا ونفوس القراء بآيات من كتاب الله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ¯ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ¯ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
نعود إلى الترابي الذي يريد توسيع الأصول، كي يتمكن من توسيع الشريعة، كي يتمكن بالتالي من جعل مفاهيم ونظم الحضارة الغربية الكافرة شرعية إسلامية. وبما أن توجهه هذا قد يثير في وجهه حملة شديدة، فهو يتدارك الأمر، فيقرر أن الاستفادة من النظم الاجتماعية المعاصرة لا تخالف الشرع. بل هي سمة فقهنا (الموروث) بزعمه. يقول في الصفحة 22 تحت عنوان: (نحو أصول واسعة لفقه اجتهادي): «وفي هذا المجال يلزم الرجوع إلى النصوص بقواعد التفسير الأصولية، ولكن ذلك لا يشفي إلا قليلاً لقلة النصوص. ويلزمنا أن نطور طرائق الفقه الاجتهادي التي يتسع فيها النظر بناءَ على النص المحدود. وإذا لجأنا هنا للقياس لتعدية النصوص وتوسيع مداها فما ينبغي أن يكون ذلك هو القياس بمعاييره التقليدية. فالقياس التقليدي أغلبه لا يستوعب حاجتنا بما غشيه من التضييق انفعالاً بمعايير المنطق الصوري التي وردت على المسلمين من الغزو الثقافي الأول الذي تأثر به المسلمون تأثراً لا يضارعه إلا تأثرنا اليوم بأنماط الفكر الحديث، ولعل تأثر الفكر الإسلامي الحديث المخلص ولا أقول الخالص بالفكر الغربي الآن أقل من تأثر الفكر الإسلامي المخلص قديماً بالفكر الغربي القديم.
هكذا بكل بساطة وسهولة، ولطف ويسر يريد الترابي أن ندفن حضارتنا وفقهنا وديننا ليغيض الإسلام إلى الأبد. أميركا وفرنسا وبريطانيا والغرب كله يعجز عن الوفاء بحق هذا الرجل مهما تمسكوا به وأثنوا عليه. الطروحات (الإسلامية) المتأثرة بالفكر الغربي طروحات مخلصة بنظره. والفقه الإسلامي والمفاهيم الإسلامية متأثرة بالإغريق ومبنية على أسس يونانية بزعمه. وهو لا يذكر هذه الخرافة لينفيها أو ليشن حملة عليها، وإنما يقررها بسلاسة لينفعل ذهب قارئه بها ولكي يُسْقَطَ في يده، فنصوص شريعتنا محدودة وغير وافية، وهي تستفيد من الحضارات الأخرى، وهذا شأنها منذ بدئها. فلا ضير في أن نسلّم اليوم بالاستفادة من الحضارة الغربية، أو أي حضارة أخرى.
وشريعتنا ونصوص الإسلام لا تفي ولا تصلح ولا تجدي لحصول نهضتنا الفقهية عند هذا (المجدد) أو (المفكر المعاصر). ولذلك فهو يطرح العلوم المعاصرة، والقوانين الاجتماعية المعاصرة، والفكر والفقه المعاصر. إسلامياً وغير إسلامي، مصدراً للتشريع في عملية التجديد. ولكي يبقى على وصف الإسلام في طرحه الكفر فهو يسمى هذا المصدر الوضعي: القياس الواسع كما سنرى. وفي الواقع لا علاقة له بالقياس. يقول تحت عنوان (القياس المحدود) في الصفحة 23: «ومثل هذا القياس المحدود ربما يصلح استكمالاً للأصول التفسيرية في تبين أحكام النكاح والآداب والشعائر، لكن المجالات الواسعة من الدين لا يكاد يجدي فيها إلا القياس الفطري الحر من تلك الشرائط المعقدة التي وضعها له مناطقة الإغريق واقتبسها الفقهاء الذين عاشوا مرحلة ولع بالتعقيد الفني وولع الفقهاء بالضبط في الأحكام… » وهكذا يمضي التربي في نظرته إلى فقهنا الذي تركه لنا السلف، الفقه المأخوذ من المقرآن والسنة بقواعد فهم واستنباط شرعية نقيَّة، يصبح هذا الفقه حسب الترابي تراثاً إغريقياً، اقتبسه مراهقون مولعون بالتعقيد والضبط. وهو ينعي على قيام فقهائنا بالضبط والتدقيق والالتزام بالنصوص الشرعية في استنباط الأحكام. ويسمى ذلك تعقيداً فنياً مقتبساً من الفلسفة اليونانية. ماذا يريد الترابي إذاً في تجديده؟ إنه يريد كما يقول في النص أعلاه: «القياس الحر من تلك الشرائط المعقدة» وإذ أكان الفقه الإسلامي عند الترابي غير وافٍ وغير مناسب للتطور الحاصل، والنصوص محدودة يجب توسيع مداها. فما هي مصادر الفقه الجديد الذي يريده هذا الرجل؟ إنه يقول بمصدرين جديدين لا علاقة لهما بالإسلام، وإنما يطلق عليها اسمين قد يوحيان بعلاقة ما وهما: القياس الواسع والاستصحاب الواسع.
