المسـلمـون والغــرب (3)

المسـلمـون والغــرب

(3)

مظاهر الغزو الفكري الغربي للمسـلمين

بقلم: أحمد المحمود

القـومـيـة:

أراد الغرب أن يحل أفكاره محل الأفكار الإسلامية ليصرف المسلمين عن مبدئهم صرفاً كلياً، فكانت له أسلحته المختلفة، منها بث فكرة القومية لتفريق الأمة الإسلامية إلى قوميات شتى وأراد أن يعيدهم إلى أصولهم الأولى التي كانوا عليها قبل الإسـلام حيث كانوا متفرقين، متنابذين، فعمل على هدم الدولة الإسلامية بإثارة النزعة القومية (العروبة عند العرب، والطورانية عند الأتراك، والقومية الكردية عند الأكراد، والفارسية عند الإيرانيين، والبربرية عند البربر…) مستفيداً من الأخطاء الكثيرة التي ارتكبها العثمانيون. وقد سخّر اليهودَ في تركيا، والنصارى في البلاد العربية، من رعايا الدولة الإسلامية، ثم أتبعهم ببعض المسلمين الذين ربّاهم على يديه في مدارسه التي أنشأها وجمعياتها التي بثها في مختلف المناطق. فقاموا جميعاً تحت شعار التحرر القومي وطالبوا بالتجزئة. وقد أوضح ذلك لورانس العرب الجاسوس البريطاني المشهور، الذي تزيّا بزي العرب، ودخل فيهم كالسوسة في الشجرة أو كالدودة في الثمرة، إذ قال في تقريره لقيادته: «إن أهدافنا الرئيسية تفتيت الوحدة الإسلامية بدحر الإمبراطورية العثمانية وتدميرها. وإذا عرفنا كيف نعامل العرب فسيبقون في دوامة الفرقة السياسية داخل دويلات صغيرة حاقدة متنافرة غير قابلة للتماسك». لقد كانت القومية وما زالت دعوة انفصالية تقسيمية تَولّى كِبْرَها الغرب وتلقّفها أناس من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا.

وبالدعوة إلى القومية، حوّل الغرب ولاء المسلمين من الولاء للـه ورسوله والذين آمنوا، إلى الولاء للأصل والعِرْق، وأعادهم إلى ما كانوا عليه قبل الإسـلام حيث كانوا متفرقين متنابذين، وهو يعلم تماماً أن طرح القومية فيه تمزيق للأمة سيتبعه أكثر من تمزيق لما تحمله عصبية القومية من صراعات داخلية وخارجية لا تنتهي إلا أن تزول القومية من جديد.

وهذه الدعوة كانت وما زالت سلاحاً في يد الغرب يمعن فيها بتقتيل الأمة وتمزيقها، والعمل على تسخير أصحابها لأهدافه وشراء ذممهم. وما نراه من تنازع الأكراد فيما بينهم ثم بينهم وبين تركيا كصراع قائم، وبينهم وبين الدول العربية الأخرى كصراع نائم بانتظار أن يحركه الغرب لمصلحته في الوقت المناسب. وما نراه من صراع الأنظمة العربية فيما بينها حتى وصل الأمر ببعضها أن تكون إسرائيل أحب إليها من بعض الأنظمة العربية الأخرى، وما نراه في الجزائر من محاولة اللعب بالبربر ضد المسلمين فإنما يدل على أن أصابع الغرب، التي لم تعد خفية، تلعب بالأمة لعبة القومية في لعبة صراع المصالح فيما بينها.

وإذا كانت القومية مطلباً يقف وراءه الغرب بهدف تمزيق الأمة وتضييع ولائها، فإن لها حداً آخر وهو أن القومية فارغة من كل مضمون فكري، مما يسهل عليه تعبئتها بالأفكار ذات الألوان المنسجمة مع ما يلبسه، وهذا ما يجعلها ترتمي في أحضانه. لذلك حمل دعاة القومية ابتداءً العداء للإسلام باعتبار أن محتواه الفكري صار متأخراً عن ركب الحضارة ومواكبة العصر.. ورأى هؤلاء في الوقت نفسه أن العلاج كله في الأفكار الغربية. وللوصول إلى ذلك جعلوا ولاءهم للقومية فوق كل ولاء. أما اليوم، وبعد أن بدأ المسلمون يعودون إلى دينهم كعلاج لهم من علل الحضارة الغربية، فإن دعاة القومية لم يلقوا سلاح دعوتهم بل راحوا يدّعون أن القومية هي من الإسـلام ولا تعارضه، ويستدلون على ذلك بآيات مثل: ]وإنه لذكر لك ولقومك ولسوف تعلمون[ وأحاديث مثل: «إذا ذَلَّت العرب ذَلَّ الإسـلام» [وهو حديث موضوع كما ذكر الألباني]. وهم بهذا التراجع لم يقضوا على واقع أن القومية تمزق الأمة الإسـلامية الواحدة. وبالنسبة للطرح الفكري عملوا على التقريب بين الإسـلام والغرب بدل الذوبان فيه. وهؤلاء لا يرتاح المسلمون إلى ارتباطهم السياسي سواء للأنظمة أو للدول التابعة لها هذه الأنظمة.

