حمل الدعوة الإسلامية واجبات وصفات
2016/10/29م
المقالات
2,894 زيارة
حمل الدعوة الإسلامية
واجبات وصفات
صدر عن دار الأمة – بيروت ص.ب. (135190) كتاب: حمل الدعوة الإسلامية – واجبات وصفات الطبعة الأولى 1417هـ – 1996م.
المؤلف: محمود عبد اللطيف عويضة
يقع الكتاب في 115 صفحة من الحجم الوسط.
يحوي الكتاب 12 موضوعاً هي: 1- موقع حامل الدعوة، 2- القرآن والكون، 3- قصص الأنبياء، 4- النصر لحامل الدعوة، 5- الطائفة الظاهرة، 6- القدوة والمثال، 7- الإيمان والأعمال، 8- حب الدنيا،9- مع كتاب الله، 10- الإخلاص في حمل الدعوة، 11- الصبر على البلاء، 12- الثبات لحامل الدعوة.
وفيما يلي الموضوع الحادي عشر من موضوعات الكتاب:
الصبر على البلاء
إنه ما من أمة أو شعب أو قوم إلا ولهم عقائد يعتنقونها، وأفكار يحملونها، وأحكام ينظمون بها أمورهم، ارتضوا لأنفسهم هذه العقائد والأفكار والأحكام وألفوها مع مرور الزمن، وصاروا مستعدين للدفاع عنها، لأنها غدت جزءاً من حياتهم وهذه سنة الله في خلقه لا تتخلف في الأمم والشعوب والأقوام، ولهذا رأينا أنه ما من نبي أو رسول جاء قومه بعقائد وأفكار وأحكام جديدة مغايرة لما هم عليه إلا رفضوه ورفضوا ما يدعوهم إليه، وكذبوه وآذوْه، ودافعوا عما ألفوا وارتضوْا من عقائد وأفكار وأحكام، فنال النبي أو الرسول من صنوف الأذى وألوان العذاب ما نجده مبثوثاً في كتاب الله سبحانه، قال تعالى في سورة الأنعام: (ولقد كُذبت رسلٌ من قبلك فصبروا على ما كُذِّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين)، وقال سبحانه في سورة الزخرف: (وكم أرسلنا من نبي في الأولين* ما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤون).
وحيث أن أتباع الأنبياء والرسل يحملون الدعوات من بعدهم، فإنهم هم كذلك كانوا يتعرضون للأذى والتعذيب، ويكفي مثالاً على ذلك قوله تعالى في سورة البروج: (قتل أصحاب الأخدود~ النار ذات الوقود~ إذ هم عليها قعود* وهو على ما يفعلون بالمؤمنين شهود) وما جاء في الحديث الشريف عن خبّاب بن الأرتّ قال: «شكونا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُردةً في ظل الكعبة، قلنا له ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يُحفَر له في الأرض ويجعل فيه فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصدّه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط من الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون» رواه البخاري وأحمد والنسائي وأبو داود.
وقد نال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ونال أصحابَه من أذى قريش وقبائل العرب ما هو معروف ومشهور، ويكفي مثالاً على ذلك ما جاء في البداية والنهاية لابن كثير: «وقال البخاري حدثنا عياش بن الوليد…حدثني عروة بن الزبير سألت بن العاص فقلت أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حِجْر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم. الآية». وما جاء في البداية والنهاية: «عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألح أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: يا أبا بكر إنّا قليل فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فكان أوّل خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضُربوا في نواحي المسجد ضرباً شديداً ووُطئ أبو بكر وضُرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عقبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاء بنو تيْم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكّون في موته…». ولكن الأنبياء والرسل وكذلك أتباعهم من بعدهم ما كانوا ليدَعوا حمل الدعوة وتبليغ الشرائع والأحكام، بل كانوا يصبرون ويصبرون على ما يلاقونه حتى يحكم الله بينهم وبين أقوامهم، وما عُرف أن نبياً أو رسولاً أو أتباع نبي أو رسول تركوا حمل الدعوة وتخلوْا عن حمل الأمانة من تعذيب أصابهم، أو تكذيب واستهزاء تعرضوا له، فكما أن سنة الله في خلقه أن الأمم والشعوب والأقوام يدافعون عن عقائدهم وأفكارهم وأحكامهم، فإن سنّة الله في خلقه أن الأنبياء والرسل وأتباعهم من حَمَلَة الدعوة يصبرون على الأذى والتعذيب حتى يحكم الله بينهم وبين أقوامهم وينزل نصر الله عليهم، فالآية المذكورة قبل قليل (ولقد كُذِّبَتْ رسلٌ من قبلك فصبروا على ما كُذِّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلمات الله) صريحة الدلالة على ما نقول. فالصبر على العذاب والأذى سنّة لا تتخلف في كل من يحمل الدعوة من أنبياء وأتباع على مرّ العصور والدهور، ولم يحصل ولا مرة واحدة أن نبياً أو رسولاً أو حتى جُمْلة الأتباع لنبي أو رسول تعرضوا لأذى أو عذاب فتركوا حمل الدعوة واستجابوا لمراد أقوامهم، لأن ذلك لو حصل لكان خارقاً للسّنّة، ومبدلاً لكلمات الله.