أما الأول فهو يعني رفض الأصول التفسيرية للنصوص، أي رفض أخذ الأحكام الجزئية أو الفرعية من النصوص لأنها غير وافية وغير مناسبة. ويرفض الانضباط بالنصوص والقواعد والضوابط الشرعية لاستنباط الأحكام لأن ذلك تعقيد. وهذا قد سلف الحديث عنه. ويقول صفحة 21: «فالأصول التي تناسب هنا ليست هي الأصول التفسيرية وحدها، وأعني بها قواعد تفسير النصوص. وذلك نظراً لقلة النصوص التي تتعلق بنظام الحياة العامة». والقياس المطلوب للتجديد هو القياس الواسع وهو القياس الفطري الحر من الشرائط المعقدة التي وضعها فلاسفة الإغريق. وهذا يقتضي أن لا نلتفت إلى دلالة النص الواحد أو آحاد النصوص أو إلى واقعها لنأخذ منها الحكم أو الأحكام التي تفيدها، أي أن لا نأخذ الأحكام الفرعية من النصوص. وإنما أن نعمد إلى طائفة من النصوص ونجرد كلاً منها من دلالتها الخاصة، ثم نأخذ من جملة النصوص مقصداً معيناً، وعند إرادتنا استنباط وتقنين أحكام الفقه الدستوري أو غيرها نشرع بعقولنا ما نراه مناسباً لواقعنا متوخين ذلك المقصد. وهذه دعوة إلى وضع تشريع بشري يتناسب مع التطور المادي العمراني والاجتماعي الحاصل في يومنا، الضابط الوحيد فيه هو المقصد أو المصلحة. يقول صفحة 24: «ولربما يجدينا أيضاً أن نتسع في القياس على الجزئيات لنعتبر الطائفة من النصوص ونستنبط من جملتها مقصداً معيناً من مقاصد الدين أو مصلحة معينة من مصالحة ثم نتوخى ذلك المقصد حيثما كان في الظروف والحادثات الجديدة». وهذا ترك لشريعة الإسلام إلى الهوى مع الإبقاء على اسم الإسلام. ولو طبقنا هذا النهج في ميدان العقوبات مثلاً، لوجب علينا في عصرنا أن لا نأخذ بحكم قطع السارق وجلد الزاني أو رجمه وقتل المرتد وغيرها من العقوبات، لأن هذه أحكام جزئية تستنبط من آحاد النصوص حسب قواعد التفسير المرفوضة عند الترابي، وإنما علينا أن نأخذ طائفة النصوص المتعلقة بالعقوبات لنستنبط منها مقصداً أو مصلحة. وجليٌّ أن هذه النصوص مجتمعة ليس لها أي دلالة جزئية. وإنما يُزْعَمٌ أنها تدل على مصلحة، هي وجوب القصاص أو حفظ الحريات العامة أو ما شاكل. وعند إرادتنا التشريع لحادثات ووقائع المجتمع في ظروفنا المعاصرة، فلن نلتزم إلا بتحقيق المقصد العام، أما الطريق إلى ذلك فنختاره بعقولنا فنختار مثلاً العقوبات التي نراها مناسبة، من غير قيد أو (عقدة) الالتزام بأحكام القطع أو الجلد أو الرجم أو دلالة النصوص بحسب الأصول التفسيرية التي يراها الترابي غير مناسبة كما يقول في الصفحة 20: «أما جوانب الحياة العامة، فالحاجة فيها للاجتهاد واسعة جداً ونحتاج في نشاطنا الفقهي لأن نركز تركيزاً واسعاً على تلك الجوانب وعلى القواعد الأصولية التي تناسبها، فالأصول التي تناسب هنا ليست هي الأصول التفسيرية وحدها وأعني بها قواعد التفسير النصوص».
ويوضح لنا الترابي بعض ما يريده بجلاء، فهو يريد تحليل الحرام أو توسيع دائرة الحلال حتى تشمل كثيراً مما هو محرم. فبدل أن يكون التدين هو الالتزام بالأحكام المأخوذة من النصوص، يصبح التدين هو الالتزام بالمقصد العام أو بما يحقق المصلحة، ولو أغفلنا النصوص، ويصبح كثير صور تعدي حدود الله تديناً. يقول صفحة 25: «وبذلك التصور لمصالح الدين نهتدي إلى تنظيم حياتنا بما يوافق الدين. بل يتاح لنا – ملتزمين بتلك المقاصد – أن نوسع صور التدين أضعافاً مضاعفة».
فإذا أضفنا إلى هذا الطرح التجديدي التبريري مناداتهم بالديمقراطية وإلزامية رأي الأغلبية داخل البرلمانات التي يسمونها مجالس الشورى، فلن نجد فارقاً البتة بين هذا الطرح وطرح العلمانيين اللهم إلا أن الأخيرين أسفروا عن حقيقة مرادهم، وهؤلاء، مدّعو التجديد، لم يفعلوا.
أما المصدر الثاني للتجديد عند الترابي وهو الاستصحاب الواسع، كما يسميهن فهو دعوة إلى أخذ موازين ومقاييس الحسن والقبح والعدل والظلم من الأفكار الغربية المعاصرة والسائدة. والترابي هنا يحاول أن يُفهمنا أن تطبيق الإسلام لا يعني تغيير هذه النظم السائدة، إذ إن الإسلام لا يضع أسساً جديدة للمجتمع وعلاقاته، وإنما يوافق على النظم الموجودة، ويتدخل فقط ليصلح ما طاله الاعوجاج. يقول تحت عنوان: «الاستصحاب الواسع صفحة 26: «ومغزى الاستصحاب هو أن الدين لم بتأسيس حياة كلها جديد وإلغاء الحياة القائمة قبل الإسلام بأسرها» ثم يقول: «بل كان المبدأ المعتمد أن ما تعارف عليه الناس مقبول وإنما ينـزل الشرع ويتدخل ليصلح ما أعوجّ من أمرهم»، ثم يقول: «وحينما يدعو القرآن للحكم بالعدل والقسط فهو مراعاة القيم العدلية التي عرفها الإنسان واستشعرها الوجدان المخلص مرونة مع التصويبات والتقويمات التي ترد عليها من تلقاء الشريعة المنـزلة. وهكذا يقال في القسط والخير والظلم اللاحسان والإساءة بل في نظر الأسرة وفي الشعائر». وكان الترابي متفائل أن منهجه هذا سيعم ويسود حتى إذا ما طبق على الأمة الإسلامية في ميدان الحياة العامة، فسيعمد إلى تطبيقه على نظام الأسرة والعبادات كي يبعث بكل ذلك ويغيره أو يلغيه.
نحن إذاً أمام منهج للتجديد يريد منا أن نلغي الفقه الموروث، وأن نوسع الدين لتصبح نظم الحياة القائمة ومقاييس الحسن والقبح المنبثقة عن عقائد الكفر شرعة الإسلامية. وإذا كان هناك من تدخل للإسلام فهو فقط للصحيح والتصويب، فهو منهج لتفريغ الإسلام من مضمونه، وإلى التشريع الوضعي. ألا ترى أن القائمين على النظم الوضعية كلها – شيوعية أو رأسمالية – يدعون إلى التصحيح والتصويب في أنظمتهم، في التشريع وفي التطبيق. والإسلام أيضاً يأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالنصيحة وبالإصلاح وبالتصويب، وبعدم الحيد عن الشريعة. فإذا كانت الدعوة إلى التجديد دعوة إلى المحافظة على معايير الحسن والقبح والعدل والظلم السائدة مع عدم التدخل إلا للتصويب والتصحيح، فهي دعوة إلى التجويف الكامل للإسلام.
