أهمية بناء الشخصية الإسلامية في حمل الدعوة
1995/10/31م
المقالات
5,505 زيارة
بقلم: الدكتور توفيق مصطفى
قبل الحديث عن أهمية بناء الشخصية الإسلامية لا بد من معرفة ما هي الشخصية، فالشخصية في كل إنسان مكونة من عقلية ونفسية ولا دخل لشكله أو هندامه فيها لأن الذي يميز الإنسان هو سلوكه وعقله، وسلوكه هو الذي يحدد انحطاطه أو ارتفاعه درجة، وهذا السلوك إنما يكون بما لدى الشخص من مفاهيم عن الحياة والكون والإنسان. والإنسان بما أودعه الله فيه من حاجات وغرائز فطر عليها لا يستطيع التخلف عنها أو إهمالها، يقوم بإشباع هذه الحاجات العضوية والغرائز عن طريق سلوكه، وسلوكه هذا مرتبط بمفاهيمه.
وبحثنا هنا ليس عن كيفية تكوين الشخصية وإنما عن معنى تكوين الشخصية ومعنى جعل الشخصية أساساً لكل من العقلية والنفسية ومعنى تنمية كل من العقلية والنفسية وأهمية الاستمرارية في هذا مع إدراك أثر إيجاد الشخصية الإسلامية في حمل الدعوة الإسلامية.
إن الإنسان باعتباره إنساناً فيه الغرائز الثلاث: غريزة التدين وغريزة البقاء، وهذه الغرائز لها مظاهر عديدة، فغريزة التدين من مظاهران التقديس والخشوع، وغريزة النوع من مظاهرها الميل الجنسي والأبوة والأمومة وغريزة البقاء من مظاهرها التملك وحب السيادة والخوف والتملق، وبالإضافة إلى هذه الغرائز فإن في الإنسان حاجات عضوية عديدة، وهذه الغرائز وهذه الحاجات هي طاقات حيوية تدفع الإنسان إلى الإشباع. والإشباع قد يكون شاذاً وقد يكون خاطئاً وقد يكون إشباعاً صحيحاً إذا تم وفق أوامر الله ونواهيه.
وبالإضافة إلى هذا الجانب في الإنسان فإن في الإنسان القدرة على التفكير والربط وبعبارة أخرى فإن شخصية الإنسان هي عقليته ونفسيته.
ومعنى تكوين الشخصية هو جعل العقلية والنفسية من لون واحد بحيث يوجد التجانس المميز للشخصية عن غيرها من الشخصيات، أي أن يجري عقل الأمور وإدراكها بناء على أساس معين، ويتخذ هذا الأساس أيضاً أساساً في إشباع الغرائز والحاجات العضوية، وهذه الشخصية المميزة يجري فيها امتزاج الفكر والشعور معاً امتزاجاً فريداً يدفع الإنسان للعمل دفعاً منظماً منضبطاً، وذلك إذا كان الأساس الذي جرى عليه بناء كل من العقلية والنفسية فكرة كلية شاملة صحيحة اقتنع العقل بصحتها ووافقت فطرة الإنسان، كما أن الشخصية تصبح بذلك أكثر قابلية للاستقرار والتأثير فيما حولها والإنتاج والاستمرار والديمومة.
والعقيدة الإسلامية هي وحدها العقيدة العقلية الموافقة للفطرة الموجدة للاطمئنان هي التي يجب أن تتخذ الأساس الوحيد لبناء الشخصية الإسلامية، ويتجلى أثر جعل العقيدة الإسلامية أساساً للعقلية والنفسية في مجالات عديدة منها ما يتعلق بالعقلية وطريقة التفكير ومنها ما يتعلق بالنفسية وكيفية الإشباع. أما ما يتعلق بالعقلية فإن جعل العقيدة الإسلامية أساساً لها يعني إدراك دور العقل وحدوده وإدراك الخط الفاصل بين العقل والوحي، هذا بالإضافة إلى قياس كل فكرة بالعقيدة أخذاً أو رداً.
· جعل العقيدة الإسلامية أساس العقلية يعني:
إدراك دور العقل وحدوده وإدراك الخط الفاصل بين العقل والوحي، هذا بالإضافة إلى قياس كل فكرة بالعقيدة أخذاً أو رداً.
جعل العقيدة الإسلامية أساساً للنفسية يعني:
أن يتم إشباع الغرائز والحاجات العضوية بناء على الأحكام الشرعية التي انبثقت عن هذه العقيدة.
