صراع الحضارات في القرن العشرين (2)
1995/01/31م
المقالات
3,691 زيارة
تحليل قوى أطراف الصراع:
إن الظروف السياسية أو القوى المادية والعسكرية المتاحة؛ لا تعتبر أي منهما أو حتى كلاهما سبباً حقيقياً في هزيمة حضارة ما، وذلك أن الصراع بين الحضارات تحكمه قوة مفاهيمها عن الحياة، وهي عنصر الصراع الحقيقي فيه.
وتراجع حضارة ما أو سقوطها قد لا يرجع إلى صراعها مع حضارة مقابلة بقدر ما قد يكون السبب هو فشل أدائها أثناء تطبيق مفاهيمها في معترك الحياة.
وفشل أداء حضارة ما لا يعني أن العيب راجع إلى المفاهيم دائماً قد بل يكون الخلل راجعاً إلى عوامل خارجة عنها؛ كأن تكون تلك المفاهيم قد افتقدت سلامة التطبيق؛ أو دخلت عليها عوامل التغشية فأبهمتها وأفقدتها النقاء والصفاء والبلورة.
وإذا تطرق الخلل إلى ذات المفاهيم، وتبين أن العيب راجع إليها، فسوق تكون الجولة في النهاية عليها، وذلك لأن فساد المفاهيم سوف يؤدي إلى نتائج فاسدة أثناء السير في معترك الحياة؛ وتراكم النتائج الفاسدة يدفع إلى التطلع للخلاص من تلك المفاهيم أو ترقيعها؛ وإذا احتاجت إلى الترقيع فذلك يعني أن قوتها الظاهرة سوف تأخذ طريقها للانهيار. وأبرز ما يُسرِّع به هو ظهور بديل حضاري أقوى.
لكل ما سبق نركز في تحليلنا على ذات المفاهيم وبخطوط عريضة لنبيّن قوتها من ضعفها، وذلك يحم محاكمتها عقلياً برؤية مطابقتها للواقع الذي جاءت لعلاجه.
ولأننا حددنا منذ البداية نطاق الرؤية للحضارة من الزوايا الثلاثة والتي نراها شاملة ومنصفة للنظر من خلالها، فسوت تكون تلك الزوايا الثلاثة هي قطب الرحى الذي يدور عليه التحليل، متناولين أبعاد كل زاوية منها ما أمكن، ثم نستعرض معالجة الحضارات الثلاثة لتلك الزاوية.
الزاوية الأولى: الأساس الذي قامت عليه الحضارة.
أما الأساس الذي قامت عليه كل حضارة من الحضارات الثلاثة فهو أساس عقائدي كما أسلفنا؛ حدد رؤية كل حضارة منها للوجود ابتداءَ وعلاقة هذه الرؤية بالحياة.
والوجود الذي نعنيه هو الكون والإنسان والحياة، والرؤية المقصودة هي الفكرة الكلية عنها؛ قبل قبلها شيء؟ وهل بعدها شيء؟ وما هي علاقة ما قبلها وما بعدها بالحياة؟.
وبمعنى آخر: تفسير لغز ودود الإنسان والذي يشكل عقدة العقد بالنسبة إليه، والتي بحلها يمكن إعطاء رؤية لباقي عقد الحياة ومشاكلها.
ونحن هنا أمام ثلاث إجابات:
أحدها: تقول إن قبل هذا الوجود خالقاً خلقه، وبعده حساب دقيق على أعمال الإنسان. وأن صلة الخالق بحياة البشر صلة تنظيم شامل بأوامر ونواه.
والثانية: أجابت بترك البحث عما قبل الحياة وعما بعدها وركزت على إنكار صلتها بالحياة، وهي بهذا تعطي اعترافاً ضمنياً.
والثالثة: تنكر وجود شيء قبل الحياة أو بعدها.
والحكم على صدق هذه الإجابات يتوقف على أمرين:
الأول: إقناع العقل بمطابقة الإجابة للواقع المبحوث.
والثاني: موافقته لفطرة الإنسان.
والحقيقة التي لا ينكرها العقل البشري، بل هي من بديهياته، أن لكل نظام مُنَظِم، فهو لا يُصدِّق أن إبرة أو حتى عود ثقاب وجد دون صانع ومنظم، ولا يترك أي مجال للصدفة. فكيف إذا أنعم النظر في تركيب جسم الإنسان وعمل أجهزته وتناسقها، وإذا ما ألقى نظرة على الكون ورأى انتظام حركة الكواكب والنجوم، ونظر إلى الموجودات تركيباً وترتيباً، أفيخرج بنتيجة ينكر فيها وجود صانع ومنظم لهذا الوجود؟ لا، بل إن الذي ينظر بنزاهة وجدية قاصداً الاهتداء إلى الحق يصل إلى الإيمان بوجود الخالق المدبّر.