نحن نفهم أن الإسلام قد عالج كافة شؤون الحياة، وأمر بأشياء ونهى عن أشياء، فما أمر به فهو الحق والعدل وما نهى عنه فهو الظلم والجور. ونفهم أن الحاكمية هي لله وحده، ونفهم أن الحسن ما حسَّنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع، ونفهم أن الخير ما يرضي الله سبحانه وتعالى وأن الشر ما يسخطه، وهذا كله قطعي وعقيدة لدى كل مسلم. ونفهم أن شريعتنا كاملة بذاتها من غير أي إضافة بشرية. وأن ديننا لا يحتاج إلى توسيع ولا تضييق. وأن التغيير المطلوب هو تغيير في المسلمين لا في الإسلام، تغيير للأفكار والمفاهيم، للقناعات والمقاييس لتكون كما أمر الله تعالى، وليس التغيير أن نغير الإسلام ليتطابق مع الواقع. والظلم والعدل والحسن والقبح أياً كان مصدره هو قبح وظلم ما لم يكن مأخوذاً من شريعة الإسلام وبنيّة طاعة الذي لا يُعبد سواه.
وإذا كان هناك شيء قد أمضاه الإسلام أو أقره كما هو، فهو يؤخذ بناءً على أنه تشريع إسلامي وليس بالاستصحاب، ولا علاقة للاستصحاب الذي تحدث عنه العلماء والأصوليين بهذا الاستصحاب الواسع المطروح عند مدّعي التجديد.
فدعوة التجديد هذه عن طريق اعتماد القياس الواسع والاستصحاب الواسع هي للأصول وليس للفروع وحسب. والمقصود منها هز أركان هذه الشريعة بنسبتها إلى الجمود والتخلف والتأثر بتعقيدات الفلاسفة لتسهيل الانفلات من قيود النصوص وضوابط أصول الفقه المستنبطة منها، وليسهل بعد ئذٍ تناول كل الأحكام الشرعية بالتغيير والتبديل، وليسهل تناول وتشريع المفاهيم والقوانين الغربية الوافدة مع الاستعمار ومدنيته. وبعض الذرائع التافهة لذلك كله هي أن الطائرة والصاروخ والكمبيوتر تقتضي تعديلات على أحكام الزواج والطلاق والشعائر، وتستدعي قلب نظام الحياة العامة عند المسلمين. ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ).
ويخرج ما في قلوب هؤلاء (المجددين) من خلال تصريحات وأقوال كثيرة غير الكتاب الذي ذكرناه. فأقوال الترابي تتتابع في موضوع وحدة الأديان مثلاً وعدِّ اليهود والنصارى مؤمنين. والدعوة إلى وقوف الديانات الثلاثة موحَّدة في وجه اللادين. يقول في مجلة (قراءات سياسية) العدد 11/12 لسنة 93: «علينا أن نعيد تصنيف التقسيمات السابقة للأديان ونضعها في إطار معادلة جديدة: «دينيون وغير دينيين». ويقول فيما يدل على فصل الدين عن الحياة في نفس المجلة: «فالدين عاملي والله للجميع، والله لم يرسم الحدود الطبيعية السياسية لأن الأديان جميعها عالمية». أليست هذه هي نفس مقولة العلمانيين: (الدين لله والوطن للجميع)، أو (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله). ويظهر ما يخبئه الترابي في دعوته للتجديد عندما يرفض حكم الإسلام صراحة جهاراً ويطالب بدلاً منه بمقولة مع مجلة الوسط 07/11/94: «أنا من أشد الناس اهتماماً بالحرية بالمقارنة مع إخواني من علماء الحركة الإسلامية، وإذا حكمت سأترك للآخرين حريتهم، وإذا حكموا أريدهم أن يتركوا لي حريتي. وأنت تعلم رأيي في حرية من يخرج من الدين، على رغم ما جلب عليّ من نقد وخلاف». فهو يرفض حكم الإسلام بقتل المرتد. وماذا يفعل بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاثة: الثَّيِّبُ الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة» وبقوله صلى الله عليه وسلم: «من بدَّل دينه فاقتلوه»؟ إنه يلقي هذه النصوص جانباً ويعمد إلى الحريات الغربية السائدة في عصرنا ليتناول منها فكرة حرية العقيدة. وهذا تطبيق حرفي لمنهجه الذي تحدثنا عنه فيما سبق. وَلِمَ لا، فهو مجدِّد!!.
ونذكر هنا أن هذا هو نفس منهج الشيخ راشد الغنوشي وقد تناولناه في العدد (88) من مجلة «الوعي» هذه. الغنوشي يردد نفس أقوال الترابي حول حوار الأديان وحول الديمقراطية والحريات العامة ويقول: «إن الردة لا تقام عليها الحدود». ويقول الغنوشي عن الترابي: «هو مجدّد. هو أستاذ لجيل من الإسلاميين أنا منهم»، «هو في مقام الأستاذية لجلينا». أنظر مجلة الشراع 24/10/94.
نَخْلُصْ مما سبق إلى أن دعوة التجديد التي يروِّج لها اليوم، (حيث الصحوة الإسلامية تُنَبِّهُ المسلمين وتدفعهم إلى خوض الصراع مع أنظمتهم وتوجِّههم نحو الفهم الصحيح للإسلام التي يرفض الأفكار والمفاهيم الغربية النتنة، ويتطلع إلى القضاء على الاستعمار مهما كانت هويته، وإلى إقامة الدولة الإسلامية، دولة الخلافة، واستئناف الحياة الإسلامية، والجهاد في سبيل الله)، دعوة التجديد هذه هي عنوان مزيف، لخداع المسلمين للوقوع في حبائل أميركا وعملائها في خطة القضاء على الإسلام. فهي دعوة لتبرير القبول بالكفر والخضوع له واعتباره شرعياً. والمجدِّدون السائرون في ركاب هذا الخط ينطبق عليهم قول الله تعالى في سورة النساء: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاَ بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا).
¯ ¯ ¯
وننتقل إلى دعوة التجديد، ومنها فقه الموازنات، عند الدكتور يوسف القرضاوي من خلال كتابه: (أولويات الحركة الإسلامية). ولا بد أن أشير أولاً إلى أن أكثر ما ورد في هذا الكتاب جيد. إلا أنه قد يكون القليل – في كثير من الأحيان – أكبر أثراً من الكثير. فقد يدخل الكثير ضمن الفروع، بينما يشكل القليل تأصيلاً لمنهج ينبني عليه ما هو أكبر وأبعد أثراً من الكثير. وإذا كان المنهج يبرر فعل الحرام، كفقه الموازنات المطروح، فذلك أمر نتائجه خطِرة: ويكاد يغدو معه النهج أو السلوك طليقاً من قيود النصوص ومتجاوزاً لحدودها.