وجعل العقيدة الإسلامية أساس العقلية هو ما قد يصعب على الناس لمسه، فقد يسهل الحديث عن الأحكام الشرعية وكونها تضبط سلوك الإنسان ويسهل التسليم بأن العقيدة هي أساس التصرفات والأعمال والسلوك، ولكن من الصعب على الناس في كثير من الأحوال إدراك معنى جعل العقيدة أساساً للعقلية. كما يصعب إدراك معنى ضبط العقيدة لتفكير الناس. فالإسلام لم يكتف بضبط السلوك بل ضبط أيضاً التفكير وحدود دور العقل، فليس للعقل أن يخوض في المغيبات مثلاً وليس له أن يشرع وإن كان له أن يفهم التشريع، وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين للناس الأحكام المتعلقة بأعمالهم، فقد كان أيضاً يوجه تفكيرهم وبضبطه كما حدث حين كسفت الشمس يوم وفاة ابنه إبراهيم وكما صحح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مفاهيمهم عن المطر حين نهى الصحابة عن القول أمطرنا السوء، وهلم جرا.
لذا لا بد من إدراك هذا كله ومحاولة جعل الناس يدركونه من أجل إيجاد العقلية الإسلامية بناء على العقيدة. أما تنمية العقلية بعد إيجادها فإنه أمر سهل يتم عن طريق التفقه في أمور الدين أو بعبارة أخرى الاستزادة من الثقافة الإسلامية.
أما ما يتعلق بالنفسية فإن جعل العقيدة الإسلامية أساساً لها ينعني أن يتم إشباع الغرائز والحاجات العضوية بناء على الأحكام الشرعية التي انبثقت عن العقيدة فإشباع غريزة التدين بمظاهرها المختلفة يجب أن يكون بناء على أحكام الإسلام المتعلقة بالصلاة أو الصوم أو الحج أو الزكاة أو التقرب إلى الله سبحانه وتعالى. وهذا هو الشق الإيجابي (إتباع الأوامر) في إشباع غريزة التدين، أما الشق السلبي (اجتناب النواهي) فهو الامتناع عن تقديس غير الخالق تبارك وتعالى. وأحكام الإسلام جاءت مبنية للشقين الإيجابي والسلبي.
وإشباع غريزة النوع يكون بالاتصال الجنسي الذي أباحه الإسلام وبصلة الرحم وبر الوالدين إيجاباً، كما يكون بالامتناع عن الزنا أو السفور أو الخلوة أو الاختلاط سلباً. وإشباع غريزة البقاء مثلاً يكون بالتقيد بأحكام التملك سلباً وإيجاباً بالنسبة إلى مظهر حب التملك، أو بخشية الله وحده وعدم خشية ما لا يجوز الخوف منه، وذلك بالنسبة إلى مظهر الخوف، وهذه أمور يسهل تبيانها ووضع الإصبع عليها.
ولكن لغريزة البقاء مظاهر أخرى لا بد أيضاً من إشباعها وفق أحكام الإسلام ذلك لأن الإسلام بالمعالجات التي وضعها إنما يدفع الإنسان لإشباع غرائزه ومظاهرها، وذلك بملاحظة أمرين: الأول دفع الشخص نحو إشباع مظاهر الغرائز إشباعاً صحيحاً، والأمر الثاني طمس بعض المظاهر الفردية الأنانية لا يكبت غَرَزي بل بإشباع مظاهر أخرى.
فالإسلام أشبع الغرائز إشباعاً متناسقاً دون كبت أو إطلاق فلم يمنع الإنسان من الخوف بل وجهه لأن يخاف من يخشى (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ)، (فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ). والإسلام عاجل الأثرة بالحث على الإيثار، وكذلك حب السيادة مثلاً باعتباره من مظاهر غريزة البقاء أمر فطري في الإسلام، والإسلام لم يكبت هذا المظهر بل وجهه من حب السيادة الفردي حيث يسعى الإنسان المنخفض لسيادة نفسه إلى حب سيادة المبدأ وهكذا في كل أمر من الأمور.