وعلى هذا فإن حامل الدعوة يجب أن يعرف منذ اللحظة الأولى لحمل الدعوة أنه مُقدم على مجابهة قومه وشعبه، ومتعرّض قطعاً للأذى والعذاب، فإذا ما تعرض فعلاً للأذى والعذاب استقبله بالصبر والتحمّل لأنه قد هيّأ نفسه مقدماً لكل هذا، وإلا لم يكن صادقاً في حمل الدعوة ولا عالماً بمقتضياته، فيسقط على جانبي الطريق، ولا يبقى إلا الصادق، وإلا العالم بمقتضيات حمل الدعوة فحسب، وهذه أيضاً سنة لا تتبدل ولا تتحوّل، فالله تعالى يقول في سورة محمد: (ولنبلونّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَ أخباركم) ويقول سبحانه في سورة السجدة: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) ويقول جل جلاله في سورة العنكبوت: (ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين).
إن حمل الدعوة يعني ضرب العقائد والأفكار والأحكام المألوفة لدى الناس، واستبدال عقائد وأفكار وأحكام بها، كما يعني التعرض للأذى والعذاب وما يجب حياله من التحلي بالصبر والتحمّل، وانتظار الفرج والنصر من رب العالمين، هذا هو ما يعنيه حمل الدعوة بأوجز عبارة، فمن حمل الدعوة فليحملها على هذا الأساس، وليهيء نفسه للسير بكل خطواتها، ولا يصح أن يمنّي نفسه الأماني بأنه ربما تعدّى إحدى هذه الخطوات فسلم ونجا من العذاب والأذى، أو جاءه النصر في أول الطريق.
إن حمل الدعوة هو أشرف عمل يقوم به إنسان، وهو أعظم مصدر لجني الحسنات ونوال الدرجات والمنازل، فلا يصح أن يطمع بذلك من أراده بعمل سهل وجهد بسيط، وأمن وأمان، فحمل الدعوة لا يعني التفوّه بالكلام والتشدّق بالقول في المجالس حتى إذا هُزَّتْ له عصا أو سمع تهديدات انكفأ على وجهه ونكص على عقبيه، ظانّاً أن حمل الدعوة لعبةٌ وألهية لتمضية الوقت وإظهار البراعة.
إن البلاء والعذاب أمران لا بد من حصولهما أثناء حمل الدعوة، وإن الصّبر والتحمّل أمران لا بد من وجودهما لدى حامل الدعوة، وكلما أخلص حامل الدعوة وكلما نشط وقدّم كلما اشتد عليه البلاء والعذاب وبالتالي كلما احتاج لمزيد من صبر وتحمّل، فالأنبياء والرسل أولاً، وحَمَلَة الدعوة المخلصون الصادقون النشطون ثانياً، ويأتي سائر المسلمين بعد ذلك حسب الصدق والإخلاص في سلّم البلاء والعذاب والصبر عليهما وتحمّلهما، فعن سعد بن أبي وقاص قال: «قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقّة خُفّف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة» رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان والدارمي والحاكم، ورواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الصالحين يُشدّد عليهم وإنه لا يصيب مؤمناً نكبةٌ من شوكة فما فوق ذلك إلا حطّت به عنه خطيئة ورُفع بها درجة» رواه أحمد وابن حبان والبيهقي وصححه هو والذهبي.