يحدثنا الدكتور القرضاوي أن الفقه الذي ينشده لأجل التجديد خمسة أنواع هي: فقه المقاصد، فقه الأولويات، فقه السنن (أي سنن الحياة والكون والمجتمع)، فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، فقه الاختلاف. ثم يشرح ما يقصد بفقه الموازنات فيقول: «أما فقه الموازنات فنعي به جملة أمور:
أ- الموازنة بين المصالح بعضها وبعش…
ب- الموازنة بين المفاسد بعضها وبعش…
جـ- الموازنة بين المصالح والمفاسد إذا تعارضتا، … » أنظر صفحة 30 من كتابه المذكور الصادر عن مؤسسة الرسالة.
وهذا الكلام، لم نكتب لنعترض عليه، وإن كان لنا تحفظ عليه لجهة وجوب بيان من الذي يرجع إليه تعيين المصلحة وتعيين المفسدة. ولجهة من الذي يحدّد أيهما أكبر أو أولى أو أشد. أهل العقل أم الشرع؟.
إلا أن الأمر المهم الذي لأجله نفنّد هذا المنهج، هو مواضع تطبيقه. فهل يُطَبَّق هذا الفقه على وقائع أو قضايا قد حسمتها النصوص، كالربا أو الزنا أو الحكم بغير ما أنزل الله، أو التحالف مع الكفار لقتال المسلمين مثلاً؟ الواضح من تطبيقات القرضاوي لفقه الموازنات أنها إعادة نظر في أحكام شريعة حسمتها الأدلة من قرآن أو سنة أو إجماع صحابة. فهو يفتي بناء على الموازنة العقلية بما يخالف دلالة النص، وسنأتي على الأمثلة التي تؤكد هذا الأمر. ولكنا قبل ذلك نريد أن نضبط هذا النوع من الفقه – الأمر الذي أغفله الدكتور – لنعرف المقصود بالمصلحة والمفسدة، وأين يقام بالموازنة.
يفصّل في هذا الأمر بضبط ودقة، ويأتي بمئات الأمثلة والجزئيات التطبيقية الفقيه الشافعي الإمام عز الدين بن عبد السلام رحمه الله في كتابه: (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) صادر عن مؤسسة الريان.
يبين الإمام ابن عبد السلام أن المصلحة هي ما طلب فعله الشرع، والمفسدة هي ما نهى عنه الشرع. ولذلك فهو يقسِّم المصالح بحسب تقسيم الأحكام الشريعة. يقول في الصفحة 41: «إعلم أن المصالح ضربان، أحدهما ما يثاب على فعله لعظم المصلحة في فعله، ويعاقب على تركه لعظم المفسدة في تركه. وهو ضربان: أحدهما: فرض على الكفاية، كتعلّم الأحكام الشرعية الزائدة عن ما يتعين تعلمه على المكلفين، والثاني: فرض على الأعيان كتعلُّم ما يتعين تعلمه من أحكام الشريعة… الضرب الثاني من المصالح: ما يُثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، وهو ضربان: أحدهما سنة على الكفاية كالأذان والإقامة… والثاني: سنة على الأعيان كالرواتب… والمفاسد ضربان: أحدهما ما يُعاقب على فعله ويؤجر على تركه إذا نوى بتركه القُربة… والثاني ما لا يعاقب على فعله وتفوته مصلحة بتركه كالصلاة في الأوقات المكروهات…». ويقول في الصفحة 9: «والمصالح ثلاثة أنواع: أحدها: مصالح المباحات، والثاني: مصالح المندوبات، الثالث: مصالح الواجبات. والفاسد نوعان: أحدهما: مفاسد المكروهات، والثاني: مفاسد المحرمات». فالمفسدة هي ما جعله الشرع مفسدة والمصلحة هي ما جعله الشرع مصلحة، أما ما يتوصل إليه الإنسان، من المصالح والمفاسد، بتجاوبه وعقله، فهو من مصالح ومفاسد الدنيا ولا قيمة لها أمام مصالح ومفاسد الآخرة أو الدارين». يقول في الصفحة 9: «فكل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منعي عنه ففيه مفسدةٌ فيهما أو في إحداهما، ثم يقول: «فلا نسبة بمصالح الدنيا ومفاسدها إلى مصالح الآخرة ومفاسدها». وعليه فما يراه الإنسان مصلحة بعقلة وسعة إطلاعه وعلمه، يعتبر مفسدةً في الحقيقة، أو مصلحةً ملغاةً شرعاً، إذا خالف مدلول النص. وعليه أيضاً فتحديد المصالح والمفاسد راجع إلى الشرع وليس إلى العقل. وحيث يكون الشرع تكون المصلحة. وإذا وجد الإنسان بعقله غير ذلك، فعليه أن يخطّئ نفسه ويخضع لحكم الشرع. (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
فلا يمكن القيام بالموازنات بين المصالح أو المفاسد في الوقائع التي حسمها الشرع. فما نهى عنه الشرع فهو مفسدة، أي حرام،ولا تجوز الموازنة بين مصالح تركه ومصالح فعله، وإنما يجب تركه. وما نص الشرع على أنه واجب، فهو مصلحة، ويجب فعله، ولا تجوز الموازنة بين مصالح فعله ومصالح تركه أو مفاسدها. أين يقام بالموازنات إذاً؟
يقام بالموازنات في الحالات الخمس التالية:
أ- إذا كان القيام بالفعل المأمور به يقتضي، ولا بد، القيامَ بفعل منهي عنه.
ب- إذا كان القيام بالفعل المأمور به يقتضي، ولا بد، تركّ فعل آخر مأمور به.
جـ- إذا كان ترك المنهي عنه، يقتضي، ولا بد ترك فعل آخر مأمور به.
د- إذا كان ترك المنهي عنه، يقتضي، ولا بد، القيام بفعل آخر منهي عنه.
هـ- في المباحات.
وبناء على ما سبق وبيّناه؛ فالفعل المأمور به هو المصلحة والفعل المنهي عنه هو المفسدة. والموازنة بين مصلحتين أو فعلين مأمور بهما هي بتحديد أيهما واجب وأيهما مندوب، فالواجب أولى وآكد وألزم من المندوب في طلب الفعل. وإذا كان واجبين، وهذا من التشريع، فهو راجع إلى الشرع وحده. وإذا كانا مندوبين فالشرع يحدد أيهما مندوب أكثر.