وبمقدار ما ينصهر الشخص بالعقيدة الإسلامية ويرتقي فكره ويمتاز بالإخلاص بمقدار ما تنخفض عنده النواحي الفردية والعنعنات الشخصية أي أن يمتاز الشخص بالإخلاص الخالص وعندئذ يذوب عنده حب السيادة الفردية فلا يشرك مع العقيدة أي اعتبار شخصي ويصبح الله ورسوله أحب إليه مما سواهما حسب وراية الحديث «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به». وفي رواية أخرى: «أن يكون الله ورسوله أحب إليه من ماله وولده ونفسه والناس أجمعين». فلا يعود الإنسان يغضب لنفسه وإنما يغضب لحرمات الله حين تنتهك ويغضب إذا لم يطبق شرع الله وهكذا. روي أن علياً رضي الله عنه أمسك عن قتل عدوه الكافر في بداية المعركة بعد أن أهوى بالسيف عليه حين بصق الرجل في وجه علي بن أبي طالب، وحين استغرب الرجل الموقف وكان قد توقع أن تكون حادثة البصق دافعاً للإسراع في قتله، أجابه علي رضي الله عنه كنت أريد قتلك انتصاراً لله ولكني خشيت بعد أن بصقت أن يكون قتلي لك انتصاراً لنفسي أو فيه شيء من الانتصار لنفسي فأمسكت عن قتلك.
وهكذا تمضي الأمثلة لبيان كيفية جعل العقدية الإسلامية أساساً للنفسية، وعلى العكس من العقلية فإن تنمية النفسية أشق وأصعب من تنمية العقلية رغم أن إيجاد العقلية ابتداء هو الأصعب. فإذا كانت تنمية العقلية تتم بالاستزادة من الثقافة الإسلامية فحسب أي بأمر واحد فقط، فإن تنمية النفسية تحتاج دوام التقرب إلى الله تعالى بالعبادات والطاعات ودوام الربط بين الميول والمفاهيم أي دوام إدراك الصلة بالله سبحانه وتعالى.
ولا يقال هنا إن بعض الناس أو الأفراد تقوى عندهم بعض الغرائز وبالتالي يصعب ضبطها بالعقيدة أو يصعب إيجاد النفسية الإسلامية لديهم، لا يقال هذا لأن الإنسان متى أدرك بشكل قطعي جازم وأيقن بشكل تام وجود الله تعالى ووحدانيته، وأدرك أن العلاقة مع الخالق هي الخلق والتنظيم لا الخلق فحسب (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) وكان هذا الإدراك ممزوجاً بالشعور الفطري عند الإنسان بالعجز والنقص والاحتياج إلى الخالق المدبر أي متى حصل الإيمان بالعقيدة إيماناً مبنياً على الفطرة والعقل معاً وحصل بعدهما إدراك معنى التمسك بالحكم الشرعي وإدراك المثل الأعلى في الحياة وإدراك ما بعد الحياة من بعث وحساب وإدراك أن المآل إما إلى جنة عرضها السموات والأرض وإما إلى نارٍ تلظى. متى تم الإيمان بهذا كله أصبح من السهل التمسك بالحكم الشرعي حتى في حالة غياب سلطان الإسلام ذلك أن الحديث هنا على مستوى الفرد لا على مستوى الأمة، لذلك فإن العقيدة الإسلامية وما انبثق عنها من أحكام كفيلة ببناء النفسية مهما كانت غرائز الإنسان ومظاهرها قوية. وكذلك يقال في مجال تنمية النفسية فإن السير في الطريق الارتقائي التصاعدي والسعي لنوال رضوان الله تعالى والتقرب إليه بالطاعات ودوام إدراك العلاقة بالخالق كفيل بتنمية النفسية وبتذويب ما يتعلق بالفرد من رواسب الماضي مهما كانت هذه الرواسب.
إن بناء الشخصية الإسلامية من حملة الدعوة هو اللبنة الأولى للنهوض بالمجتمع والسير في بناء دولة الخلافة.
فالإسلام يزيل رواسب الفردية ورواسب العصبية ورواسب حب السيادة الفردي ورواسب التصرف المتعالي والتصرف المتكبر ويضبط تسرع الإنسان وفلتات لسانه، ويكفي أن يدرك أحدنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل «وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم». نعم إن العقيدة وما انبثق عنها من أحكام تضبط كل هذا وتسير بالإنسان فضلاً عن حامل الدعوة بالطريق الارتقائي التصاعدي. وعلى حامل الدعوة إلا نزع بعض الأوهام من ذهنه ليعالج واقعه ويرتقي بنفسه.
