كلينتون والاقتصاد الأمريكي
1997/02/02م
المقالات
2,459 زيارة
في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 1992 اختار بيل كلينتون لعب الورقة الاقتصادية تحت شعار أمريكا أولاً، ومنذ أيامه الأولى في البيت الأبيض كان تركيزه على الجوانب الاقتصادية ما أعاد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة وشجعه على جعل أول أولوياته الانتهاء من عجز الموازنة في مطلع القرن المقبل والوصول إلى موازنة حكومية متوازنة في العام 2002. وبعد الانتخابات الأخيرة بدأ ببرنامج اقتطاع النفقات من الموازنة من الأبواب التي يراها كمالية مثل رعاية الأطفال ومساعدة الفقراء ودعم المهاجرين الشرعيين الذين لم يصبحوا بعد مواطنين.
الشعب الأمريكي همه الأول إشباع نهمه في الاستهلاك، مع نيل أكبر قدر ممكن من الملذات. وهو بعد أن عانى من نسب تضخم عالية لمدة تزيد عن ثلاثة عقود جاءت سنوات حكم كلينتون الأربع بنسبة تضخم منخفضة ومستقرة لم تتجاوز 3%، ما جعل الشعب الأمريكي يعيش فترة طويلة من استقرار الأسعار أتاحت له التمتع بالدخل وتحسين المعيشة. وتحققت في عهد كلينتون نسبة نمو اقتصادي بلغت حوالي 2.5% أمّنت للأمريكيين، بالإضافة إلى زيادة الأجور، حوالي عشرة ملايين وظيفة جديدة خلال هذه السنوات الأربع بالإضافة إلى دعم خزينة الدولة. فبالنسبة لاقتصاد حجمه سبعة آلاف مليار دولار فإن نمواً مقداره 0.5% سنوياً لمدة 8 سنوات يمكن أن يحقق زيادة من الضرائب للخزينة تُقدَّر بـ 200 مليار دولار. ونسب البطالة كانت دالة على نجاحه إذ بعدما كانت بحدود 7.3% انخفضت إلى 5.3% أي أخفض نسبة لها في ست سنوات، واستقرت على ذلك دون ارتفاع لمدة تتجاوز 18 شهراً.. فكيف لا ينتخب الشعب الأمريكي كلينتون ويصم أذنيه دون نداءات بوب دول بضرورة الاهتمام بالسياسة الخارجية، لا سيما أن الهدف الذي أعلنه كلينتون من الانتهاء من عجز الموازنة يعني بالنسبة للمواطن الأمريكي تخفيف الأعباء الاقتصادية التي عليه بعدما أفهمته وسائل الإعلام أن التضخم الذي عاشه ومتاعب الاقتصاد الأمريكي سببها عجز الموازنة، دون أن يعيَ الضغط الذي سيخلفه هذا عليه، ولو في الفترة الأولى على الأقل.
الأسباب التي ساعدت كلينتون على النجاح متعددة: منها ما لم يكن لكلينتون فيه يد، إذ أن تمويل الولايات المتحدة لدورها العالمي الواسع منذ عام 1950 كان يتم بالسحب على المكشوف (إصدار عملة ورقية بغير غطاء)، وجاءت حرب فيتنام لتزيد الإنفاق العسكري الأمريكي ما أوجد نسب تضخم عالية جداً ظهرت جلية منذ أواخر الستينيات أساءت للعالم كله، لأنه يعني انخفاض قيمة موجودات حكومات دول العالم – والتي بمعظمها من الدولار – فضغطت على الحكومة الأمريكية لأجل ذلك مما دفع ريغان في الثمانينيات لتحديد السحب على المكشوف ومحاولة علاج التضخم وتمويل برنامجه العسكري الضخم (بهدف إنهاك الاتحاد السوفييتي اقتصادياً) عن طريق بيع سندات الخزينة ورفع أسعار الفائدة، ما أوجد مديونية خيالية للولايات المتحدة، فلما جاء كلينتون وارثاً هذه التركة، لم يكن للولايات المتحدة عدو يتطلب كل هذه النفقات العسكرية بل على العكس انسحبت قواته من الصومال ولم تتدخل في أي نزاع مسلح في العالم (التدخل في البوسنة موّلته الدول الإسلامية الغنية: السعودية وماليزيا وبروناي) وبالتالي كان هناك إمكانية لخفض أسعار الفائدة وكبح التضخم.