والموازنة بين مفسدتين أو فعلين منهي عنهما هي بتحديد أيهما حرام وأيهما مكروه، فالحرام أولى وأشد وآكد وألزم في طلب الترك أو الانتهاء عن الفعل. وإذا كان حرامين تكون الموازنة لمعرفة أيهما أشد حرمةً، وهذا راجع إلى الشرع وحده. وإذا كانا مكروهين فالشرع يحدد أيهما أكثر كراهة.
وإذا كانت الموازنة بين مباحات، فهذا ممّا هو متروك للبشر أن يختاروا فيه. فالمباح هو ما خُيِّر فيه العبد بين الفعل والترك. ويختار الإنسان هنا ما يراه أكثر توصيلاً إلى المطلوب. وفي هذه الموازنة الأخيرة تفصيل لسنا بصدده.
أما أن ينهى الله سبحانه وتعالى عن فعل، ثم يأتي أحد ما. ليقول: إن ترك القيام بالفعل الذي نهى الله عنه يضيع علينا مصالح كبيرة، ثم يعدد لنا مصالح دنيوية أو عقلية، ويفتينا بجواز القيام بالفعل المحرم، فهذا ليس من الإسلام في شيء.
وقطعاً لكل ريبة، وسداً لكل تذرُّع عند المتذرعين بالمصالح المرسلة نقول: إن الأصوليين انقسموا في المصالح المرسلة بين أخذٍ بها ورادٍّ لها. أما الرادّون لها وهم جمهور العلماء الأصوليين، فقد رفضوا اعتبار المصلحة في التشريع، حتى لو لم يوجد نص شرعي يلغيها. وأوأ أن المصلحة لا تكون معتبرة إلا إذا دل عليها الدليل. وأما الآخذون بها فاشترطوا لاعتبارها شروطاً من بينها أن لا يوجد أي نص شرعي أو دليل يلغيها. والمصالح المرسلة داخلة أصلاً في المباحات، أو ما يطلق عليه البعض منطقة العفو.
كان هذا التقديم الطويل قبل دخول الموضوع، لأجل التحديد والضبط لبعض قواعد الأحكام، ولمفاهيم المصلحة والمصالح والمفسدة والمفاسد. وذلك لإسقاط الحجج الواهية كالمصلحة والمفسدة والموازنة والتجديد، التي اتخذ منها البعض في عصرنا، ومنهم الدكتور يوسف القرضاوي، منهجاً تبريرياً، ومدخلاً لتشريع فعل الحرام. والحجة دائماً: جلب المصلحة ودَرْءُ المفسدة.
يقول الدكتور القرضاوي تطبيقاً لفقه الموازنات في الصفحة 32 من كتابه: (أولويات الحركة الإسلامية): «فكثير من أسباب الخلاف بين الفصائل العاملة للإسلام يرجع إلى هذه الموازنات:
– هل يقبل التحالف مع قوى غير إسلامية.
– هل يقبل مصالحة أو مهادنة مع حكومات غير ملتزمة بالإسلام؟
– هل تمكن المشاركة في حكم ليس إسلامياً خالصاً؟ وفي ظل دستور فيه ثغرات أو مواد لا نرضى عنها تمام الرضى؟
– هل ندخل في جبهة معارضة مكونة من بعض الأحزاب لإسقاط نظام طاغوتي فاجر؟
– هل نقيم مؤسسات اقتصادية إسلامية مع سيطرة الاقتصاد الوضعي الربوي؟
– هل نجيز للعناصر المسلمة العمل في البنوك والمؤسسات الربوية أم نفرغها من كل عنصر متدين ملتزم؟» انتهى قول القرضاوي.
قبل الحديث في مضمون هذه القضايا، لنا ملاحظتان. الأولى: إن الأسئلة مصاغة بشكل يوجه الإجابة إلى ما يريده السائل. وما يريده الكاتب أفْصَحَ عنه في أماكن أخرى. الثانية: حذر الكاتب من ردة الفعل على طروحاته، إذ الظاهر فيها مناقضتها النصوص، وصيغة الاستفسار هي نفسها حذر. والحذر الأكبر في عدم تحديد وضبط القضية المطروحة للعلاج، وفي التهوين والتهويل الذي يعتمده الكاتب حيث يلزمه ذلك. وعدم الضبط هذا يصادر على ردة الفعل. ويعين على التنصل من المعاني المقصودة، بالتوسل بمعانٍ غيرها.
ففي المسألة الأولى مثلاً (هل يقبل التحالف مع قوى غير إسلامية؟) لم يبين لنا الدكتور موضوع التحالف أو بنوده، ولا خطته أو هدفه. وهل يترتب على الحركة في هذا التحالف التنازل عن بعض الأحكام أو المفاهيم الإسلامية؟ وهل يوجب على الحركة تبني أفكار أو مفاهيم غير إسلامية؟ أم أن التحالف هو فقط لتحقيق بعض الأخلاقيات والفضائل؟ ثم ما هو المقصود بالقوى غير الإسلامية، هل تتألف من ملحدين وعلمانيين؟ وهل من أهدافها محاربة الإسلام والحركات الإسلامية؟ وهل هي ذات صبغة توجه سياسي أم أنها جمعيات خيرية؟ وغير هذه الأسئلة. كل هذا غير واضح، والغموض في الواقع يؤدي إلى ضياع في الفهم، وعدم القدرة على إعطاء حكم، ويقف حائلاً دون محاكمة المعالجات المطروحة لهذا الواقع.
والقضية الثانية التي يطرحها الدكتور (هل تقبل مصالحة أو مهادنة مع حكومات غير ملتزمة بالإسلام)؟ لماذا التنكير في كلمتي (مصالحة) و(مهادنة)؟ وهل تقتضي هذه المصالحة أو المهادنة السكوت على منكرات الحكومات وعلى تطبيق الكفر؟ هل تقتضي إصدار بعض التصريحات والمواقف التي قد تفهم منها الأمة وقواعد الحركة شرعية الحكومات وأعمالها؟ هذا كله غامض.
أما القضية الثالثة فموضوعها واضح، وهو المشاركة في الحكم بالكفر، واضح مهما أُبْعِدَ عن الضبط. ولذلك نجد الدكتور هنا يحاول تهوين القضية، فبدل أن يقول «في حكم كفر» نراه يقول: «في حكم ليس إسلامياً خالصاً»،وبدل أن يقول: «في ظل دستور وضعي كافر» نجده يقول: «في ظل دستور فيه ثغرات» وبدل أن يقول: «حرم الله علينا أن نقبله أو نرضى به وأوجب علينا العمل لإزالته وتغييره». هو يقول: «لا نرضى به تمام الرضى». وكأن أنظمة الحكم في بلادنا إسلامية يشوبها قليل من أحكام غير إسلامية، أو كأن دساتيرنا إسلامية لولا بعض الثغرات أو المواد القليلة، أو كأننا راضون عن أنظمة الحكم القائمة في بلادنا وقوانينها، ولكن ليس تمام الرضى.
