العقل والهوى
2016/10/29م
المقالات
2,611 زيارة
مع القرآن الكريم
العقل والهوى
بسم اللـه الرحمن الرحيم
قال تعالى: (كذلكَ يبيّنُ اللـه لكمْ آياتِهِ لعلكم تعقلون) [البقرة 242].
وقال تعالى: (والدارُ الآخرة خيرٌ للذين يتقون أفلا تعقلون) [الأعراف 169].
وقال تعالى: (إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون) [الرعد 4].
وقال سبحانه: (فاحكمْ بينَ الناسِ بالحقِّ ولا تتّبِعِ الـهَـوى فيضلَّكَ عن سبيل اللـه) [ص 26].
وقال: (أفمن كانَ على بَيِّنَة من ربّهِ كمنْ زُيِّنَ له سوءُ عَمَلِه واتَّبَعوا أهواءهم) [محمد 14].
الغرض من كتابة هذا الموضوع هو التنبيه إلى التفريق بين العقل والهوى في كل المواضع. إذ نلاحظ كثيراً من الكُتّاب أو المتحدثين يضعون كلمة (العقل) حيث يجب أن يضعوا كلمة (الهوى). وهذا يقع غالباً عند الكلام عن أدلة الأحكام الشرعية. فمثلاً نجد بعض (العلماء!) يفتون بإباحة الربا ويسوقون دليلهم، فيأتي آتٍ ويقول لهم: ( إن دليلكم ليس من الشرع بل من العقل). وهذا القول خطأ لأن دليلهم ليس من الشرع وليس من العقل بل هو من الهوى. وكذلك الذين يعطون الفتاوى بأخذ الديمقراطية الغربية ليس لهم دليل من الشرع ولا من العقل. والذين يعطون الفتاوى بإسقاط الحدود الشرعية وأخذ عقوبات أخرى، لا يصح أن نقول: تركوا الحدود الشرعية ووضعوا عقوبات من عقولهم، بل وضعوها حسب أهوائهم. والذين أفتوا بالصلح مع اليهود، أو أفتوا بجواز تعدد الدول في الأمة الإسلامية الواحدة، أو أفتوا بعدم وجوب العمل لإقامة الخلافة. في كل هذه الفتاوى لا يجوز أن يقال بأنهم حكّموا عقولهم بدل تحكيم الشرع، لأنهم في الحقيقة لم يحكموا الشرع ولم يحكّموا العقل بل حكّموا الهوى. وكذلك ما يسمونه هذه الأيام بفقه الواقع وفقه الموازنات فإن أكثر مسائله لم يحكّموا فيها الشرع ولم يحكّموا فيها العقل بل حكّموا الهوى.
تحكيم العقل لا يؤدي إلى الضلال ولا إلى الانحراف، بل يؤدي إلى الهداية. لم يرِدْ في القرآن الكريم موضع واحد فيه ذَمٌّ للعقل، بل كلما ذُكِرَ العقلُ في القرآن ذُكر في مقام المدح، كما نرى في الآيات المذكورات في أول هذه الصفحة. وقد تكررت عبارة (أفلا تعقلون) ثلاث عشرة مرة في القرآن. وتكررت عبارة (لعلكم تعقلون) ثماني مرات. وتكررت عبارة (لقوم يعقلون) ثماني مرات. وتكررت عبارة (لقوم يتفكرون) سبع مرات، والتفكير هو استعمال العقل.
ونحن نعلم أن العقل هو الذي يميـّز الإنسان ويفضله على سائر المخلوقات المحسوسة، وبه كرّم اللـه بني آدم وفضلهم على كثير مما خلق. ونعلم أن العقل هو واسطة التفكّر في الكون للاهتداء إلى الإيمان باللـه والرسالات. وهو الواسطة لاستنباط العلوم التجريبية والخفايا الكونية لتسخيرها لخدمة الإنسان.
في الأمور الدينية العقل هو:
أ- المرشد والدليل الأول على أصول العقيدة (الإيمان باللـه، الإيمان بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، الإيمان بأن القرآن من عند اللـه).
ب- الذي يفهم الواقع الذي تتنزل عليه الأحكام الشرعية، أي هو الحاكم في فهم مناط الأحكام الشرعية.
ج- الذي يفهم النصوص الشرعية (الكتاب والسنة) ويستنبط منها الأحكام الشرعية. وفي هذه النقطة لا يتعدى العقل حدوده، ولا يمكن أن يحوّل نفسه من عامل على فهم النصوص الشرعية ليتقيد بما فيها إلى متحكّم بالنصوص الشرعية يعمل على تغييرها وتبديلها. لا يمكن أن يصدر هذا من العقل لأنه أدرك قبل ذلك أن هذه النصوص وحيٌ من الحكيم الخبير ولا يتطرق إليها الباطل. والعقل يدرك أنه عاجز وناقص وقابل للخطأ، فإذا وقع تعارض بين العقل والوحي فإن الوحي هو الصواب والعقل هو الخطأ، فالعقل يصحح نفسه ويخضع للوحي وهو مطمئن. فإذا رأيت أن الإنسان يتعالى على الوحي ويؤوّله ويعدلّه ويغيره فاعلم أن الذي يعمل في الإنسان حينئذٍ ليس عقله بل هواه.
وهذا لا يعني أن العقل معصوم، بل إنه قابل للزلل والخطأ. فهو قد يخطئ حتى لو حصر عمله في مجاله وضمن حدوده. ولذلك لا يستغني عاقل عن مشاورة غيره من العقلاء، ويلزمه الإذعان والعودة إلى الحق حين يظهر له ذلك.
والهوى لم يَرِدْ في القرآن إلا في مقام الذم. ولا يكمل إيمان المسلم إلا إذا أخضع هواه وقيده بشرع اللـه سبحانه، قال صلى الله عليه وسلم «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به».
وقد وردت كلمة (النفس) في بعض المواضع بمعنى الهوى مثل قوله تعالى: {إن النفس لأمّارة بالسوء) ومثل قوله تعالى: (فطوّعتْ له نفسه قَتْلَ أخيه فقتله).
كثير من الناس يتوهمون أن ما يصدر عن أهوائهم هو صادر عن عقولهم لأنهم يجدون أنفسهم مقتنعين به. وكذلك يتوهمون أن الوساوس التي يحدثها في نفوسهم شياطين الجن أو شياطين الإنس ويقتنعون بها يتوهمون أنها صادرة عن عقولهم. بينما الحقيقة أن هؤلاء زُيّن لهم سوء عملهم واتبعوا أهواءهم وليسوا على بيّنة من ربهم، أي من شرع ربهم. ونسأل اللـه أن يحفظنا من الهوى ومن وساوس الشياطين ويجعلنا من العقلاء المهتدين إلى الصراط المستقيم.
2016-10-29