أميركا تذبح الشعوب والأمم لتحقيق مصالحها
1992/03/31م
المقالات
1,803 زيارة
بقلم: د. عبد الله فهو النفيسي
تكمن خطورة وقسوة ومادية كيسنجر في مفهومه الأساسي المطروح في كتبه ومقالاته والذي يقول أنه من غير المطلوب بالنسبة للولايات المتحدة تصفية الصراع في العالم أو تسوية المشاكل الإقليمية فيه بقدر التحكم في (إدارة الأزمات والصراعات) ولذلك لقب بمدير الأزمات (Crises Manager)، إذن يرى كيسنجر بأن على الولايات المتحدة حين تتدخل عالمياً سياسياً أو عسكرياً فليس من غايات التدخل منع الصراع كلية أو إزالة العداوة كلية بين أطراف النزاع، بل الهدف الأساسي من التدخل – بقول كيسنجر- هو التحكم في الصراع وإدارته وتقنينه بالشكل الذي تتطلبه مصالح الولايات المتحدة في منطقة النزاع. هل نقرأ دور الولايات المتحدة في أزمة الخليج الأخيرة بعد غزو الكويت من خلال مقولة كيسنجر الأخيرة، لست أدرى يقول الرئيس الأميركي السابق د. إيزنهاور في مذكراته: سنوات البيض الأبيض مؤكدة أن مصالح الولايات المتحدة في منطقتنا، أن هذه المنطقة هي (أغلى قطعة عقار في العالم) (The most valuable piece of estate in the world).
ادوارد لوتواك أحد كبار المتخصصين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة يرانا في منطقة الخليج (بقالة أميركية grocery store) لا أكثر ولا أقل. في تقرير قدمه الرئيس نيكسون للكونغرس شارحاً إمكانيات التدخل العسكري الأميركية في أي بقعة في العالم يقول: (إن مصالحنا هي التي ينبغي أن تحدد التزاماتنا وليس العكس). الثابت، إذن، هو (المصالح الأميركية) وليس التعهدات الأميركية أو التعاقدات الرسمية. في كتابه الثمين يصدمنا الجنرال الأميركي بروس بالمر وهو يتحدث عن (المصالح العليا) للدول والشعوب الأخرى، وقد شاركه في الكتاب عدد من جنرالات الجيش الأميركي: الجنرال ماكسويل ميلتون والأدميرال المر زوموالت. القارئ للكتاب والذي صدر بعنوان: الإستراتيجية الأميركية العليا (Grand Strategy) والكتاب صادر عن أحد أهم مراكز الأبحاث المنتشرة في الولايات المتحدة الأميركية: مركز أبحاث المؤسسة الأميركية وقد تأسس هذا المركز بمساهمات كبرى شركات البترول وإنتاج السلاح والطائرات الحربية والمعدات والآلات والذخائر هناك، أقول: القارئ لهذا الكتاب يرى أمامه خمسة أبحاث تتناول الإستراتيجية الأميركية العليا من عدة زوايا: دراسة مقارنة بالإستراتيجية السوفياتية ودراسة استشراقية مستقبلية للإستراتيجية الأميركية ودراسة نقدية تقويمية… الخ. لكن الخطير في هذا الدراسات أنها أيضاً لا ترى في الوجود إلا الولايات المتحدة وبالطبع الاتحاد السوفياتي من حيث هو القطب المنافس في الثنائية الدولية. خلاصة هذه الأوراق والدراسات خطيرة ومخيفة ونقول للقارئ التالي: أن هدف الإستراتيجية الأميركية العليا هو أن تحافظ الولايات المتحدة على مستوى المعيشة المتفوق الحالي وتصاعده مع الزمن. كيف يتحقق ذلك؟ بأن يحافظ الاقتصاد الأميركية على درجة من الإنتاجية العالية؟ كيف يتحقق ذلك؟ أن تتوفر للاقتصاد الأميركي (صناعة وتجارة) المواد الخام المطلوبة بأسعار معقولة وباستمرارية مضمومة. كيف يتحقق ذلك؟ المواد الخام التي يعتمد عليها الاقتصاد الأميركية موجودة في أقطار العالم الثالث. ولذا تعتبر هذه الدراسات الخمس أن (المصالح العليا) للولايات المتحدة تتطلب تأمين هذه المواد الخام ولو بالقوة العسكرية وبالأخص (النفط). يقول الجنرال بروس هولو واي حول هذا الموضوع: “يكاد موضوع توفر النفط في المستقبل يقدم لنا أخطر أزمة واجهناها إطلاقاً. إن الأزمنة الصعبة القادمة طويلة ونسبة نفطنا الذي نستورد ترتفع بشكل ثابت رغم الجهود المبذولة لزيادة توفر النفط المحلي، وإذا تقلصت إمداداتنا النفطية بصورة لافتة فإن النتيجة الأكثر خطورة ربما ستكون نقصاً فورياً في فعاليتنا العسكرية وستنقص قدرتنا على استخدم أسلحة الحرب إلى الصفر تقريباً. لقد كان الرئيس محقاً في مقارنة إلحاح أزمة الطاقة عندنا بإلحاح الحرب”. انتهى. ويؤكد بعد ذلك الجنرال هولو واي بأنه ينبغي على الولايات المتحدة إذن أن تحمي مصادر النفط لأهميته الاقتصادية والعسكرية بالنسبة لها، بل ويتعدى ذلك إلى حماية خطوط الإمداد البري والبحري من المصدر حتى الأراضي الأميركية وهذا يتطلب إنشاء قواعد وتسهيلات عسكرية في مناطق عدة من هذا العالم للإشراف على تحقيق هذا الهدف. وسنلاحظ أن هذا الالتزام سيدخل الولايات المتحدة في سلسلة أخرى من الالتزامات المكلفة والمحرجة في آن واحد هنا نأتي إلى المنظور الأميركي لمنطقة الخليج.