فلماذا التهوين؟ التهويم في قضية هي مصيرية، وهي الأولى عند الأمة الإسلامية الآن! أليست الأهداف كلها تتوجه نحو هدف إزالة أنظمة الكفر وتطبيق الإسلام، أليس في تمييع القضايا – المهمة على الخصوص – وعدم إعطائها العلاج الشرعي الصحيح يكمن خطر الانحلال والسقوط؟
القضيتان الرابعة والخامسة من أمثلة الدكتور القرضاوي ينطبق عليهما ما قلناه في القضيتين الأولى والثانية من حيث مطاطية المعاني.
القضية السادسة (هل نجيز للعناصر المسلمة العمل في البنوك والمؤسسات الربوية أو نفرغها من كل عنصر متدين ملتزم؟) فيها وضوح مهما مُيِّعَتْ، ولذلك نرى أسلوب الدكتور هو التهويل،ناهيك عن التوجيه الواضح. ما هي القيمة الشريعة لتفريغ أو عدم تفريغ المؤسسة الربوية من الملتزمين؟ لأن الربا حرام ومقارفته من الكبائر، ولا يمكن المساس بها، يعمد الدكتور على تهويل ما لا شأن له ولا أثر عليه المجددون اليوم، فلنتخيل بناء على هذه القضية، الأماكن الأخرى التي ينبغي أن لا نفرغها من الملتزمين وربما الملتزمات أيضاً.
كل هذا يقوم به الدكتور مع أنه يقول في الصفحة 96: «ومما ينافي التفكير العلمي تبسيط الأمور المعقدة، وتهوين الأمور الكبيرة، والنظر إلى المشكلات العويصة بسطحية مخيفة ومعالجة القضايا الكبرى بعقلية العوام وطريقة الدراويش» فهو يُقْدم على ما يحذّر منه.
هذا من جهة الصياغة المريبة والموجهة ومن جهة التهوين والتهويل. أما من جهة مضمون القضايا المطروحة كأمثلة على فقه الموازنات، فسنتناول قضيتين فقط وذلك لوضوح موضوعهما رغم ما شابهما. نترك الأربع الأخرى – وهي حمَّالة معانٍ – لعدم الإطالة.
القضية الأولى: هل تمكن المشاركة في حكم ليس إسلامياً خالصاً؟
لقد أوردنا في الصفحات السابقة توضيحاً وضبطاً للموازنات وموضع القيام بها. فهل تخضع هذه القضية لهذا الفقه؟ يقول تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ)، (الظَّالِمُونَ)، (الْفَاسِقُونَ)، ويقول: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ). هذه الآيات قاطعة في حرمة الحكم بالكفر. والمشاركة في الحكم بالكفر هي حكم بالكفر. فتكون حراماً.وتكون مفسدةً. والمصلحة التي يرتئيها الإنسان بعقله في اقتراف هذه الجريمة أو المفسدة، تعتبر ملغاة لأنها ناقضت النص الشرعي.
وأين الموازنة هنا؟ الموازنة يقام بها إذا كان ترك المشاركة يقتضي ولا بد ترك واجب، أو فعل حرام. والدكتور لا يذكر لنا هذه التفاصيل. فهل هناك مفسدة أكبر من مفسدة أو حرمة المشاركة نقع فيها حتماً إذا لم نشارك في الحكم بالفكر، وهل هناك مصلحة كبيرة أكبر من مصلحة ترك المشاركة تضيع إذا لم نشارك. هل هناك فعل واجب لا يمكن القيام به إلا بتحليل الحرام وهو المشاركة. كلا، لا يوجد أي شيء من هذا، ولم نعثر على أي شيء منه لا عند الدكتور القرضاوي ولا عند غيره ممن يتذرعون بالموازنات أو المصالح أو غيرها لتبرير فعل الحرام. وهل يقال عن هذا المنهج شيء سوى أنه تبريري وغير شرعي، ويحلل ما حرم الله؟ إنه ترك للشرع إلى الرأي، إلى الهوى، إنه تحكيم لحكم العقل عندما يصدمه النص وتبرير ذلك بالتجديد، التجديد الذي هو في حقيقته إزالة وتغيير لأحكام الشريعة، وأن ادعى المجدد غير ذلك. يقول في الصفحة 109: «إن تجديد شيء ما لا يعني إزالته واستحداث شيء آخر مكانه… » فها هو مرة أخرى يُقْدم على ما يحذّر منه، ولا يلتزم بما يقوله؟ كيف يُخضع الدكتور القرضاوي قضية شريعة، حسمها القرآن لمنطق الموازنات؟ يقول العز بن عبد السلام في الصفحة 49: «فويل لمن ترك سياسة الرحمن واتبع سياسة الشيطان وارتكب الفسوق والعصيان». (وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ).
القضية الثانية: هل نجيز للعناصر المسلمة العمل في البنوك والمؤسسات الربوية أم نفرغها من كل عنصر متدين ملتزم؟
نحن والدكتور نعلم أن الربا حرام ومن الكبائر. فهو مفسدة ومن أكبر المفاسد. ولم نجد عنده في إباحة هذه المفسدة (سنذكر نص الإباحة بعد قليل) مفسدة أخرى أكبر منها لا يمكن درؤها إلا باقتراف هذا العمل. ولا نجد مدخلاً للموازنة. المفسدة الأكبر عند الدكتور القرضاوي هي تفريغ المؤسسات الربوية من الملتزمين. ولكن هل تفريغ هذه المؤسسات حرام شرعاً لموازنة مع العمل بالربا؟ أو هل تفريغها يؤدي إلى ترك واجبات شريعة، أو تضييع مصالح طلبها الشرع ولا يمكن تحصيلها البتة إلا بالعمل المحرم بالربا؟ كلاّ، ولا يذكر الدكتور شيئاً من هذا. وعند التطبيق لا يقيم وزناً لأحد شروط الموازنة، وهو ما يسميه العلماء: التزاحم. أي أن يكون ترك الحرام مؤدياً ولا بد إلى حرام أكبر،مع أن الدكتور عندما يشرع لنا الموازنات المطلوبة يقول في الصفحة 30: «إذا تعارضت المفاسد والمضار، ولم يكن بد من بعضها، فمن المقرر أن يرتكب أخف المفسدتين، وأهون الضررين» ها هو إذاً، مرة ثالثة لا يلتزم بما يقوله.
