مفهوم الأمّة
1997/01/29م
المقالات
3,782 زيارة
جرت مجلة الوطن العربي في العدد 1028 مع من وصفته بأنه مفكر إسلامي الدكتور محمد عمارة مقابلة، فعرفت من أجوبة الدكتور وأنكرت، وأحب أن أعلق على بعض الأفكار الواردة فيها المنسوبة إليه، وذلك من قبيل التناصح ولعل نسخة من الوعي تصل إليه عن طريق مجلة الوطن العربي.
أولاً: يقول الدكتور:
(الأمة الإسلامية تقوم على التعددية في الملل بمعنى أنه في معية الأمة هناك نصارى وهناك مسلمون، والمسلمون بعد الفتح أدخلوا البوذيين وأدخلوا المجوس ضمن أهل الكتاب.. إذن في إطار الأمة يكون هناك جزء من هذه الأمة يقول: إن الله ثالث ثلاثة. وجزء يقول: إن «عزير» ابن الله، إذن حتى التكفير والكفر لا يخرج هؤلاء الفرقاء من إطار الأمة، وأقول هذا لأفتح باباً لوحدة الأمة، حتى في ظل وجود من يكفر الآخر داخل هذه الأمة، لأن الكفر الذي يخرج من الأمة هو الذي يعني الحرابة ضد الأمة..).
لا بد أن الدكتور محمد في هذه الفكرة أراد بالأمة كل من حمل التابعية للدولة الإسلامية سواء منهم المسلمون والذميون، ويخرج بهذا كل مسلم لا يحمل التابعية للدولة، وأحب أن أسعف الدكتور بما يدل على فهمه وهو ما ورد في كتابه صلى الله عليه وسلم مع يهود في السنة الأولى من الهجرة فقد ورد في سيرة ابن هشام ما نصه «وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم…» فالأمة في هذا النص يراد بها كل من يحمل تابعية الدولة، إلا أن هذا الاستعمال بعيد اليوم عن أذهان الخاصة فكيف بالعامة؟ بل إن في نفس هذا الكتاب ما نصه «هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس…» أي أن يهود ليسوا من هذه الأمة الواحدة من دون الناس، الأمة التي آمنت وأسلمت، من مهاجريها وأنصارها ومن تبعهم وجاهد معهم… فلفظ «أمة» في هذا النص لا يمكن أن يراد به نفس معناه في النص السابق، فهو يقول «وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين» وفي الثاني «… بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس» أي أن يهود ليسوا من هذه الأمة الواحدة من دون الناس، الأمة التي آمنت وأسلمت من مهاجريها وأنصارها ومن تبعهم وجاهد معهم… فلفظ الأمة في نفس هذا الكتاب مختلف المعنى، فمرة بمعنى من يحمل التابعية، ومرة بمعنى من تجمعهم العقيدة والنظام. فإدخال اليهود في الأمة يدل أن المراد من يحمل الولاء والتابعية، وفي الثانية أخرج من لا يعتقد عقيدة المؤمنين المسلمين ولا يجاهد معهم والجهاد من النظام، وحتى لا يلتبس الأمر في فهم لفظ الأمة والمراد به أتبعه بقوله «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم». ثم ألا ترى أن المسلم الذي يعيش في دار الكفر لا في دار الإسلام لا يعتبر من الأمة بمعنى المجتمع أو ممن يحملون التابعية، بينما هو من الأمة بمعنى المجموعة من الناس الذين تجمعهم عقيدة ينبثق عنها نظام، فالمسلمون الذين كانوا في مكة أو في الحبشة أو في قبائلهم بعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة لم يكونوا من الأمة بالمعنى الأول ولا يحل إخراجهم من الأمة بالمعنى الثاني. وليت الدكتور لم يدخل القراء في هذه المتاهة فأظن أن أول ما يتبادر إلى أذهان القراء أن المراد بالأمة هو المعنى الثاني، وبالتالي يصعب عليهم إدخال المجوس والبوذيين واليهود والنصارى في إطار هذه الأمة، التي يعرفون أن الله سبحانه قال عنها في سورة البقرة: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً).
ثانياً: قال الدكتور:
(المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدوا على الإسلام، وكانوا كفرة، والنفاق أشد من الكفر، ومع ذلك كانوا جزءاً من الأمة. ولما كانت تظهر على أحدهم أمارات وعلامات النفاق، ويأتي عمر بن الخطاب ويقول يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، يقول له كلا حتى لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه… أي أن وحدة الأمة تسع المذاهب والتيارات المختلفة بما في ذلك أن تكون هناك ملل ونحل مختلفة في داخل الأمة).
أرجو أن لا أكون مخطئاً إن قلت إن الارتداد على الإسلام ممدوح، والمذموم هو الارتداد عن الإسلام هذا من حيث استعمال حرفي الجر عن وعلى.