على اثر الثورة الإيرانية 1978 – 1979 وأزمة الرهائن التي رافقت أيامها الأولى، ظهر هارولد براون وزير الدفاع الأميركي بمقولة كبح – ما أسماه – (الاضطراب العالمي) ويلخص براون رأيه بالصورة التالية: “أن الطريقة التي اتسع بها اقتصادنا تعني أننا بلغنا حد الاعتماد بدرجة غير قليلة على الواردات والصادرات وعلى الأرباح من استثمارات عبر البحار من أجل رفاهنا المادي. وأن انقطاعاً على نطاق واسع في واردات النفط الأجنبي قد يكون له مضاعفات مدمرة على الولايات المتحدة كأنها تخسر حملة عسكرية هامة أو حرباً بالفعل). انظر كتاب مايلك كلير – ما بعد عقدة فيتنام – Michael Klare Beyond the Vietnam Syndrome)، ص33 – ولذا طرح براون فكرة (قوة الانتشار السريع) قائلاً أن تشكيل هذه القوة سيمكن الولايات المتحدة من (تحريك قوات من الحجم الملائم بسرعة عبر مسافات بعيدة لردع، أو عند الضرورة، لإيقاع الهزيمة بالتهديدات الموجهة ضد مصالحنا الحيوية). بعد هذا التصريح أعلن وزير الطاقة الأميركية جيمس شليزنغر أن “للولايات المتحدة مصالح حيوية في الخليج ويجب عليها أن تتحرك بطريقة تحمي هذه المصالح حتى لو تضمن ذلك استعمال القوة العسكرية أو التواجد العسكري” . تلا ذلك تصريح وزير الخارجية الأميركية الكسندر هيغ الشهير والذي أشار فيه لمجلة تايم الأميرية قاصداً الثورة الإيرانية فقال: “إن حالات الخروج على القانون المتزايدة في العالم الثالث تهدد منافذ الولايات المتحدة إلى المواد الخام الأساسية”. لقد طور هيغ مقولاته ودعا إلى التدخل العسكري المباشر ليس في الخليج فحسب لحماية ما أسماه بـ (تدفق النفط) ولكن أيضاً لحماية معادن أخرى أساسية بالنسبة للولايات المتحدة مثل الكروم والمنغنيز والكوبالت والبلاتين والقصدير والزنك والزئبق والكولومبيوم والنيكل والبوكسات والماس الصانعي. وهي – أي الولايات المتحدة – تستورد معظم احتياجاتها من هذه المعادن من البرازيل والمكسيك وزائير وماليزيا والجزائر واندونيسيا وبوليفيا وكوريا الجنوبية وتايلند وغيرها من أقطار العالم الثالث. ومن الجدير بالذكر أن هذه المعادن والمواد حيوية بشكل كبير جداً لإنتاج الكثير من المنتجات التكنولوجية الدقيقة وخاصة المنتجات العسكرية. من هنا يقول هيغ – وعدد غير قليل من صانعي السياسة الأميركية – أن “من الواجب علينا استعمال القوة عند الضرورة لحماية المصادر الرئيسية من المعادن”. ألا ترى معي – أخي القارئ – بأن (مصالح) الولايات المتحدة لا حدود لها وأن المنظور الأميركي للعالم – الذي يعج بالأديان والثقافات والحضارات واللغات والشعوب والتكوينات الاثنية والقومية والعنصرية والتقاليد والأعراف والمطامح المشروعة والقوانين والشرائع والآمال والآلام – بات لا يعي من العالم إلا هذه المصالح المادية المباشرة الضرورية للحفاظ على مستوى الرفاه في الولايات المتحدة (ولو بالقوة) كما يقول هيغ. لقد تذكرت وأنا اقرأ تصريح هيغ كتاباً للمؤلف والمفكر الجواتيمالي الفذ مانويل جاليش (القطار الأصفر) وكيف أن (شركة الفواكه الأميركية) هناك بغية احتكار محصول الموز في جواتيمالا – وهو محصول رئيسي لتلك البلاد – فقد رعت العديد من الانقلابات العسكرية لتحقيق هذا الهدف. فهل أصبح الموز أيضاً من المعادن النادرة؟ فماذا بقي إذن لشعوب العالم الثالث؟ أليست هذه المصطلحات المعبأة بالغضب والتي يعج بها الفكر الاستراتيجي الأميركي تحمل في ثناياها شظايا الإرهاب والتهديد والوعيد لشعوب العالم الثالث حيث توجد (المواد الخام)؟ (حرب المعادن النادرة) و(كبح الاضطراب العالمي) و(حرية الطاقة) و(الحفاظ على أمن المنافذ للأسواق ولو بالقوة) و(حرب الموارد) و(الحفاظ على مصالحنا الحيوية في كل أنحاء العالم ولو بالقوة العسكرية)؟ ما الفرق – من حيث المضمون – بين هذه المصطلحات وروبرت ريان وجاري كوبر وآلان لاد وكلينت ايستوود وجميس ستوارث وبرت لانكاستر ولي مارفن ذلك الوغد الشاحط المتثاقل وغيرهم من نجوم أفلام الويسترن ورعاة البقر وهم يتمايلون في مشيتهم وتتدلى من خصورهم المسدسات، يقتلون المرء وهو يلوكون التبغ المعتق ويقتحمون خيام الهنود الحمر ذوي الشعور المسترسلة والسحنات القمحية والنظرات الهائمة والوالهة فيعملون فيها تحريقاً وهدماً وسفكاً فيتفرق الهنود شذر مذر ويستولي (الأبيض white man) على بئر الماء والمرعى؛ أليست الرسالة واحدة؟
لقد تم توظيف السينما الأميركية توظيفاً سياسياً وثقافياً لكي تخدم (المصالح العليا) للولايات المتحدة ولقد كان أثرها على العقل العام في العالم الثالث رهيباً ومخيفاً. لقد قلبت السينما الأميركية الحقائق التاريخية وشوهت صورتنا كأمة ودين وتاريخ وتقاليد. (لورنس) رجل قصير عاش في فترة 1888/ 1935 وعمل في المخابرات العسكرية البريطانية تصوره السينما ذات التمويل الأميركي بأنه استطاع أن يقود أمة العرب المسلمين – هكذا بكل بساطة – لينقلبوا على الدولة العثمانية (الإسلامية) يتنكروا – في الفيلم – لكل الوشائج الإسلامية ليدينوا بالولاء للغرب وحضارته.
في واقع الأمر أن خلاف العرب مع الدولة العثمانية كان أعقد من ذلك بكثير وتحيط به عدة ملابسات تاريخية وسياسية ليس هذا مجال بحثها ولم يتطرق البتة لها الفيلم الذي شارك في بطولته بيتر اوتول وانتوني كوين وعمر الشريف. (خرطوم) فيلم يتناول ثورة المهدي في السودان ضد بريطانيا وهي ثورة إسلامية مشروعة ضد وجود استعماري غير مشروع. يصور الفيلم المهدي على أنه رجل شهوني متعطش للدماء وأن حركته ضد بريطانيا كانت حركة قوامها رعاع حثالة من الأرض وأن (غردون) الضابط البريطاني المكلف بقمع الحركة المهدية كان ملاكاً في غابة من الشياطين: الفيلم شارك فيه لورنس اوليفييه وتشارلتون هيستون (الهجرة Exodus فيلم يتناول الأوضاع المأساوية التي عايشها اليهود في أوروبا خلال فترة النازية وهجرتهم الكثيفة إلى فلسطين يصور العرب وحوضاً تتغذى وتنهش (الحملان البريئة) القادمة من الطغيان الأوروبي ويقف – في الفيلم – الممثل يول برينر بصلعته الشهيرة منفرداً بمواجهة أكثر من مئة عربي فيحصدهم الواحد تلو الآخر ويهتف (عاشت إسرائيل). السينما الأميركية باتت وسيلة من وسائل (الانتشار الأميركي السريع) في العالم والذي يتضمن – فيما يتضمن – اغتيال ذات شعوب العالم الثالث وتشويه تواريخهم وقلب حقائقهم وتعبيد الطريق للذوبان فطلبتنا الذين يدرسون في كل أنحاء العالم ما بين آسيا وأفريقيا وأوروبا لا يشكلون عشر عدد طلبتنا الذين يدرسون في الولايات المتحدة وهذا مؤشر كبير للتبعية الثقافية والعلمية يضاف إلى سلسلة التبعيات السياسية والعسكرية والاقتصادية للأسف، وهذا موضوع يتطلب مناقشة لاحقة إن كتب الله في العمر فسحة.
