التحليل السياسي
2016/10/29م
المقالات
1,822 زيارة
التحليل السياسي
في17/8/1996 تجدّدت الاشتباكات بين حزب الإتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني. وقد استعان حزب الطالباني بإيران مما مكّنه من احتلال مراكز إستراتيجية تسهل له السيطرة على طريق النفط من العراق إلى تركيا. وقد دفع هذا حزب مسعود البرزاني إلى الاستعانة ببغداد، فلبّت بغداد طلبه، وحشدت قوّاتها على حدود المنطقة الشمالية في 28/8/96 وفي يوم السبت 31/8/96 دخل الجيش العراقي منطقة الحظر، وسيطر على أربيل وبعض المواقع الأخرى، وفي يوم الثلاثاء والأربعاء 3و 4/9/96 شنّت القوّات الأمريكيّة البحريّة والجوّية عدوانا على أهداف الدّفاعات الجويّة العراقيّة، ومراكز الاتصال في جنوب العراق، رغم أنّ الأحداث كانت في الشّمال. وفي يوم 4/9/96 بدأت قوّات الجيش العراقي بالانسحاب من أربيل.
وكانت الولايات المتّحدة تعمل لإيقاف الاقتتال بين الحزبين الكرديين الرئيسين، وتسعى لإيجاد مصالحة بينهما، وكان حدّد يوم 30/8/96 لإجراء مفاوضات سلام بينهما في لندن، تحت رعاية الولايات المتّحدة الأمريكيّة. غير أنّ دخول الجيش العراقي إلى أربيل أحبط هذا المسعى الأمريكي.
هكذا كان تسلسل الأحداث والوقائع. ولفهم هذه الأحداث والوقائع يقتضي الرّجوع إلى سياسات الأطراف فيها، وحوافز كل من بغداد والولايات المتّحدة عليها، والغاية التّي يهدف إليها كلّ منهم. فالبرزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني وجلال الطالباني زعيم حزب الإتحاد الوطني الكردستاني يتنافسان على الزّعامة ويحتفظان بعلاقات سريّة مع بغداد، ولكن الطالباني يتظاهر بالسير مع أمريكا، لذلك رفض سنة 1991 اتّفاقا للحكم الذّاتي كان قد توصّل إليه مسعود البرزاني مع صدّام حسين.
أمّا بغداد فإنّها تحرص على بقاء العراق بجميع أجزائه في الشمال والوسط والجنوب كيانا واحدا، ووحدة واحدة، وتقاوم عملية لتقسيمه والفصل بين أجزائه، وهي ترى في الصّراع بين الطالباني والبرزاني، وفي وجود التوازن بين قوّتيهما إحدى ضمانات عدم انفصال الشّمال الكردي، وعدم قيام دولة كرديّة مستقلّة، لذلك دأبت على تغذية الصّراع بينهما وعلى تكريس التوازن بين قوّتيهما. أمّا الولايات المتّحدة فتعمل على فصل شمال العراق الكرديّ عن المركز في بغداد. وعلى إقامة دولة كرديّة مستقلّة فيه. لذلك فهي تسعى جاهدة لإيجاد مصالحة بين الحزبين الكرديين الرئيسيين، وإيجاد نواه لمؤسّسات الدّولة الكرديّة المستقلّة، غير أنّها تصطدم دائما بتعنّت الحزبين الكرديين، وبالنّزاعات والصّدامات التّي تقع بينهما كلمّا جدّدت مساعيها للمصالحة بينهما. وقد تمّت آخر زيارة لوفد أمريكي لشمال العراق في شهر نيسان الماضي عندما استطاع الوفد تثبيت وقف إطلاق النّار بين الحزبين، لكنّه فشل في دفع الزعيمين الكرديين إلى اتّفاق على تقاسم السلطة، وإحياء المؤسّسات الدستوريّة المتمثّلة في البرلمان والحكومة. وفي مطلع آب الماضي جدّدت أمريكا اتّصالاتها مع الزعيمين الكرديين، تمهيدا لجولة جديدة من الوساطة، وكانت قد أعلنت في 28/8/96 أنّها توصّلت مع الحزبين الكرديين الرئيسيين إلى توقيع اتّفاق على وقف إطلاق النّار، من أجل إنهاء المعارك الدائرة بينهما منذ بضعة أيّام في هذه المنطقة الخارجة عن سيطرة السلطة المركزيّة في بغداد، كما أن البرزاني أعلن موافقته على وقف إطلاق النّار، وأوضح أنّ مفاوضات سلام ستبدأ في يوم 30/8/96 في لندن تحت رعاية الولايات المتّحدة، وأوضح أنّ اجتماع ممثّلي كلّ من الحزبين يهدف إلى ترسيخ وقف النّار عن طريق تمركز مراقبين على السّاحة، ولكن ذلك كلّه قد فشل بسيطرة الجيش العراقي على أربيل بطلب من البرزاني. والذّي دفع بغداد إلى التدخّل هو إعادة التوازن بين الحزبين الكرديين وإبعاد قوّات الطالباني عن المراكز الإستراتيجية، وتفشيل مساعي أمريكا في محاولاتها لإيجاد مصالحة بين زعيمي الحزبين الكرديين والاتفاق على تقاسم السلطة بينهما، وإحياء المؤسّسات الدستوريّة تمهيدا لإقامة دولة كرديّة، وفصلها عن بغداد.