وإذا كان الأمر بمثل كل هذه البساطة التي تقترب من البديهيات فلماذا إذن أنكر المنكرون؟ وأجاب غيرهم بترك البحث؟.
ودون الدخول في التفصيلات فقد ولدت حضارة من أنكر ميتة لمصادمتها للضرورة العقلية واعتمدت في صمودها بادئ الأمر على ناحيتين:
الأولى: إدخال العقل بمتاهات وخيالات ألبسوها لباس العلم وقوانينه، في الوقت الذي كان يقف فيه العقل ذاهلاً أمام قفزات العلم وتخطيه لدخل متخلفين وقفوا أمام العلم باسم الدين.
والثانية: صرف أنظار الناس بالتركيز على مخاطبة المعدة لا العقل، واستغلال الدافع الغريزي عند الإنسان لنفوره من الظلم، في إحداث الثورة على الظلم الاقتصادي، في وقت كان الكثيرون يعانون من الفقر والجوع نتيجة لتطبيق المذاهب الفردي (الرأسمالية) عليهم.
وأما من أجاب بترك البحث مع اعترافه الضمني، فلم تكن إجابته ناتجة عن البحث في واقع الوجود، وإنما بناها على الحل الوسط – ترضية – بين من أنكروا الدين والخالق من ورائه، كردة فعل على تصرفات رجال الدين النصارى في أوروبا في ذلك الوقت، وبين رجال الدين الذين أرادوا أن تبقى أهواؤهم متحكمة في حياة الأوروبيين رغم عدم وجود دور لدينهم أصلاً في معالجة مشاكل الحياة ورعاية شؤون الناس فيها. لذلك كانت الإجابة التي تقنع العقل هي التي تقول بوجود خالق مدبّر للوجود.
ولما كان الإنسان يحس من نفسه العجز ويتطلع إلى إعطاء منتهى الاحترام القلبي – التقديس – إلى من يحس بسموه عنه، وعجزه اتجاهه.
ولما كان تاريخ الإنسان لم يخلُ إطلاقاً ولا في أي عصر من العصور من أدائه طقوساً وعبادات، مما يؤكد حاجته إلى التقديس والعبادة. لذلك كان تقديس خالق الوجود بعد الإيمان به هو أرقى مظهر يفرغ به تلك الطاقة، فلا يسجد لصنم ولا يعبد بقرة أو يقف خاشعاً أمام جثة لينين المحنطة أو يقدس كلامه، بل يقدس ما هو فوق المخلوقات.
من هنا فقد ولدت الحضارة الاشتراكية ميتة كما قلنا لمصادمتها لضرورات العقل البشري ومخالفتها لفطرة الإنسان. وقد ماتت بالفعل وسقطت صريعة خطأ أساسها، وكان دور الآخرين في إسقاطها هامشياً في الحقيقة واقفاً عند حد التعجيل به.
أما الحضارة الرأسمالية فهي كذلك محكوم عليها بالتدهور والسقوط، وسر سقوطها الأساسي كامن في خطأ عقيدتها القائلة بفصل الدين عن الحياة، أمّا لماذا تأخر سقوطها إلى هذا الوقت فلشد ما أعجبني تحليل المفكر الإسلامي الأستاذ «يوسف عبد ربه» والذي نشرته مجلة «الوعي» تحت عنوان «مستقبل الرأسمالية» عدد (68) حيث يقول: «… ترك المبدأ الرأسمالي متنفساً ضئيلاً يهرب إليه الفرد عندما تضيق عليه الدنيا وتخنقه الأزمات العقيدية والمجتمعية، ويعتبر هذا المنتنفس إشباعاً جزئياً وضئيلاً لبعض غريزة التدين المفطورة في الإنسان، ورغم هامشية هذا المتنفس فإنه يحمي إلى حين سور الفكر الرأسمالي من السقوط، إذ بسبب هذا المتنفس يترك الفكر الغربي الباب مفتوحاً أمام كل التفسيرات الممكنة للوجود لو كانت خاطئة ومستحيلة».
أما العقيدة الإسلامية فقد قدمت للإنسانية أمتن الأسس التي يمكن أن تقوم عليها حضارة، لذلك فقد صمدت تلك الحضارة قروناً طويلة، وقدمت، فوق كونها من أطول الحضارات عمراً، أرقى أنموذج للحياة الإنسانية، ولم يكن تراجعها بسبب ضعف أساسها العقائدي أو ما تفرع عنه، وإنما لأسباب خارجة عنها ليس هنا محل بحثها.
