نقض الاتجاه العصبي في تفسير السلوك الإنساني
2016/10/29م
المقالات
2,156 زيارة
نقض الاتجاه العصبي في تفسير السلوك الإنساني
بقلم: السيّد عبد الهادي سعيد
إنّ أصحاب هذه الاتجاه يتخيّلون إمكانيّة تفسير السلوك الإنساني من خلال دراسة الدّماغ والأعصاب التي تربط الدّماغ بالأجهزة الأخرى للجسم، ويرون أنّ فهم عمل الدّماغ والأعصاب المتعلّقة به تمكننا من تفسير السلوك لأنّ الدّماغ هو الذّي يحكم كلّ الأفعال والحركات.
نقض هذا الاتجاه:
1- لا ريب أن الدّماغ جزء من الإنسان والحيوان، وهو المركز الأساسي والرئيسي للإحساسات التيّ تنتج عن الأعصاب حين تثار بواسطة المثيرات الخارجيّة والداخليّة والفكريّة، وكون الدّماغ هو مركز الإحساس يعني أنّه المتحكّم في سلوك الإنسان، أو يمكن تفسير سلوكه على أساس فهم الدّماغ وفهم عمله وما يتعلّق به من الأعصاب، لأنّ البشر يختلفون اختلافا جوهريّا في سلوكهم وغاياتهم ودوافعهم عن الحيوان في حركاته ودوافعه وأهدافه الغريزيّة، فالإنسان سلوكه إرادي وغاياته ودوافعه فكريّة وتتصل بالمفاهيم والإرادة الذّاتية بخلاف الحيوان، مع أنّ كلاّ منهما يملك دماغا. وأيضا فإنّ البشر مختلفون فيما بينهم في سلوكهم وغاياتهم ودوافعهم الفكريّة والإراديّة، مع أنّهم جميعا يملكون دماغا له تركيبة وخواص وآلية عمل واحدة، والفرد الواحد قد يغيّر من أفكاره وسلوكه ودوافعه وغاياته من وقت لآخر، ممّا يدلّ دلالة قاطعة على أنّ الدماغ ليس له علاقة بالسلوك الإرادي من حيث التحكّم فيه إقداما وإحجاما أو من حيث تفسيره دافعا وغاية.
2- إنّ الإحساس بالمثير وانتقال الإحساس به إلى الدّماغ بواسطة الأعصاب الخاصّة بالحواس الخمس، يتمّ عند جميع البشر بنفس الطريقة، ومع ذلك نجد الاختلاف في السلوك الإنساني مع اتحاد المثير، وكذلك نلاحظ اختلاف وتناقض سلوك الفرد الواحد مع إتّحاد المثير في وقتين مختلفين، وكذلك نشاهد التعدّد والتنوّع والتجدّد في الدوافع والنوايا في السلوك الواحد الصادر عن مجموعة من الأفراد أو الصادر عن الفرد الواحد في وقتين مختلفين، ممّا يدلّ دلالة واضحة على عدم وجود أيّة علاقة بين الدّماغ وعمله والأعصاب المتعلّقة به وبين سلوك الإنسان وتفسيره.
3- إنّ كلاّ من الإنسان والحيوان يملك دماغا، ومع ذلك نجد الفرق الجوهريّ بين الإنسان والحيوان من حيث فهم السلوك وتفسره، فالحيوان يمكن فهم وتفسير حركاته ودوافعه وغاياته الجبريّة والفطريّة من خلال معرفة المثيرات وآثرها عليه واستجابته الصّادرة عنه بفعل هذه المثيرات، وهذه المعرفة ثابتة دائمة لا تتغيّر لأنّ العلاقة بين المثير والاستجابة علاقة مفروضة على الحيوان لا يستطيع تغييرها أو تبديلها، فوجود هذه المعلومات عند الإنسان تمكّنه من فهم وتفسير سلوك الحيوان بشكل قاطع، فرؤية الإنسان لحبّات قمح ونمل موجود بالقرب من هذه الحبّات يجعل الإنسان يحكم على أنّ النمل سيذهب ليأكل القمح ليسبع حاجته، بخلاف الإنسان فمسألة فهم العوامل المتحكّمة في سلوكه وتفكيره تعتمد على أمور كثيرة منها مفاهيمه عن الحياة، وردود فعله وغاياته ودوافعه أمور إراديّة وبالتّالي إمكانيّة الخطأ في تفسير السلوك الإنساني أمر محتّم، والحكم على هذه الأمور ظنّي وليس بقطعيّ، وعلى هذا فالفرق الجوهري بين الإنسان والحيوان، والتطابق التّام بينهما في طريقة نقل الحس بالمثير الواحد إلى الدّماغ يؤكّد بشكل قاطع عدم وجود علاقة بين الدّماغ وبين السلوك الإنساني من حيث التحكّم فيه وتفسيره.