فلينظر كل مسلم وخاصة حامل الدعوة لنفسه، فإن كان مُبتلى بشدّة فليحمد الله، وإن كان غير مُبتلى أو كان بلاؤه خفيفاً فليعلم أن دينه فيه رقّة، فعليه أن يقويه بالإقدام على الواجبات والإكثار من الطاعات، وتعديل خط سيره، ولا يخدعنّ نفسه بتبريرات وتأويلات فاسدة، فإن الميزان يوم القيامة لا يثقل بها، بل ربما بها خف ونقص، لأن التبريرات والتأويلات هذه تحول دون التمسك بالحق والثبات عليه، فتكون معاصي وآثاماً.
إن البلاء والعذاب وإن كانا مكروهين لدى النفس البشرية إلا أن الله سبحانه ينزلهما بمن يحب من عباده الصالحين فضلاً منه وكرماً وإنعاماً بالخير، فمن كانت منزلته عند الله نازلة ارتفع بالصبر على البلاء والعذاب منزلةً، ومن كانت آثامه كثيرة حُطّت آثامه حطّاً، قال تعالى في سورة البقرة: (…وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرّ لكم…)، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلّغه إياها» رواه ابن حبان وأبو يعلى، وعن أبي هريرة أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة» رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، ورواه أحمد وابن حبان والحاكم.
إن البلاء في ذاته شر، وإن العذاب شرّ كذلك، وإنهما أمران لا بد لحامل الدعوة من مجابهتهما، وقد أمره رب العزة بالتحلي بالصبر والتحمل حيالهما، فمن امتثل لأمره سبحانه، فصبر على البلاء وتحمّل العذاب فإنه بذلك يُحيل الشرّ خيراً والأذى نعمة وفضلاً، فالصبر باب عظيم من أبواب الخير لا يجوز لمسلم أن يدير ظهره إليه، ولا أن يجتنبه ويتخلى عنه، وإلا فَقَدَ خيراً عميماً هو في أمس الحاجة إليه، فعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه من يستعفّ يعفّه الله، ومن يتصبّر يصبّره الله، ومن يستغن يغنه الله، ولن تُعطوا عطاء خيراً وأوسع من الصبر» رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي.
إن الله سبحانه كما يصبّ البلاء على من يحبّ من عباده فإنه يهبه الصبر لملافاة هذا البلاء، فهما أمران متلازمان لدى المؤمنين الصالحين المخلصين، فكما أن من لا يصيبه بلاء ففي دينه خفة ورقة، فكذلك من لا يملك الصبر ففي دينه خفة ورقّة، أحدهما يدل على الآخر ويرشد إلى وجوده، وكلاهما يدل على مدى فضل صاحبه عند ربه، فعن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بالشهيد يوم القيامة فينصب للحساب، ويؤتى بالمتصدق فينصب للحساب، ثم يؤتى بأهل البلاء ولا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، فيصبّ عليهم الأجر صبّاً، حتى إن أهل العافية ليتمنون في الموقف أن أجسادهم قرضت بالمقاريض من حسن ثواب الله لهم» رواه الطبراني وأبو نعيم، وصدق الله العظيم القائل في سورة الزمر: (…إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب).
على هذا الصعيد يجب على المسلم أن يحمل الدعوة، يسير في حملها وهو متبين موطئ قدميه، غير غافل عن أية خطوة يخطوها، لأنه يسير في حقل مزروع بالألغام، لا يمكنه قطعه واجتيازه بدون أداة الصبر والتحمل، فبالصبر والتحمل يتغلب على كل بلاء، ويصمد لكل عذاب، ويتصدى لكل مكروه، ولهذا جاء ذكر الصبر في كتاب الله تعالى في حوالي مائة موضع، وما ذاك إلا لخطورته وفضله.
ونزيد على ما سبق بالقول إن من أصيب بمصيبة فأراد أن يحولها في الدنيا إلى خير، فليعمل بما روته أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنّا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجُرني في مصيبتي وأَخلِف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها…» رواه أحمد ومسلم.
وإذا ما تعرض حامل الدعوة للتعذيب من قبل أعداء الدعوة فليقتدِ برسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يدعو الله سبحانه بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لدى تعذيب أهل الطائف له عندما ذهب لدعوتهم، فعن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا (التتمة ص114)
2016-10-29