المنافقون كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، ولا يعلم سرهم إلا الله ورسوله، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلع حذيفة على أسمائهم. والأدلة على كفرهم قطعية قال تعالى في سورة التوبة: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون). وفي نفس السورة (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) وفي نفس السورة (إنهم كفروا بالله ورسوله) وفي سورة المنافقون (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا) فالمنافقون كفار في باطنهم، فإذا أظهروا الكفر أقيمت عليهم الحدود أو قوتلوا حسبما يقتضيه الحال (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم). أما إذا لم يُبدوا لنا صفحتهم ولم يظهروا كفرهم فإنهم يبقون من رعايا الدولة الذين يحملون تابعيتها والله يتولى السرائر. أما أن يكونوا من أمة الإسلام التي تجمعها عقيدة الإسلام فهذا خطأ، ولا يمكن أن يكون الدكتور قد قصد هذا المعنى في قوله «أي أن وحدة الأمة تسع المذاهب والتيارات المختلفة بما في ذلك أن تكون هناك ملل ونحل مختلفة في داخل الأمة». فالمنافقون والنصارى واليهود والبوذيون والمجوس والدروز والإسماعيلية والأحمدية والبهائية والقاديانية يمكن أن يكونوا من رعايا الدولة ولا يحل اعتبارهم من الأمة الإسلامية لأنهم ببساطة لا يعتقدون بعقيدتها ولا يتبنون ما ينبثق عنها من نظام.
ثالثاً: قال الدكتور:
(يقلقني أن يأتي الشيعة ليبشرونا بمذهبهم ويزرعونه في قلب المجتمعات السنية بنفس القدر الذي يقلقني أن يأتي نفر من أهل السنة ليزرع مذهب أهل السنة في المجتمعات الشيعية).
إن لفظ التبشير نقل إلى حقيقة عرفية جعلته خاصاً بما يفعله النصارى ولا يسوغ استعماله بين المسلمين. ثم إن من يسمون بالسنة والشيعة يجب أن يكونوا مجتمعاً واحداً، وإطلاق تعبير المجتمعات السنية والمجتمعات الشيعية يشعر بإقرار وجود مجتمعات شيعية وأخرى سنية، وهذه دعوةٌ إلى التفريق ونحن مأمورون بالجماعة فلا حدود بين فارس والعراق ولا بين بيروت ودمشق، ولا بين الإحساء ونجد ولا حضرموت وعمان، فكلها بلاد إسلامية ومن عليها يجب أن يكونوا مجتمعاً واحداً رعايا لدولة واحدة. والمسلمون منهم يشكلون جماعة المسلمين حول إمام واحد. أما ما يقلق الدكتور من انفتاح من يسمون بالسنة على الشيعة والعكس فأمر لا يقلق بل هو واجب، والخلاف سائغ، والجدل لإحقاق الحق وإبطال الباطل بالحكمة والموعظة الحسنة مطلوب شرعاً. ولا يحلّ دَقُّ الإسفين بين من يسمون سنة ومن يسمون شيعة، أما ما سماه الدكتور مذهباً وهو الفقه فلا أدري ماذا يضر اليمني إن كان مذهبه زيدياً أو شافعياً ما دام مبرئاً لذمته أمام الله؟ وابن أذربيجان إن كان جعفرياً أو حنفياً؟ أما التفرق على الأئمة أو الاختلاف فيما هو معلوم من الدين بالضرورة فليس له إلا السيف.
إذا أراد الدكتور بوحدة الأمة اجتماعها على (لا إله إلا اللهمحمد رسول الله) فهي حاصلة الآن حتى في غياب دولة الإسلام (أعني الخلافة) فكل من اعتقد هذه العقيدة فهو من الأمة، وإن قصد اجتماعها على رجل واحد أي أن يكونوا جماعة فغير حاصل، ولن يكون ذلك إلا باجتماع الأمة على رجل لا على فكرة، فاجتماعنا على فكرة أي على
عقيدة يجعل منا أمة، واجتماعنا على رجل يجعل منا جماعة، فالسنة والشيعة والخوارج والمرجئة من الأمة ومن خرج منهم من السلطان وفارق الإمام بقي من الأمة وخرج من الجماعة. «من جاءكم وأمركم جميع على رجل واحد»، إجماعهم على تسمية العام الذي تنازل فيه الحسن رضي الله عنه لمعاوية بعام الجماعة. هذان دليلان أولهما من السنة والثاني من الإجماع على أن الجماعة لا تكون إلا على رجل.
والذي يثير العجب أن الدكتور يعتبر «وحدة الأمة فريضة» وقبل قليل كان قسم الأمة إلى مجتمعات سنية وأخرى شيعية وأقلقه اختلاط أفكارهم لبيان الخطأ من الصواب !! وأرجو أن لا يكون قصد إبقاء الدول والحدود التي رسمها الكفار حواجز بين المسلمين، وأن تبقى فارس للشيعة ومصر للسنة واليمن قسمين بين الزيدية والشافعية، وأن تبقى على وجه الأرض عشرات الدول من صنائع الكفار المستعمرين تحكم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتحول دون استئناف الحياة الإسلامية، ودون كون الأمة جماعة على رجل منها غير مفرقة.
وأخيراً فإن الاستدلال بقوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) من سورة الأنبياء، استدلال في غير محله، إذ قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسيرها «دينكم واحد» وقال الحسن البصري: «أي سنتكم سنة واحدة».
والذي يصلح دليلاً على ما يسمونه خطأً «وحدة الأمة» بينما الصحيح «الجماعة» هو أدلة الجماعة من كتاب وسنة وإجماع، وأفترض أنها معروفة.
والذي يوقع في هذا الخطأ من الاستدلال نسيان مفهوم الجماعة وشيوع لفظ الوحدة مكانه .
بقلم: ع. ع.
1997-01-29