افتتاحية العدد: أيها المسلمون: أروا الله من أنفسكم خيراً
1995/02/01م
المقالات, كلمات الأعداد
2,127 زيارة
إن شهر رمضان المبارك الذي كرمه الله بجعله شهر القرآن، وجعل فيه ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، وكذلك شرفه بأعظم وأظفر فتوح ومعارك الإسلام، كفتح مكة ومعركة بدر التي كانت كما قال القرآن فرقاناً بين الحق والباطل وبين الكفر والإيمان، يعود على الأمة الإسلامية وما زال تكالب قوى الكفر والنفاق وأذيال الخيانة والعمالة عليها مستمراً متزايداً مستهدفاً إفناء هذه الأمة بوصفها الأمة الإسلامية التي تميزت بالنفسية الخيرة والعقلية النيرة والفضائل السامية فهي الأمة التي تملكت من الصفات ما أهلها لأن تكون خير أمة أخرجت للناس حيث نشرت الهدى وحققت العدل في العالم، وتحرت الحق في حكم رعاياها مسلمين وغير مسلمين، وشملت الناس بالرحمة وإحاطتهم بالرعاية ونشرت الطمأنينة وأوجدت الاستقرار ومتعت كل من استجاب لدعوتها بسعادة الحياة، فهي الأمة التي عاشت من أجل إنقاذ الناس من الشر والكفر، واستشهد الملايين منها في سبيل إعلاء كلمة الله، وكان عملها الأصلي في الحياة هداية الناس، ومثلها الأعلى نوال رضوان الله.
هذه الأمة تعيش هذه الأيام المباركة وقد ألمت بها المحن من كل صوب، وأحدقت بها الأخطار من كل ناحية، ويلحق بها يوماً بعد يوم القتل والتشريد والدمار على امتداد بلادها، مع تركز سيطرة الكفار على بلادها ومقدراتها من خلال خنوع وخضوع الفئة المتسلطة على رقابها، كما وإنها ترزح تحت سيادة أنظمة الكفر، وتعاني من الذلة والانكسار، وهذا الواقع يفرض علينا كمسلمين البحث عن الرؤيا الواضحة الصادقة التي يتلوها العمل الجاد والحازم لتغيير هذا الواقع ورد كيد الكافرين والمنافقين وأشياعهم، وإعادة الأمة إلى سابق عزها ومجدها خير أمة أخرجت للناس.
ومن مشاعل الهدى ومواطن العبرة، وموضع الأسوة الاقتداء في هذا الشهر الكريم يوم بدر، يوم الفرقان يوم التقى الجمعان. قال تعالى: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ).
لقد كانت غزوة بدر – التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه ومدده – فرقاناً، فرقاناً بين الحق والباطل، فرقاناً بين العبودية والواقعية للأشخاص والأهواء والقيم الجاهلية والأوضاع والشرائع والقوانين البشرية والتقاليد والعادات التي تمثلها قريش بجاهليتها، وبين العبودية لله الواحد القهار الذي لا إله غيره ولا رب سواه ولا حاكم دونه ولا مشرّع إلا هو، فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله، وتحررت البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة فأصبحت لا تخضع إلا لحاكمتيه وشرعه وكانت فرقاناً بين عهدين، عهد الصبر والمصابرة وجهاد الكفار جهاداً فكرياً وسياسياً بكتاب الله وعقيدة الإسلام بما فيها من قوة الفكر وسلطان الإيمان، وبين عهد الدولة التي خضعت لألوهية الله وحده وحاكمتيه فانطلق الإسلام مع هذه المعركة من مجرد مفاهيم العقيدة الكامنة في العقول والقلوب والشعائر التعبدية والأخلاق الفردية والقلة من أحكام المعاملات، إلى عقيدة سياسية شاملة وقيادة فكرية جامعة تنطلق لإسعاد البشرية جميعها ولتزيل كل العوائق المادية التي تكبلها وتحول بينها وبين التطبيق العملي لرسالة الإسلام في حياة البشرية.
وكانت فرقاناً بين مفهومين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة فبينت للناس عملياً أن النصر للعقيدة الصحيحة الراسخة على الكثرة العددية وعلى الزاد العتاد، وعاش الناس ذلك واقعاً متحققاً للعيان.
وأخيرً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل بالمدلول الذي جاء في قول الله تعالى في سورة الأنفال: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ * وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ). لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة، فأراد الله لهم غير ما أرادو، أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان (غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ) وأن يلاقوا نفير أبي جهل (ذات الشوكة)، وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة. وقال لهم سبحانه وتعالى إنه صنع هذا: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ)، وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبرى وهي أن الحق لا يحق وأن الباطل لا يبطل في المجتمع الإنساني بمجرد البيان النظري للحق والباطل، ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حق وهذا باطل… بل إن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس وإن الباطل لا يزهق ولا يغيب من واقع الحياة إلا بتحطيم سلطان الباطل وإعلاء سلطان الإسلام بجعل الحكم أي السلطة التي ترعى شؤون الناس بيد المسلمين الذي يضعون أحكام الإسلام موضع التطبيق والتنفيذ فالإسلام ليس نظرية مجردة للمعرفة والجدل ولا ديناً كهنوتياً لا يحرك صاحبة لتغيير المنكر وقهر الباطل بل هو الدين الذي يجعل القائم بالحق والمدافع عنه بحياته سيد الشهداء أعد له ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
إن المسلمين حين خرجوا من المدينة نزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة ونزل جيش المشركين بالضفة الأخرى وبين الفريقين ربوة تفصلهما أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف البحر أسفل من الجيشين. ولم يكن أي من الجيشين يعلم بموقع الآخر وإنما جمعهما الله هكذا على جانبي الربوة حتى لو أن بينهما موعداً على اللقاء ما اجتمعا بهذه الدقة والضبط زماناً ومكاناً وذاك لأمر يريده الله تبارك وتعالى حيث قال: (إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً) والله عز وجل يخبرنا عن هذا الأمر بقوله (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) حيث أنه في انتصار الدولة المسلمة الفتية مع قلة العدد والعدة لأمر يعين على جلاء العيون والقلوب، وعلى إزالة اللبس في العقول والنفوس بحيث يتبين الأمر بهذا الفتح الجلي فلا تعود لمن يختار الهلاك أي الكفر شبهة في الحق الذي استعلن واستعلى وانتصر. كما أن الذي يريد أن يحيا أي يؤمن لا يعود لديه شك في أن هذا هو الحق الذي ينصره الله ويخذل الطغاة.