هذه هي الأسباب التّي دعت بغداد لأن تسارع إلى مد يد العون لقوّات البرزاني بالّرغم ممّا يحمل ذلك من مجازفة بالمواجهة مع أمريكا، فالأمر يتعلّق بمؤامرة لفصل الشّمال، والحيلولة دون ذلك تستحقّ مثل هذه المجازفة.
ومع أنّ الأزمة حصلت في الشّمال فإنّ أمريكا وجّهت ضرباتها الصاروخيّة إلى أهداف عسكريّة في الجنوب، وليس في الشّمال، وأعلنت توسيع منطقة الحظر الجوّي إلى خطّ العرض 33 في الجنوب، وليس في الشّمال ممّا يدلّ دلالة واضحة على أنّ أمريكا ليست معنيّة فقط بفصل شمال العراق الكرديّ، وإنّما هي معنيّة أيضا بفصل جنوبه الشيعي. فحظر جنوب العراق على الجيش العراقي كما طالبت، من شأنه أن يسهّل انفصال الجنوب، بل ويجعله أسهل من فصل الشمال الكردي، ذلك أن فصل الشّمال يحول دونه أو يعرقله موقف الأكراد أنفسهم، وموقف الدول الإقليميّة. لكن فصل الجنوب لا يحول دونه سوى قوّة الجيش العراقي، فإذا جرى إبعاد الجيش العراقي عن الجنوب فلن تكون هناك عوائق ماديّة أمام فصل الجنوب. وهذه هي الغاية من العدوان الأمريكي الجديد على العراق، ومن ضربه للأهداف العسكريّة في الجنوب.
وليست هذه هي المرّة الوحيدة التّي حاولت فيها أمريكا إخراج الجيش العراقي من جنوب العراق، مقدّمة لفصله عن بغداد. فقد حاولت ذلك في تشرين الأوّل سنة 94 عندما ادّعت أنّ العراق حشد قوّات من جيشه في الجنوب لإعادة غزو الكويت، إذ حشدت أمريكا عندئذ قوّات كبيرة في المنطقة بغية توسيع المنطقة المحظورة في جنوب العراق وإخراج الجيش العراقي منها، لكن معارضة الدول الكبرى الأخرى: بريطانيا وفرنسا وروسيا والصين أحبطت المساعي الأمريكيّة. واليوم أعادت أمريكا محاولتها وأعادت الدول الكبرى إحباط المسعى الأمريكي، وإن كان أكثرها لم يعارض توسيع منطقة الحظر الجوّي فقط. ولن يوقف هذا الفشل المساعي الأمريكيّة، وستبقى تحاول المرّة تلو المرّة للأهميّة التّي توليها لتقسيم العراق.
إنّ موقف فرنسا وروسيا، وموقف عملاء أمريكا في المنطقة ضدّ الاعتداء الأمريكي على العراق وإعلانهم أنّ العراق مارس سيادته على أرضه، وأنّه يقوم بالمحافظة على وحدة أراضيه، ويحول دون تقسيمه وأنّ ما قام به من مساعدة البرزاني لا يتناقض مع القوانين الدّوليّة ولا مع قرارات مجلس الأمن، ليدلّ دلالة واضحة على إدراك هذه الدول أنّ الاعتداء الأمريكي على القواعد العسكريّة العرقيّة إنّما كان لهدف تقسيم العراق، واحتوائه وتحجيمه بفصل الشمال والجنوب عنه، وبإضعاف قدرات الجيش العراقي.
ويدلّ على هذا ما قاله كلينتون في خطابه الذّي ألقاه في يوم 3/9 بعد ضرب أهداف الدفاعات الجويّة العراقيّة ومراكز الاتصالات في الجنوب، فقد جاء فيه: “إنّ أهدافنا محدّدة وواضحة، وهي أن نجعل صدّام يدفع الثمن وأن نضعف قدراته على تهديد جيرانه وتهديد المصالح الأمريكيّة ّ وقال: لقد قرّرنا مدّ منطقة الحظر الجويّ جنوبي العراق، وهذا سيحرم صدّام من السيطرة على الأجواء العراقيّة من الحدود الكويتيّة وحتّى الضواحي الجنوبيّة لمدينة بغداد، وسيحدّد بالتّالي قدرة العراق على القيام بعمليّات دفاعيّة” وقال: “إنّ من الواجب علينا العمل على إضعاف قدرة العراق على ضرب جيرانه، والواجب علينا كذلك أن نضاعف من قدرة بلادنا على احتواء العراق على المدى البعيد، وإنّ الخطوات التّي اتّخذناها اليوم ستساهم في تحقيق تلك الأهداف”.
إنّ اعتداء أمريكا على العراق يجب أن ينظر إليه على أنّه اعتداء على العراق وأهله المسلمين، وليس اعتداء على صدّام، وإنّ على المسلمين واجب الوقوف بحزم ضدّ أمريكا ومخطّطاتها في هذه المنطقة، ومقاطعتها سياسيا وعسكريّا واقتصاديّا والعمل على خلع نفوذها ونفوذ الدول الكبرى كلّها في هذه المنطقة.
2016-10-29