ومن جهة ثانية أفادت حرب الخليج الثانية الحكومة الأمريكية كثيراً من الناحية الاقتصادية، فتمويلها جاء من دول الخليج. والذخائر التي استهلكت كانت مصنعة مسبقاً ومخزنة، فأثمانها صبت مباشرة في الخزينة الأمريكية بالإضافة إلى مبيعات السلاح الأمريكية لدول المنطقة التي نشّطت الشركات الأمريكية، فقد بلغت 32.2 مليار دولار منذ نهاية الحرب في آذار 1991 حتى نهاية عام 1992 (يذكر أن الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة توقف في آذار 1991 وبدأ بعده الانتعاش الاقتصادي). هذا عدا عن البلطجة الأمريكية التي جعلت الشركات الأمريكية تستأثر بكل الصفقات الهامة في المنطقة ولو بالضغط على الحكومات القائمة، فقد طالب البيت الأبيض المملكة السعودية بإعطاء عقد الاتصالات الهاتفية الذي قيمته 4 مليارات دولار إلى شركة AT & T رغم أن العروض الأخرى كانت أكثر تنافسية، ومنعتها من شراء طائرات إيرباص الأوروبية لأسطولها التجاري لمصلحة شركتين أمريكيتين تعانيان من متاعب مالية هما بوينغ ومكدونال دوغلاس بقيمة 6 مليارات دولار.. وهي ثمار لم يقطفها جورج بوش.
برنامج كلينتون الاقتصادي كان متعدد الجوانب فهو قد وضع سقفاً للمديونية يجب عدم تجاوزه (5000 مليار دولار)، ومرر قوانين ضرائب استثنت أصحاب المداخيل الدنيا لتؤمن للخزينة زيادة بقيمة 241 مليار دولار على مدى خمس سنوات، وأعطى حاكم المصرف المركزي الاستقلالية للسيطرة على التضخم وخفض أسعار الفائدة ما زاد في الانتعاش الاقتصادي، وأحدث ميزانية تقشف لم تؤذِ أصحاب الدخول المنخفضة (سيختلف هذا غالباً بعد إعادة انتخابه). وعند ارتفاع أسعار النفط العالمية هذا العام أمر ببيع النفط من الاحتياط الاستراتيجي النفطي الأمريكي المخزون للطوارئ لكيلا ترتفع الأسعار (هذه الحركة كانت على الأغلب لأهداف انتخابية) ما خفف العجز في الميزانية الفدرالية وفي الميزان التجاري وجنّد السفارات الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية لصالح الشركات الأمريكية والنشاطات الاقتصادية. وأحدث برنامج تنشيط للاقتصاد يقوم على تأهيل عدد من العمال والموظفين في القطاعات المزدحمة، وتعليمهم خبرات ومهارات جديدة، ونقلهم إلى وظائف أخرى أفضل من التي كانوا فيها مما ساعد على تحسين ظروفهم المعيشية وظروف زملائهم السابقين في أعمالهم السابقة بسبب خفة المنافسة بالإضافة إلى إلغاء العديد من الوظائف والنشاطات غير المنتجة.. وتابع من خفض سعر الدولار..