4- إنّ الدماغ الصالح لربط الواقع بالمعلومات السابقة أو لربط المعلومات السابقة بالواقع هو شرط من شروط العمليّة الفكريّة التي يجريها الإنسان من أجل إدراك الوقائع المحسوسة والتعامل معها بصورة فكريّة، فكون الدّماغ الصالح للربط شرطا في الفكر لا يعني انّه يؤثر في سلوك الإنسان وتنوّه وتجدّده وتعدّده بدليل اختلاف السلوك والدّوافع والغايات بين البشر وحتّى في الفرد الواحد وتناقضه. إنّ علاقة الدّماغ الصّالح للربط بالسلوك هي تماما كعلاقة الهواء والماء بالحياة، فالهواء والماء من شروط الحياة، أي يلزم من عدمها العدم ولا يلزم من وجودها الوجود، وبعبارة أخرى يلزم من انعدام الهواء أو الماء انعدام الحياة ولا يلزم من وجودهما وجود الحياة، فالإنسان يفقد حياته مع وجودهما، كما أنّ فهم الحياة ومظاهرها وكل ما يتعلّق بها من آثار ليس له علاقة بالهواء أو الماء، وكذلك الدّماغ والأعصاب التي تربطه بالأجهزة الأخرى للجسم ليس لها علاقة بالسلوك الإنساني من حيث فهمه وتفسيره. فالدّماغ الصالح ليس سببا في السلوك الإرادي وإنّما شرط، والفرق بينهما كبير، وعدم التفريق بينهما هو السبب الحقيقي في إخفاق علماء الطب في معرفة أسباب الأمراض وبالتالي في الإخفاق في معالجة أكثر من تسعين بالمائة من الأمراض مع التقدّم الهائل على الصعيد التكنولوجي من ناحية طبيّة، لأنّهم يتناولون أعراض المرض والشروط المتعلّقة به ولا يستهدفون السبب الحقيقيّ المؤدّي له.
5- إنّ الحركات الجبريّة التي تجري داخل الإنسان لا صلة لها بالبحث لأنّها تتّصل بالمعارف العلميّة والطبيّة والبيولوجيّة وتعتمد على الطريقة العلمية ووسائلها وإجراءاتها، ولا تتّصل بالمعارف الإنسانيّة الفكريّة، ومن هناك فدراسة الدّماغ من حيث أجزاؤه وخوّاصه وآلية عمله وأثره على الحركات الجبريّة هي دراسة علميّة وليست دراسة فكريّة، وهي لا تتّصل بالحركات الإراديّة الصادرة عن الإنسان، وهي المقصودة بالبحث والدراسة، وعلى هذا فيجب عدم الخلط بين المعارف العلميّة والتي تعتمد على الوسائل والإجراءات والقياس والنهج العلمي وبين المعارف الفكريّة والتي تعتمد على الوسائل والإجراءات والقياس والنهج العقلي، فما ينطبق على الحيوان فيما يتعلّق بالمعارف العلميّة قد ينطبق على الإنسان، أمّا فيما يتعلّق بالمعارف الفكريّة الخاصّة بالإنسان، فإنّ الإنسان متميّز عن الحيوان والجماد. ولهذا فلا علاقة ولا ارتباط ولا تشابه بين الإنسان وغيره من الكائنات فيما يتعلّق بالعقل والإرادة الذاتية لأنّها أمور خاصة بالإنسان. ولذلك يجب عدم الخلط بين السلوك الإنساني وتفسيره المتعلّق بالعقل وبين الحركات الجبريّة التي يشترك فيها مع الحيوان والتي تتعلّق بالأبحاث العلميّة لا الفكريّة.
6- إنّ هذا الاتجاه قد طرق منهجا غير قابل للتطبيق العملي في فهم السلوك الإنساني وتفسيره لأنّه لا يتأتّى تشريح دماغ الإنسان أو معرفة ما يجري داخله أثناء قيام الإنسان برسم أهدافه أو تحديد دوافعه، مع أن الواقع المحسوس أنّه يمكن فهم دوافع الإنسان وغاياته من سلوكه ومن فهم الدّماغ وعمله وعمل الأعصاب المتعلّقة به.
ومن هنا فإنّ الاتجاه لم يطرح نهجا لتفسير السلوك الإنساني، كما أنّه أخطأ في فهم العوامل المؤثّرة في سلوك الإنسان.
2016-10-29