المفهوم الصحيح للتجديد في أصول الفقه
1995/08/31م
المقالات
2,837 زيارة
بقلم: أسامة مطر
ذكرنا في مقال سابق بأن التجديد الذي يقره الإسلام يفارق الابتداع من حيث كونه إزالة لما زاد أو تتميما لما نقص، وبهذا المقياس حاولنا تقييم آراء دعاة التجديد في أصول الفقه فوجدنا أنهم يبتدعون ولا يجددون، وضربت لتوضيح ذلك أمثله من القياس والإجماع ونحن الآن أمام سؤال لا مندوحة عن طرحه في سياق الحديث عن التجديد. هو كيف يكون التجديد الصحيح لا الابتداع في أصول الفقه؟ وحتى نستطيع الإجابة على هذا السؤال فلا بد لنا بعد معرفة حد أصول الفقه من معرفة كيفية نشوء هذا العلم وتطوره.
نشوء أصول الفقه
لقد كان الصحابة الكرام ومن تبعهم حتى عهد الإمام الشافعي رضي الله عنهم جميعا يجتهدون في المسائل المطروحة في زمانهم دون الرجوع إلى قواعد منضبطة معروفة لعدم حاجتهم لمثل هذه الضوابط بسبب سليقتهم العربية وإلمامهم بالمعاني الشرعية التي أخذت من الرسول صلى الله عليه وسلم وعن طريق ما استفادوه هم بفهمهم من النصوص، وقد وفقوا أثناء قيامهم بعمليات الاستنباط فما خرجوا في جملة ما استنبطوه عن معاني الشريعة ومراميها فكانوا بحق أروع واقدر المجتهدين على الإطلاق. ولكنه بعد أن كثرت المسائل وتفرع الفقه واختلف الاجتهاد وفسد اللسان وتباعد الزمان عن عصر الرسول صلى الله عليه وسلم احتاج الناس إلى ضوابط للاجتهاد تؤخذ من النصوص الشرعية ومعانيها، من اللغة العربية وصياغتها واستعمالها فتجعل قواعد للاستنباط لسد خلة طرأت ولحل مشكلة جدت فشمر أصحاب الجد عن سواعدهم وغاصوا في بحار النصوص الشرعية واللغوية فلاحظوا القواسم المشتركة وجمعوا الروابط الكلية للمسائل الجزئية ونظموها على هيئة قواعد، وكان على رأس هؤلاء العلماء وفي مقدمتهم الإمام الشافعي رضي الله عنه، الذي اعتبر وبحق المؤسس لهذا العلم والواضع له.
فقد كتب الرسالة وضمنها مباحث من الأصول ولكنه لم يتناول جميع المباحث وكتب “إبطال الاستحسان” و ” جماع العلم” وذكر بعض القواعد في كتابه ” الأم ” متفرقة هنا وهناك ، وقد تحدث في الرسالة عن البيان ما هو؟ ثم شعبه إلى بيان القران وبيان السنة للقرآن والبيان بالاجتهاد وهو القياس، ثم أوضح أن من القرآن عاما يراد به العام، وعاما يدخله الخصوص، وعام الظاهر وهو يجمع العام والخاص، وعام الظاهر ويراد به الخاص، ثم بين أن السنة مفروضة الإتباع بأمر الكتاب ثم تكلم عن الناسخ والمنسوخ وعن علل الأحاديث والاحتجاج بخبر الواحد والإجماع والقياس والاستحسان واختلاف العلماء فيه.
هذا جملة ما أثبت الشافعي رضي الله عنه في رسالته فكانت كتاباته أول حجر وضع في أساس علم الأصول. ثم توالى علماء المسلمين فألفوا كتبا تناولوا فيها جل مباحث الأصول بل كلها . ومن أبرز هذه الكتب و أشهرها ” المعتمد” لأبي الحسين محمد بن البصري وكتاب ” البرهان” لإمام الحرمين الجويني و ” المستصفي ” للغزالي ثم جاء الآمدي فجمع هذه الكتب الثلاثة وزاد عليها في كتابه الموسوم ” بالأحكام في أصول الأحكام” ومنها أيضا ” أصول الزدوي” و ” أصول السرخسي” عند الأحناف وكتب في ذلك المالكية والحنابلة أيضا .
وهكذا تكونت عند المسلمين ثروة أصولية عظيمة بنيت على الأسس التي أسسها الشافعي رضي الله عنه.