ولا أعرف إن كان هناك أوضح من هذا التبرير ليدل على أن المنهج المقصود هو لتبرير فعل الحرام. فهل هناك حجة أكثر تهافتاً وسقوطاً من حجة التفريغ المزعومة لإباحة الحرام؟ أنه الإعراض عن آيات الله وعن أحكام الشريعة والإقبال على شريعة العقل المتأثر بالحضارة الغربية. قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) أما نص إباحة الربا الذي قلنا إنا سنذكره، فهو قول الدكتور القرضاوي في الصفحة 35: «وفي ضوء هذا الفقه (فقه الموازنات) أُفتي الشباب المسلم ألا يدع عمله في البنوك وشركات التأمين ونحوها، وإن كان في بقائه فيها بعض الإثم، لما وراء ذلك من استفادته خيرة يجب أن ينوي توظيفها في خدمة الاقتصاد الإسلامي مع إنكاره للمنكر ولو بقلبه وسعيه مع الساعين لتغيير الأوضاع كلها إلى أوضاع إسلامية». وليلاحظ القارئ – مرة أخرى – عملية التهوين والتهويل والحذر. التهوين بقوله: «بعض الإثم» والتهويل بذكر الخبرة التي ستصب في خدمة الاقتصاد الإسلامي. والحذر من ردة الفعل بقوله: «يجب أن ينوي توظيفها… » إلى آخر النص.
وعندما يستدل القرضاوي على الموازنات بالقرآن، لا يقوم بدراسة وافية مستقصية، ولا باجتهاد شرعي صحيح، وإنما يستدل بالآيات على عكس ما تدل عليه. يذكر في الصفحة 34 خمسة أمثلة من القرآن، نتناول منها هنا الأول والثاني فقط لعدم الإطالة. وهما الأبرز. يقول: «نجد في الموازنة بين المصالح قوله تعالى على لسان هارون لأخيه موسى عليهما السلام: (يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) طه: 94. وفي الموازنة بين المفاسد والأضرار نجد قوله تعالى على لسان الخضر في تعليل خرق السفينة: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) الكهف: 79. فلأن تبقى السفينة لأصحابها وبها خرق أهون من أن تضيع كلها، فحفظ البعض أولى من تضييع الكل».
أما الدليل الأول، فلم يذكر لنا القرضاوي وجه الدلالة في هذه الآية على الموازنة، وكيف يقرها القرآن. وإذا دلت الآية على قيام هارون بالموازنة، فالآيات دلت على رفض موسى لهذه الموازنة، وعلى رفض القرآن لها. فلنقرأ الآيات الواضحات مفصلة في سورة الأعراف: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لنكون مِنْ الْخَاسِرِينَ * وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بسما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي عجلتم أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). والآيات من سورة طه تقول على لسان موسى: (قَالَ يا هارون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِي فعصيت أَمْرِي) فالآيات تدل على رفض موسى لهذه الموازنة، وعلى أنه طلب المغفرة لأخيه. وهذا يدل على أن عمل هارون لم يكن هو الصحيح. ولكن قد تكون له فيه رخصة لأنه كان مُكرهاً (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي). ولذلك دعا له موسى بالمغفرة. وإذا عدنا إلى الموازنة التي قصدها الدكتور وهي: أيهما أفضل، سكوت هارون على اتخاذهم العجل من أجل بقائهم متّحدين، أم مجابهة هارون لمنكرهم التي ستؤدي إلى تفرّقهم؟ ويفهم من سياق كلام الدكتور أن هارون فضل وحدتهم ولو على عبادة العجل، على تفريقهم إلى فئتين واحدة تعبد الله والأخرى تعبد العجل.
وهذا الفهم أو هذا المعنى مرفوض بنص القرآن الذي يقول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ). فالتفرّق أفضل من التوحّد على الضلال والإثم والعدوان. وهذا أصل ثابت في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وفي شرائع الأنبياء السابقين. قال تعالى: (تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ… ) الآية. ولم يُبعث نبيٌّ إلا تفرّق القوم الذين بُعث فيهم إلى مؤمنين وكافرين يخاصم بعضهم بعضاً. وماذا يبقى من رسالة الأنبياء إذا كان همهم هو وحدة قومهم ولو على لكفر وعبادة العجول؟
أما الدليل الثاني في قصة سيدنا موسى مع الخضر عليهما السلام، فهي أيضاً دليل عليه لا له. فسيدنا موسى عندما شاهد الخضر وقد خرق السفينة، قدَّر الأمور بعقله وبعلمه القاصر عن الغيب، فوجد في فعل الخضر ضرراً ومفسدة، والأمر نفسه حصل عندما قتل الخضرُ الغلام، وعندما أقام الجدار. كما أخبرنا تعالى في سورة الكهف. فاستنكر موسى أعمال الخضر. فهل كانت الموازنات المنسوبة إليه شرعية أو صحيحة،وهل تدل الآية التي استدل بها الدكتور على شرعية الموازنات العقلية؟
إن آيات سورة الكهف تدل على شرعية فعل الخضر وعلى عدم شرعية استنكار موسى لفعله. مما يدل على عدم شرعية الموازنات العقلية، وأن موازنات العقل لا تدل على المصلحة الحقيقية، لأن العقل عاجز عن الإدراك المحيط بالحاضر، ناهيك عن الغيب المستور. وإذا كان الدكتور يقصد أن الذي قام بالموازنة هو الخضر، فليس له ذلك، لأن الخضر لم يفعل ما فعله إلا لأن الله أمره بذلك كما بيّنت الآيات: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) والبيان المفصل الذي قدمه الخضر لموسى يدل على أن أمر الله تعالى هو المصلحة الحقيقية. لأن المصالح العقلية المتكَهَّنة والمظنونة بتقدير البشر ينقصها العلم بالغيب والعلم بالحاضر: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً). وقد تكون المفسدة حيث نظن المصلحة مهما اتَّسع فقهنا بالواقع وبسنن الحياة والمجتمعات والكون (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ). فالعبرة التي نأخذها من القصة، والمعاني التي نفهمها من الآيات هي وجوب التزام الوحي ولو تعارض مع العقل، لأن العقل قاصر. والوحي هو من ند الله الذي خلق الواقع وخلق السنن ويعلم الغيب والحاضر (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). ونعود مرةً أخرى لنؤكد أن الخضر لم يفعل ما فعل بناء على منطق الموازنات، وإنما امتثالاً لأمر الله. (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي). وأن عمل الموازنات في مورد النص لا يجوز، ويؤدي إلى الخطأ كما حصل مع موسى عليه السلام، وهذا بدوره يؤدي إلى الشقاء في الدنيا وفي الآخرة.