في كتابه (نصر بلا حرب War Victory Without) يذهب الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون مذهباً بعيداً عندما يؤكد أن على الولايات المتحدة أن تنتزع الزعامة الروحية في العالم مثلا انتزعت الزعامة الاقتصادية والعسكرية، وفي كل صفحة من كتابه يشير إما تلميحاً أو تصريحاً لما يسميه بـ (دور أميركا) و (ورسالتها)، وهو لا يكتفي بأن تضع الولايات المتحدة يدها على (المواد الخام) و(الموارد) و(المعادن النادرة) و(الممرات) في العالم الثالث، بل أيضاً على (الإنسان)، فهو يحذر الشعوب الإسلامية من الأصولية الإسلامية و(مثُلها التي لا تحتمل) كما يقول، لكنه كان صريحاً بما فيه الكفاية عندما قال أن الأصوليين الإسلاميين في الخليج (يهددون المصالح الغربية هناك) انظر ص 307، ويبدو الرئيس نيكسون أكثر شراهة – وهو يتحدث عن الأصولية الإسلامية محذراً منها ومؤكداً أن أميركا هي صاحبة (الفكرة الطيبة The good idea وأن الفكرة الطيبة هي خير رد على الفكرة السيئة)، وأنا استغرب – بالفعل – من رجل كنيكسون قضى في عالم السياسة ما يزيد على أربعين عاما ووصل إلى رئاسة قوة عالمية كالولايات المتحدة أن يتصور أن الشعوب العربية والإسلامية ممكن أن تُدْبِرَ عن الإسلام وتقبل على أميركا لأنها صاحبة (الفكرة الطيبة)، على حد تعبيره. وبالرغم من جرائم (العالم المتقدم) في العالم الثالث يؤكد نيكسون بأن (العالم المتقدم لم يتسبب هو نفسه في مشكلات العالم الثالث)، انظر ص 282. ولذلك ينصح بني قومه بضرورة “التخلص من إحساسنا بالذنب” ولا أدري كيف يفسر نيكسون تلك القرون التي استعمرت فيها الدول الغربية كثيراً من بقاع العالم الثالث ونهبت خيراتها نهباً وإحالتها إلى قفار اقتصادية. ثم يقول لسنا مسؤولين عن مشكلات العالم الثالث وأن “الفقر وسوء التغذية والمرض والحرب في هذه الأمم ليس خطأنا”؟ وبلهجة الرسول المبعوث المنقذ من الضلال يقول الرئيس نيكسون “ينبغي على الولايات المتحدة في السنوات الواقعة بين العام الحالي وعام 1999 أن تتولى القيادة في حملة لإعلاء القيم المعنوية ونزع رايتها ممن يَعِدون بالازدهار والانجاز في العالم الثالث ولا يقدمون سوى الفقر للجسد والسلاسل للروح” ويحار المرء عندما يسترض ملف العلاقات الأميركية مع هيلاسلاسي في الحبشة وماركوس في الفلبين والشاه في إيران وباتيستا في كوبا وسوموزا في نيكاراغوا تمبلباي في تشاد وبينوشيه في تشيلي وغيرهم ويبحث عن (القيم المعنوية) التي يتحدث عنها الرئيس نيكسون بظل فضية ووترغيت خلال رئاسته – فماذا يجد غير مساندة للطغيان السياسي وسحق لحقوق الإنسان ونهب لمقدرات الأمم في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية؟ وكيف يتوقع منا الرئيس نيكسون أن ندبر عن الإسلام الذي يغنينا عنه شيء في هذا العالم ونقبل على (القيم المعنوية) الأميركية التي خبرتها شعوب العالم الثالث ولم تكن تجربتها في هذا المجال مشجعة على الإطلاق. إن من يقرأ أعمال مؤلفات عالم الاجتماع الأميركي الفين توفر مثل (صدمة المستقبل) (Future Shock) و(الموجة الثالثة The Third Wave) وغيرهما من كتب هذا الأميركي الفذ القابع في خضرة كونيكتيكت يدرك أن الولايات المتحدة تعيش حالة من الفوضى في مجال (القيم المعنوية) .
(عن جريدة السفير 28/02/92)
1992-03-31