ولقد وجد عند المسلمين مدرستان في علم الأصول مدرسة سارت على طريق المتكلمين في التأليف والبحث وهؤلاء هم اغلب الشافعية والمالكية والحنابلة،و المقصود بسيرهم على طريق المتكلمين أنهم كانوا يقرون الأصول ويقعدون القواعد دون الالتفات إلى موافقتها لفروع مذاهبهم أو مخالفتها إياها، بل كانوا يبحثون أبحاثا علمية ومجردة وقد يخرجون بقواعد تخالف ما عليه المذهب في الفروع لرجحان دليل عندهم للقاعدة والمدرسة الثانية سارت على ما يسمى “بطريقة الحنفية” في التأليف وذلك أن متقدمة الأحناف كانوا يراعون في تقعيد القواعد الأصولية فروع مذهبهم فإذا ترتب على قاعدة خلاف لفرع فقهي في المذهب شكلوها بالشكل الذي يتفق معه فكأنهم والله اعلم أرادوا استنباط طريقة مذهبهم في الأصول من خلال فروع المذهب وقد أدى ذلك بأصحاب هذه المدرسة إلى البحث في فروع كثيرة بعكس أصحاب سابقتها الذين قلما تعرضوا للفروع. وإذا ما رجعنا إلى كتب الأصول التي ذكرت وما تبعها من كتب صيغت على نفس النمط من كلتا المدرستين باستثناء كتب الشافعي رضي الله عنه وقارناها بما كتب الشافعي مؤسس هذا العلم فإنه تتجلى لنا فروق واضحة بين منهج الشافعي الصافي في المستند إلى النصوص وبين منهج المتأخرة، وقد لمست هذه الفروق في ثلاث قضايا أساسية وهي
-
أسلوب البحث
-
المسائل المبحوثة
-
أدلة التشريع
وسنعرض إن شاء الله لكل واحدة منها
أسلوب البحث
إن من يطالع كتب الإمام الشافعي رضي الله عنه يجد أسلوبا سلسا بسيطا ربما يسهل فهمه للعامة عن أسلوب علماء الكلام الذي انتشر فيما بعد وأصبح هو الطاغي على علماء الأصول، بل جعل بعضهم الإحاطة بعلم الكلام وأساليبه من شروط المشتغل بهذا الفن ونسوا أن المؤسس لهذا العلم ما كان مزودا بمثل هذه المعارف ولا كان يعرف هذه الأساليب وبالرغم من ذلك فقد كان يؤدي المعنى التشريعي الذي يريد أن يبينه بأدق عبارة وأحمل صورة دون تعقيد وبلا صعوبة تورث انغلاق باب المعاني في وجهك.
انظر إليه مثلا وهو يشرح مسألة تحت باب ” ما نزل عاما دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص، في الرسالة يقول: قال الله جل ثناؤه (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له أخوة فلأمه السدس)، وقال ( ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين، ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين، وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فأن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم) فأبان أن للوالدين والأزواج مما سمى الحالات، وكان عام المخرج فدلت سنة رسول الله على أنه إنما أريد به بعض الولدين ولأزواج دون بعض، وذلك أن يكون دين الوالدين والمولود والزوجين واحدا ولا يكون الوارث منهما قاتلا ولا مملوكا وهو يعني بذلك أن الآيات جاءت عامه كل الأفراد المشار إليهم فيها أي كل والد وولد وبعل وزوج. فخصصتها السنة المطهرة واستثنت من المذكورين أفرادا لا ينطبق عليهم حكم استحقاق الميراث وأعطتهم حكما آخر وهو المنع وهو يقصد جملة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم منها على سبيل المثال قوله ” لا يرث القاتل ” وقد أشار الشافعي إلى ذلك بقوله ( ولا يكون الوارث منهما قاتلا) فكما ترى فإنه يسهل فهم هذا النص لمن حاز على قدر بسيط من المعارف اللغوية والشرعية، فلو أخذنا هذا النص