ورغم كل ذلك إلا أن السقوط وربما الوفاة قد تكون أسرع من طرفة عين، لذلك لا بد من دوام الحرص على استمرارية كل هذا في كل لحظة وفي كل حين. وهنا يأتي دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين»، ويقول صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكرة بالآخرة»، وهنا يأتي أيضاً دعاء عمر رضي الله عنه [اللهم ارزقني ذكرك في كل حال وذكر الموت في كل حين].
إن مما ينبغي إدراكه أن السقوط قد يكون بطيئاً وقد يكون سريعاً، وفي كل الأحوال فإن دوام المراقبة كفيل بعدم السقوط بإذن الله.
صحيح أن الإنسان قد يظهر عنده بعض الثغرات في السلوك ولكن هذه الثغرات إذا عولجت فوراً يرجع المسلم إلى كونه شخصية إسلامية، أما إذا أهمل العلاج وغفل عنه أو أخذ يبرر لنفسه ولو في أمور يعتبرها صغيرة أو بسيطة فإن هذه الثغرات سرعان ما تكبر وقد تؤدي إلى نتائج أخرى وهنا يأتي حديث الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا».
وجعل العقيدة الإسلامية أساساً للعقلية والنفسية من شأنه أن يعمل عمل المحرك وعجلة القيادة وفرامل السيارة وتحديد الهدف وكيفية الوصول إليه في آن واحد.
وهنا تأتي أهمية العقيدة أساساً. فالعقيدة توجد طريقة تفكير منتجة وتحدد الهدف في الحياة والمثل الأعلى وتدفع الإنسان نحو هذا كله دفعاً منظماً منضبطاً، ولكن هذا كله يأتي من مجموع العقيدة وما انبثق عنها من أحكام وما ينبني عليها من أفكار، وإدراك هذا والحرص على التقيد به، وهذا من شأنه الارتقاء بالإنسان وبالتالي من شأنه أن يوجد النهضة الصحيحة في المجتمع.
لذا فإن بناء الشخصية الإسلامية من حملة الدعوة هو اللبنة الأولى للنهوض بالمجتمع والسير في بناء دولة إسلامية، فحامل الدعوة الذي ما زالت بعض الرواسب عالقة في سلوكه سواء أكانت الرواسب تتعلق بعصبية أو فردية أو شعور بالتعالي على الناس أو عدم القدرة على ضبط تصرفه عند الغضب أم كانت الرواسب تتعلق بسلوك فردي ومخالفة شرعية ينبغي عليه أن يبادر بمعالجة نفسه. فالتركيز على دور العقل وحده أثناء بحث حكم شرعيٍ ما مع الناس مثلاً أهم من بحث الحكم الشرعي نفسه، إذ بعد إدراك دور العقل ومعنى كون الحسن والقبح شرعيين لا عقليين يصبح بحث الحكم الشرعي المعين بعد ذلك مجرد عملية تعليم، أما إذا ظل الطرف الآخر يظن أن العقل له دور مطلق فإن العقيدة ستظل موجودة حتى لو سلم معنا بأن الحكم الشرعي محل البحث، ذلك لأن دور العقل هو واحد من أحجار الزاوية في بناء الشخصية أما إدراك حكم شرعي فإنه يلزم أثناء العمل والتعلم والتقيد به، وبعبارة أخرى علينا أن ندرك كيف نستطيع إعادة بناء فكر الأمة وإعادة بناء الشخصية وهذا من الأمور الهامة في حمل الدعوة.
لذلك فإن العمل المنوط بحمل الدعوة هو العمل الجاد لاستئناف الحياة الإسلامية وهذا لا يتأتى إلا بإيجاد الشخصيات الإسلامية حتى تصبح أحكام الإسلام هي الأفكار السائدة في المجتمع، وحتى يتعود المسلمون التقيد بالأحكام الشرعية في حياتهم اليومية كأفراد ومن ثم العمل لإيجادها في واقع المجتمع والدولة.
ولذا فإني أدعو جميع حملة الدعوة الإسلامية أينما كانوا للعمل الجاد لإيجاد الإسلام في معترك الحياة وإعادة الأمة التفكير والعمل الجاد لبناء الشخصيات الإسلامية، والله هو المعين وهو الموفق والهادي إلى الصراط المستقيم، وما توفيقنا وتوكلنا إلا على الله.
1995-10-31