تخفيض سعر الدولار، الذي بدئ به قبل كلينتون، زاد من صادرات الولايات المتحدة ولكنه أيضاً أثار ذعر دول العالم خوفاً منها على قيمة موجوداتها من الدولار ورغم مطالباتها المتكررة لم يتدخل كلينتون لرفع سعر الدولار أو لرفع أسعار الفائدة بحجة أن هذا الإجراء سيسبب ركوداً اقتصادياً، ما دفع المصارف المركزية في العالم لشراء الكثير من الدولارات لوقف الهبوط في سعرها (وهنا حصلت فائدة غير مباشرة للولايات المتحدة عندما زادت موجودات هذه الدول من الدولارات) ما دفع بعض المراقبين للقول إن البنوك المركزية بشرائها للدولار تكون هي التي مولت العجز التجاري الأمريكي خلال السنوات الثلاث 1992 – 1994، فالدولارات التي تم بها الاستيراد حلت محل الدولارات المشتراة من السوق العالمية، فكأن البنوك المركزية دفعت ثمن الدولارات الـمُصَدَّرَة لأن سعر الدولار تابع انخفاضه رغم المشتريات الكثيرة، فتوقفت لذلك المصارف المركزية عن شراء الدولار لعدم رغبتها في زيادة احتياطيها منه.
هل سيستمر هذا النجاح؟
من جهة عَقَدِيّة نجزم أنه لن يستمر وستوجد المشاكل تلو المشاكل لأن النظام الاقتصادي ونظام حياتهم بأكمله قائم على غير شرع اللـه ولن تُحل متاعبهم إلا بالشرع الإسلامي.
ومن جهة واقعية هناك عدة ملاحظات:
-
سياسة الدولار المنخفض لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية فكما أن السحب على المكشوف ساعد الحكومة مؤقتاً لكنه أربكها لاحقاً، ورَفْعُ أسعار الفائدة واللجوء للسندات أتاح للحكومة الأمريكية التقاط أنفاسها، لكنه ما لبث أن أنهكها. فكذلك خفض سعر الدولار له متاعبه الآتية إن لم تتوقف عنه الولايات المتحدة…
-
خفض سعر الدولار لا يعطي الشركات الأمريكية ميزة تنافسية لأن منتجاتها تبقى دون المنتجات اليابانية والألمانية في الجودة، وهذه الأخيرة أسرع في خفض تكاليف إنتاجها (هناك من يقول إن كلفة الإنتاج في الولايات المتحدة تزداد) فهذا الحل مؤقت وقصير الأجل لأن الدولار المنخفض لا يزيد الإنتاجية ولا يحسن النوعية.
-
التدخل الأمريكي في شؤون العالم موجود، وهو يزداد. وإذا كانت الآن لا توجد أزمات عسكرية أو عالمية تؤثر على الاقتصاد الأمريكي فهذا لا يعني عدم حصولها لاحقاً، ولجوء الولايات المتحدة لإيكال المهام المفروضة عليها إلى حلفائها أو عملائها لا يعفيها من حتمية التدخل عند الضرورة.
-
والأهم من ذلك كله هو عادات الشعب الأمريكي الذي ينتج ليستهلك ويستهلك أكثر مما ينتج، وقد تضاعف الاستهلاك في الولايات المتحدة خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية. وهذه العادات لا يمكن السيطرة عليها بالبرامج القائمة حالياً، والدولار المنخفض لا يقلل من الاستيراد لأن الولايات المتحدة غير مكتفية ذاتياً، وكثير من السلع المستوردة لا يستطيع المواطن الأمريكي الاستغناء عنها مثل الإلكترونيات التقليدية (أجهزة التلفزيون والراديو والهواتف وغيرها…) التي لا توجد لها صناعة في الولايات المتحدة، فالدولار المنخفض سيزيد من العجز التجاري ولن ينقصه..
وإذا كانت حكومة كلينتون قد حققت شيئاً من النجاح فشأنها في ذلك شأن كل التشريعات والأنظمة الوضعية، تحل جزءاً من المشاكل مؤقتاً ثم لا تلبث أن ينكشف عوارها ويظهر فشلها. وستبقى الولايات المتحدة – والعالم كله – تخرج من أزمة لتقع في أكبر منها في حركة لولبية متصاعدة لتصل إلى أزمة خانقة ما لم تستدرك وتلتزم بالإسلام ]ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً[. والحمد للـه رب العالمين
1997-02-02