وقارناه بنص آخر هو أيضا من مباحث العموم والخصوص. أورده الآمدي الشافعي المذهب في كتابه ” الإحكام في أصول الأحكام” فسوف نلاحظ الفرق مباشرة بين الأسلوبين. يقول الآمدي: ( إذا ورد لفظ عام بعبادة أو بغيرها قبل دخول وقت العمل به قال أبو بكر الصيرفي: يجب اعتقاد عمومه جزما قبل ظهور المخصص وإذا ظهر المخصص تغير ذلك الاعتقاد، وهو خطأ، فإن احتمال إرادة الخصوص به قائم ، ولهذا لو ظهر المخصص لما كان ذلك ممتنعا، ووجب اعتقاد الخصوص، وما هذا شأنه فاعتقاد عمومه جزما قبل الاستقصاء في البحث عن مخصصه وعدم الظفر به على وجه تركن النفس إلى عدمه، يكون ممتنعا، فإذا لا بد في الجزم باعتقاد عمومه من اعتقاد انتقاء مخصصه بطريقة، …. والقول بأنه لو كان المراد بالعام الخصوص، لنصب الله تعالى عليه دليلا غير مسلم، وبتقدير نصبه للدليل لا نسلم لزوم اطلاع المكلفين عليه، وبتقدير ذلك لا نسلم لزوم نقلهم له. وإذا لم يكن إلى القطع بذلك طريق، فلو شرط ذلك في العمل بالعموم لتعطلت العمومات بأسرها. وإذا عرف أنه لا بد من الظن بانتقاء المخصص فالحد الذي يجب العمل بالعموم عنده أن يبحث عن المخصص بحثا غلب على ظنه عدمه وأنه لو بحث ثانيا وثالثا كان بحثه غير مفيد، وعلى هذا يكون الكلام في العمل بكل دليل مع معارضه) فأنت تجد بصمات علم الكلام وأسلوب المناطقة الاغريق مؤثرا بشكل بارز على هؤلاء الأصوليين حتى ليكاد غير العالم بأساليب المتكلمين واصطلاحاتهم لا يفهم كلامهم، ولا عجب فإن فرسان الميدان في هذا العلم كانوا على صلى وثيقة بعلم الكلام. فصاحب كتاب المعتمد كان معتزليا وإمام الحرمين كان من المتكلمين وهو صاحب مقولة وددت لو أني آمنت إيمان العجائز والغزالي اشتغل ردحا من الزمان بعلم الكلام وهو يصف في كتابه ” المستصفى” علم الكلام بأنه أصل العلوم جميعها . والآمدي رمي بالكلام ومن جاء بعدهم تابعهم على ذلك، فقد حصل مع علم الأصول ما حصل تماما مع مسائل الاعتقاد عند المسلمين بعد القرن الأول إذ بعد أن كانت مباحث العقيدة في القرن الأول نقية صافية بسيطة غدت غير ذلك حين نحى بها علماء الكلام منحى مناطقة الإغريق فجعلوها بحثا معقدا لا يستطيعه إلا الذي أحاط بعلم الكلام وأساليب المتكلمين فصارت العقيدة بحث الخاصة من الناس مع أنها أساس حياة الأفراد والمجتمع والدولة. ولا بد أن تفهم وتبحث من قبل الجميع. وبالرغم من أن أصول الفقه ليس كالعقيدة في وجوب تعلمه بالنسبة للعامة إلا إنه ليس من الضرورة أن يسار في بحثه حسب أسلوب المتكلمين لأنه أسلوب مقحم على أصول الفقه إقحاما عوضا عن أنه من الميسور البحث فيه بغنى عن هذا الأسلوب وخير دليل على ذلك كتابات الإمام الشافعي رضي الله عنه.
لقد أدى تأثر علماء الأصول بأسلوب الكتابة والنقاش عند المتكلمين إلى تأثرهم بطريقتين في التفكير، إذ أن المتكلمين ومن قبلهم الفلاسفة يطرحون قضايا نظريه يتخيلونها ثم يتناقشون فيها ويدلي كل بدلوه ويستعمل كل منهم المنطق في إثبات رأيه دون مراعاة الناحية العملية في هذه المباحث، فهم لا يسألون أنفسهم هل هنالك واقع عملي لهذه المباحث؟ وهل يمكن أن تأتينا بفائدة في أرض الواقع؟ فهم لا يسألون هذه الأسئلة، بل يدخلون في نقاشات وتفريعات وتعقيدات قلما تفيد في شيء.
والشيء نفسه حل بعلماء الأصول فالناظر في كتبهم يجد أنهم زجوا بأنفسهم في نقاشات لا طائل تحتها البتة.