– ويجب أن يلاحظ جيداً أن العقيدة الإسلامية رغم تراجع الحضارة الإسلامية ما زالت موجودة في نفوس المسلمين، وهذا مما يؤكد قوتها وصحتها، بل أن غالبية المسلمين يعتبرون أن سبب انتكاسهم وفقدان عزّتهم وحضارتهم هو بعدهم عن تطبيق ما تقتضيه عقيدتهم.
– كما يجدر أن يلاحظ أن العقيدة الإسلامية قد وافقت الفطرة ليس فقط في تفسير الوجود وإدراك ما قبل الحياة وما بعدها، بل كذلك في جعل التشريع لله خالق الوجود، وذلك ما أن الفكرة الإنسانية تتطلب التدين والتقديس في مظاهر التعبد المحضة المختلفة، حيث يظهر عجز الإنسان وتناقضه وتراجعه الكثير بين فترة وأخرى وهو يحاول وضع تشريعات للحياة.
لذلك فقد كان الحضارة الغربية بعقيدتها (فصل الدين عن الحياة) مخالفة لفطرة الإنسان من هذا الجانب كذلك.
– والحضارة الإسلامية التي تقتضي عقيدتها الإيمان بأن بعد الحياة بعثاً ونشوراً، وحساباً على أعمال الإنسان وتصرفاته في الحياة تؤمّن بذلك نقطتي مراقبة لأزمتين لاستقامة السير حسب التشريعات المنبثقة عنها. ففوق نقطة المراقبة الدنيوية المتمثلة بقوة السطلان هناك نقطة ثانية أكثر فاعلية وهي اتقاء الله والطمع بجنته والخوف من عذابه.
وهي بذلك تتفوق على الحضارة الغربية وعقيدتها التي لا تستطيع إلا أن تؤمن نقطة مراقبة واحدة وهي قوة السلطان. فكانت في هذا المجال كالذي يسير على قدم واحدة لا على قدمين ثابتتين، أما ما يقال عن تنمية احترام القانون فهي قدم اصطناعية سرعان ما تنهار إذا ما اصطدمت بقوة مع المصالح الشخصية (ازدهار المافيات).
– وفوق ذلك فإن اندفاع المسلم المؤمن بمفهوم عقيدة البعث والحساب نحو القيام بأعمال الخير، وتقديم التضحيات الجسيمة أعظم بالقطع من اندفاع من يعتنقون مفاهيم الحضارة الغربية المادية، ولا ينكر عاقل أن الطاقة الروحية أعظم من أي قوة أخرى تقابلها في الوجود.
– والحضارة الإسلامية التي تقتضي عقيدتها الإيمان بقضاء الله حيث لا يستطيع الإنسان ردّ ما وقع منه أو عليه جبراً عنه تجعل المؤمن دائم الطمأنينة، فلا تنشأ لديه العقد النفسية لأنها خلق طويلاً أو قصيراً، أسود البشرة أو أبيضها، ولا تذهب نفسه حسرات حين موت عزيز عليه، ولا يأكله الندم لفقدان فرصة أو رزق فاتت جبراً عنه، بل يندفع للأخذ بالأسباب من جديد محتسباً ما يلقاه من عنت عند الله تعالى مردداً: لا رادّ لقضائه.
ولخلو الحضارة الغربية من مثل هذا المفهوم العقائدي فإنك تجد الشرود والحسد والحقد والعقد النفسية تشل الكثيرين من معتنقي مفاهيمها، ومن لا يصدق فليزر العيادات النفسية في البلاد الغربية التي تكاد تفوق عدد العيادات الجسدية.
وخلاصة القول بعد استعراض أسس الحضارات الثلاث وتحليلها من ناحية عقلية لمعرفة صد انطباقها على الواقع المبحوث أو المراد علاجه يتبيّن مدى قوة أساس الحضارة الإسلامية وتفوقه. ويكفي للتدليل على قولنا هذا فوق ما تم استعراضه أنه على الرغم من مرور عشرات السنين على تراجع الحضارة الإسلامية عن قيادة العالم وعلى الرغم من سقوط آخر آثارها بهدم الخلافة الإسلامية والذي مرّ عليه أكثر من سبعين عاماً، وفوق كل ما مورس على المسلمين من تضليل وإفساد وإبعاد عن مفاهيم حضارتهم فما زالت العقيدة الإسلامية تحمل نفس قوة الدفع التي استطاعت بها أن تشخن حملة مشاعل الحضارة الإسلامية الأوائل بالحيوية والإقدام لخوض معترك الحياة؛ في الوقت الذي شاهدنا فيه كيف تخلى من تظاهروا بحماستهم للاشتراكية عنها وبالملايين لمجرد انفراط عقد المنظومة الاشتراكية العتيدة. وما انهيار ذلك البنيان الضخم المسمّى بالحضارة الغربية، لتحقُّقِنا من وهن أساسه، ببعيد ¨
(يتبع)
1995-01-31