ويمضي القرآن في بيان تدبير الله عز وجل حيث يقول: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
لقد كان من تدبير الله في المعركة أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكافرين في الرؤيا في منامه قليلاً لا قوة لهم ولا وزن، فينبئ أصحابه برؤياه فيستبشروا بها ويتشجعوا على خوض المعركة. ويخبر الله لم أراهم لنبيه قليلاً، فلقد علم سبحانه أنه لو أراهم له كثيراً لفتّ ذلك في قلوب القلة التي معه، وقد خرجت على غير استعداد ولا توقع لقتال، ولضعفوا عن لقاء عدوهم ولتنازعوا فيما بينهم على ملاقاتهم، فريق يرى أن يقاتلهم وفريق يرى تجنب الالتحام بهم… وهذا النزاع في هذا الظرف هو أبأس ما يصيب جيشاً يواجه عدواً (وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
وحينما التقى الجمعان وجهاً لوجه تكررت الرؤيا النبوية الصادقة في صورة عيانية من الجانبين، وكان هذا من التدبير الذي يذكرهم الله به عند استعراض المعركة وأحداثها وما ورائها (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ)، فهو أمر من الأمور التي مرجعها إلى الله، فالتدبير تدبير الله والنصر من عند الله، والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر، والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة، فليثبت الذين آمنوا إذن حين يلقون الذين كفروا، وليتزودوا بالعدة الحقيقية للمعركة، وليأخذوا بالأسباب الموصولة بصاحب التدبير والتقدير وصاحب العون والمد وصاحب القوة والسلطان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ * وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، فهذه عوامل النصر الحقيقة، الثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله بالذكر والطاعة لله والرسول، وتجنب النزاع والشقاق، والصبر على تكاليف المعركة، والحذر من البطر والرياء والبغي. إضافة إلى الإعداد قدر الاستطاعة، فإن من سنته تعالى أن يبذل المؤمن قدر استطاعته استعداداً للمعركة (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) وتبقى الحقيقة الخالدة الراسخة التي لا تتغير أبد الآبدين ألا وهي أن النصر من عند الله العزيز الحكيم (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ) وأنه هو المحيي والمميت (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ) وهو واهب الملك ونازعه وهو المعز والمذل (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
إن كل هذه الحقائق الناصعة التي نبصرها مع أحداث رمضان المبارك تعطينا القوة الروحية الدفاقة اللازمة للنهوض بالمسلمين وتغيير واقعهم الأليم إلى المكانة اللائقة بهم مع إيماننا بأن تحقيق ذلك بشكل فعال ومؤثر لا يتأتى إلا بوجود دولة تقوم على أساس الإسلام فتطبق كتاب الله وسنة رسوله، وتجمع طاقات المسلمين وتحشدها في مواجهة الكفر وأهله، خاصة وأنه لا أمل اليوم – كما أنه لم يكن يوماً قط للواعين من قبل – في حكام المسلمين بعد انفضح ستر كل أفاك أثيم، وأصبحت الخيانة والغدر ومعاداة الأمة الإسلامية واضحة للعيان، يراها كل حي ويستشعرها حتى الغافلون. ولذا فإن قضية المسلمين المصيرية الأولى، هي السعي لإقامة دولة الخلافة الراشدة التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» وأما السبيل إلى ذلك فلا يتأتى إلا بالعمل الجماعي، فعلى المسلم أن يتوجه إلى العمل الجماعي مع الكتلة الإسلامية التي يعمل أنها تعمل بجد وإخلاص لهذه الغاية وتسير في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أفعالها وأقوالها منبثقة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا تحيد في سيرها عن ذلك قدر أنملة ولا يثنيها عن ذلك ثان.
أيها المسلمون
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرح بقدوم شهر رمضان ويبشر بمقدمه أصحابه، فكان يقول: «أتأكم رمضان شهر بركة، ويغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله».
فيا أيها المسلمون
استجيبوا لنداء نبيكم الكريم صلى الله عليه وسلم وأروا الله من أنفسكم خيراً فبادروا إلى صالح الأعمال وخاصة العمل لعودة الحكم بما أنزل الله لعل الله يكرم المسلمين بإقامة الخلافة الراشدة واسترداد عزة الإسلام والمسلمين.
1995-02-01