إن كتب الأصول قد حوت نوعين من المباحث لا حاجة لعلم الأصول بها وهي:
-
مباحث هي في حد ذاتها مفيدة ومقبولة له ويترتب عليها أمور اعتقاديه أو عملية إلا أن موضع بحثها ليس هو أصول الفقه لأنه لا علاقة لها مباشره به. فمن ذلك مثلا بحث عصمة الرسول والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعا فمثل هذا المبحث موقعه في باب الاعتقاد للمسلم لأنها تتعلق بأساس اعتقاده ولا بد فوق ذلك أن يتخذ المسلم موقفا واضحا تجاه هذه القضية لأهميتها الفائقة ولكن ذلك لا يجوز أن يكون بحال تحت مباحث أصول الفقه.
المسائل المبحوثة
مباحث لا يترتب على بحثها أي فائدة وذلك كاختلاف الأصوليين في شكر المنعم أواجب هو بالشرع أم بالعقل؟ مع اتفاقهم جميعا على الوجوب عوضا عن أن الأصل في هذا البحث إن لزم أن يكون في مباحث الكلام. أو كاختلافهم في جواز تكليف المعدوم ويقصدون بذلك قيام الطلب في الأزل ممن سيوجد مستوفيا شرائط التكليف فقال الأشاعره إن المعدوم مكلف لأنه لو لم يتعلق التكليف يكن التكليف أزليا واللازم باطل وعللوا ذلك وقال غيرهم هو غير مكلف لأنه يلزم من التكليف أمر ونهي وخبر ومحال أن يكون آمر ولا مأمور أو خبر ولا مخبر.
يقول الشوكاني رحمه الله في كتاب إرشاد الفحول بعد أن تحدث عن هذه المسألة ( هذا البحث يتوقف على مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه وهي مقرره في علم الكلام… وتطويل الكلام في هذا البحث قليل الجدوى، بل مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه وإن طالت ذيولها وتغرق الناس فيها فرقا وأمتحن بها من أمتحن من أهل العلم وظن من ظن أنها من أعظم مسائل أصول الدين ليس لها كبير فائدة. بل هي من فضول العلم ، ولهذا صان الله سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم عن التكلم فيها) انتهى.
ويلحق بذلك كافة القضايا التي أثارها علماء الأصول حين التفريع على قاعدة لازمة استجابة للبحث المنطقي والترتيب العقلي الذي يقتضي البحث فيها بعض النظر عن وجود واقع تشريعي لها حتى إنك تجد الأصوليين يناقشون مسألة لا يستطيعون التمثيل لها من التشريع ولو بمثال واحد.
وهم يسيرون في ذلك على خلاف منهج الشافعي الذي كان يضع القاعدة ويفرع عليها بناء على الواقع التشريعي الذي أمامه. وما أجمل ما كتبه الشيخ تقي الدين النبهاني في وصف منهج الإمام الشافعي رضي الله عنه حيث يقول في كتاب ” الشخصية الإسلامية” ( والشيء الرائع في أصول الشافعي أنه يسير في البحث الأصولي سيرا تشريعيا لا سيرا منطقيا. لأن من اخطر الأمور على البحث بل على الأمة في نهضتها السير المنطقي ولا سيما في الفقه والأصول. وقد بعد الشافعي كل البعد عن السير المنطقي والتزم السير التشريعي فهو لا يهيم في صور وفروض نظرية ، بل بضبط أمور واقعه موجودة أي يأخذ النصوص الشرعية ويقف عند النص وعند الواقع الذي يدل عليه النص ويشاهده الإنسان فهو في الناسخ والمنسوخ يقر قواعد النسخ من المسائل التي ثبت عنده النسخ فيها بما ورد في الآية نفسها أو الحديث نفسه من دلالة على النسخ أو بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أحاديث تدل على النسخ وما عن صحابة رسول الله من أخبار وأقضيه وليس كما فعل كثيرون ممن جاءوا بعده من حيث أنهم إذا رأوا تعارضا بين آيتين أو حديثين انتقلوا إلى القول بأن أحدهما ناسخ للآخر. حتى وقعوا من جراء ذلك بأغلاط فاحشة، وحين يأتي بالقاعدة لا يأتي بها من مقدمات منطقية بل يريك مصادر أخذها إما من مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أو من فتاوى الصحابة. فاتجاهه في استخراج القواعد الضابطة كان اتجاها عمليا، يعتمد فيه على الواقع وعلى الأدلة وعلى انطباق ذلك على الوقائع المحسوسة) انتهى.