ونذكّر هنا بالقول المشهور للعلماء: «لا اجتهاد في مورد النص».
هذا هو الدليل الثاني عند الدكتور القرضاوي وهو لا يؤيد ما يدعو إليه. يقول في الصفحة 94 حول الفكر العلمي الذي يدعو إليه: «ذلك الفكر الذي لا يقبل دعوى بغير دليل، ولا نتائج بغير مقدمات، ولا يقبل من الأدلة إلا الموثق، ولا من المقدمات إلا اليقين الذي لا يرتاب فيه».
وهكذا يمضي القرضاوي في كثير مما سنذكر منه قليلاً. يقول في الصفحة 33: «لقد لقي العلاّمة المودودي وجماعته عنتاً كثيراً حينما رأى – في ضوء فقه الموازنات – أن انتخاب فاطمة جناح أقل ضرراً من انتخاب أيوب خان، فشنَّت الغارة عليهم بحديث «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة». وهل يفلح قوم ولو أمرهم طاغية متجبراً؟ لن يفلحوا». وهكذا تنتهي القضية عند القرضاوي. فهل هذه الطريقة البحث صحيحة شرعاً؟ كلا، لا يجوز اتخاذ الطاغية المتجبر حجة لترك الحديث. وليس معنى ترك تولية الأمر للمرأة، أن يتولاه الطاغية المتجبر، فهناك عمل ثالث هو أن يتولى المؤمن العادل التقي. وإذا كانت الأوضاع كلها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن نُقْدم على فعل الحرام. فليس في هذه القضية بدٌّ أو حتم، بل هناك حل ثالث وهو عدم الإقدام على أيٍّ منهما.
وفي ظل هذه الدعوة إلى التجديد، وهو تبرير تشريع ما هو غير مشروع، بأسلوب متغافل وغير عملي، تدخل مفاهيم الحضارة الغربية، ويصبح قول الملتزمين بدلالات النصوص غريباً عجيباً. فتُشرع المطالبة بالديمقراطية ويصبح الإسلام دين الحريات العامة، وتصبح الأحزاب غير الإسلامية أمراً مشروعاً، ويصبح الخليفة أجيراً عند الشعب، وتصبح السيرة النبوية ليست من السنة. ومثل هذه الأقوال يكررها القرضاوي في أكثر من موضع ومناسبة. يتحدث في الصفحة 128عن: «الخلل ينبغي علاجه فيما نقرؤه ونسمعه من مفاهيم غريبة، وأحكام عجيبة، ومناهج في الاستدلال أغرب وأعجب». ثم يقول: «لقد رأينا من يعتبر الشورى معلمة لا ملزمة، ومن يمنح رئيس الدولة حق إعلان الحرب وعقد المعاهدات دون الرجوع إلى ممثلي الأمة… ومن يرى الديمقراطية كفراً أو سبيلاً إلى الكفر!»، «ومن يرى أن التعددية – كما يقال اليوم أمر يرفضه الإسلام».
ولا بد أن نشير هنا إلى أن التعددية تعني جواز وجود أحزاب تقوم على أساس عقائدي كفر وتدعو إليه كالأحزاب العلمانية والشيوعية. ولن نستقصي هنا كل أقواله فمن أرادها فليرجع إلى كتابه.
ولأن، هذا المنهج الذي يدعو إليه يخالف منهج وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، نراه يقلل من شأن السيرة، ويكاد يخرجها من السنة. ولربما فعل، فليقرِّر القارئ: يقول الدكتور يوسف القرضاوي في الصفحة 133: «والسيرة ليست مرادفة للسنة، فمن السيرة ما لا يدخل في التشريع، ولا صلة له به، ولهذا لم يدخل الأصوليون السيرة في تعريف السنة، بل قالوا: السنة ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، ولم يجعلوا السيرة منها».
ثم يقول: «المهم أن بعض الفصائل الإسلامية تتخذ من السيرة دليلاً على الأحكام وتعتبرها ملزمةً لكل المسلمين». ثم يقول: «على أن اتخاذ الأسوة من سيرته إنما يكون في الأخلاق والقيم والمواقف العامة، لا في المواقف التفصيلية». ثم سرعان ما ينسى الدكتور قوله إن الأصوليين قد أخرجوا السيرة من السنة، فيقول: «إن السيرة تمثل الجانب العملي من حياة النبي صلى الله عليه وسلم أي تمثل قسم (الفعل) من السنة غالباً».
عجيب غريب قول الدكتور هذا، وهل تعدو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون قولاً أو فعلاً أو تقريراً، فيكف يخرجها من السنة حسب التعريف الذي أورده. ثم هو نفسه عاد وأكد أن السيرة تمثل قسم الفعل من السنة. فما الذي يريده؟ ولماذا هو مضطرب بشأن السيرة؟ ولماذا، وبماذا يعترض على الفصائل الذين يجعلونها قسماً من السنة ويحتجون بها كاحتجاجهم بأي شيء صادر عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد النوبة؟ هل هذا ما يقتضيه تجديد الدين؟ ومن هم الذين جعلوا السيرة بديلاً عن السنة حتى يشنَّ حملته عليهم؟
السيرة هي بعض السنة، والسيرة المعنية هي ما بعد البعثة. وهي سيرة النبي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وليس سواه. والأحكام الشرعية تستفاد من السيرة كما تستفاد من السنة. أما تعذر الدكتور بأن: «في السيرة كثيراً من الوقائع والأحداث مروية بغير السند المتصل الصحيح… » فهذا شأن كثير من مصادر السنة الموجودة بين يدينا. فهل نرد الاستدلال بأحاديثه صلى الله عليه وسلم، لأن كثيراً من الأحاديث مروية بغير السند المتصل الصحيح. وبما أن الدكتور لا يردّ مصادر الأحاديث وكتب السنن، فعليه أن لا يرد السيرة وأن يعتبرها مصدراً للتشريع. وما يثبتُ يُعتبر وما لا يثبت لا يعتبر، شأن كل ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي ختام هذا البحث نسأل الله لأنفسنا ولجميع إخواننا من المسلمين، وخاصة العلماء والدعاة والباحثين، أن يبعد عنا الضلال ويبعدنا عنه،وأن يحفظنا من لوثات الكفار والتشبه بالكفار، وأن يهدينا لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. ربنا: (وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ¨
1995-01-31