ونمثل لآخر ما جاء في كلام الشيخ تقي الدين النبهاني فالإمام الشافعي رضي الله عنه أقر وقوع النسخ ووضع لذلك ضوابط. وأتى بأمثلة من الكتاب والسنة ولم يفعل أكثر من ذلك فأما من جاء بعده فقد فرع في غير ما حاجة فقد سألوا فقالوا: إذا ورد النسخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي ولم يبلغ الأمة. هل يتحقق النسخ في حقهم؟ فقال قوم بالإثبات وقال آخرون بالنفي. وكل ذلك لا فائدة تشريعية له ، أما علم هؤلاء العلماء أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كتم أمرا بلغه إياه الوحي، ثم لو فرضنا أنهم قصدوا الفترة التي عاش فيها الرسول، أما علموا أن الرسول قد توفي عليه الصلاة والسلام فما لهذا الأمر المبحوث أي واقع تشريعي؟ فلما إذن الانشغال في مثل هذه القضايا؟
أدلة التشريع
لقد أثبت الشافعي رحمه الله أربعة أدلة للتشريع هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس فأما الكتاب والسنة والقياس فقد عالجها بتفصيل ووضوح وأما الإجماع فقد وقف عنده برهة ثم أقر بوقوعه من الصحابة وشكك في حصوله مع غيرهم في غير القطعي ولم يعتبر غير هذه الأدلة الأربعة فأبطل الاستحسان مما ظهر في زمنه القول فيه. ثم جاء بعده من علماء الأصول من ساروا على سيره مثل الغزالي والآمدي فقالوا عن باقي ما ذكر في الأدلة بأنه موهوم.
وبحثه الغزالي تحت قوله ( ما يظن أنه من أصول الأدلة وليس منها). وجاء غيرهم فأقروا أدلة فوق هذه الأربعة حتى أوصلها بعض المتأخرين أمثال الشيخ عبد الوهاب خلاف إلى عشرة أدلة فذكروا إضافة إلى هذه الأربعة. الاستحسان ، والمصالح المرسلة، والعرف، وشرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستصحاب، والعقل.
وهذه الأخيرة لم يقم الدليل القطعي على كونها أدلة فهي ليست من الأصول عوضا عن أنها تقود إلى غير الوحي وهو خلاف المطلوب.
وقد أورد العلماء أمارات كثيرة للتدليل على صحة هذه الأدلة ظنوها أدلة وما هي بذلك وقد أدى وجود مثل هذه الآراء القائلة بهذه الأدلة في الأمة الإسلامية إلى دخول كثير من أحكام الكفر المخالفة للإسلام مبررة بهذه الأدلة، وهذه الأدلة مخالفة لما عليه الشافعي رضي الله عنه. وبناء على ما سبق بيانه نستطيع أن نقول بأن التجديد في أصول الفقه، يعني إعادة صياغة مباحث الأصول بأسلوب غير أسلوب المتكلمين ويعني استبعاد كل المباحث التي لا علاقة لها بأصول الفقه والتي تعتبر مباحث نظرية ليس لها واقع عملي لان هذه المباحث من اخطر الأمراض على النواحي التشريعية في تحول التشريع إلى جدل فارغ بدل أن يكون علاجا ناجعا لعلاقات الناس ويعني أيضا معاودة دراسة أدلة التشريع والاقتصار على الأدلة التي ثبتت بالنصوص القطعية لا التي توهم وجودها لكي نحصل على أصول فقه صاف نقي، لا يستند لغير الشرع ولغير الفقه تماما كما فعل الإمام الشافعي رضي الله عنه.
إن هذا المبحث الذي أمامنا لم يكن المقصود منه الناحية النظرية فلو كان كذلك لوقعنا فيما وقع فيه غيرنا، بل أردنا من ذلك تنبيه أهل الغفلة من المسلمين وتذكير من يسمون بدعاة التجديد ليعودوا عن غيهم ويعملوا على تجديد أصول الفقه بالشكل الصحيح الذي يقره الإسلام بدل أن يعملوا على هدم أصول الفقه كما هو حاصل الآن، وإننا لندعوا علماء الأمة الأفذاذ إلى إعادة صياغة علم الأصول على النحو الذي طرح هنا، وقبل ذلك ندعوهم إلى العمل مع حملة الدعوة الإسلامية على إيجاد دولة الإسلام لنجعل أصول الفقه هذه أصولا للقوانين والأحكام التي تطبق في دولة الخلافة بدلا من أن تبقى أبحاثا نظرية علمية صرفة، فنسأل الله التوفيق والسداد.
1995-08-31