وإذا نجحت الدول الأوروبية في ضرب الدولة الإسلامية هذه الضربة الفظيعة المدمرة عن طريق إثارة النعرة القومية ومن ثم النزعة الوطنية، فإن هذا السلاح ما زال بيدها لم تُلْقِهِ ولم تتخلَّ عنه، وهو يتستر بالإسلام مما يدعو إلى الحذر منه أكثر، خاصة وأننا نرى أن بعض الحركات الإسلامية أو العلماء المسلمين يتساهلون مع هذا الوجه الجديد للطرح القومي: وما المؤتمر القومي -الإسلامي الذي يعقد سنوياً، عنا ببعيد.

لذلك فإنه من الواجب علينا شرعاً أن نبقى على حذرنا وانتباهنا من كل ما يحاولون ذرَّ رماده في عيوننا. إن الأمة تحتاج إلى لحمة الإسـلام ونبذ فرقة القومية، وإلى نصاعة الإسـلام ونظافته من نتن القومية ودعوى الجاهلية. وإننا، في هذا المقام، نتذكر قول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي اللـه عنه: «نحن قوم أعزنا اللـه بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا اللـه أذلنا اللـه».

إن القومية ما زالت سلاحاً بيد أعداء المسلمين، سواء وعى على ذلك حملتُها أم لم يعوا. والمسلم الذي يعمل ابتغاء مرضاة اللـه لا يقبل التهاون والتساهل مع أية دعوة أخرى مهما ادعت القرب من اللـه، بل لا يقبل إلا دعوة اللـه الخالصة المحضة. وإلا كيف سنحقق فينا الخلافة الراشدة الموعودة؟

وما يهمنا قوله، هنا، أن الغرب ما زال مهتماً كثيراً بما يحدث على الساحة الإسلامية. وإنه ليلقي بالحجارة في طريق الدعوة الحقة لكي تتعثر أو تتأخر. واللـه فوقهم وفوق كيدهم وستتفتت حجارتهم إن شاء اللـه. ومهما أخفوا سمهم في دسمنا فسيكشفه اللـه تعالى ويزهقه.

محاربة اللغة العربية:

إن اللغة هي وسيلة التعبير عن الفكر، وهي ترجمان العقل. وإذا كان الإسلام هو الدين الإنساني الخالد، فإن اللـه سبحانه وتعالى اختار أن تكون اللغة العربية هي المركبة التي تحمل الإسـلام للناس جميعاً. واللغة العربية هي أقوى اللغات على الإطلاق، ففيها القدرة على استيعاب الأفكار والمعاني، وعندها القدرة على التعبير عن الدلالات الدقيقة والصحيحة. وتملك القدرة على التوسع بحيث يمكنها مواكبة أي تطور فكري أو علمي، ومواكبة الألفاظ الجديدة. وما تملكه من ألفاظ يزيد على ما تحويه اللغتان الفرنسية والإنكليزية مجتمعتين، وما تملكه من قدرة على التعابير المجازية يفوق ذلك بكثير.

والثروة الفكرية والعلمية والتاريخية والدينية المؤدّاة باللغة العربية تحويها ملايين المجلدات الضخمة وعلى رأسها كتاب اللـه المنزّل ثم كلام رسول اللـه (صلى اللـه عليه وآله وسلم) الذي أوتي جوامع الكلم.

ولما كانت اللغة العربية هي لغة القرآن فقد أصبحت جزءاً جوهرياً من الإسـلام بحيث لا يؤدى كاملاً إلا بها. والاهتمام بالقرآن الكريم أوجب الاهتمام بها، لذلك صارت إلى جانب القرآن من مظاهر وحدة المسلمين. ولما كانت للغة العربية هذه الأهمية وهذا الدور جعلها الغرب هدفاً لسهامه وأراد صرف الأمة عنها وتقليص ظلها، فعمل على محاربة الفصحى، بمختلف الوسائل لإبعاد المسلمين عن الإسـلام مصدرِ وحدتهم. ومن هذه الوسائل فَرْضُ لغتِهِ أو لغاته واعتبارُها اللغة الأولى في البلاد التي احتلها، وإهمال العربية بدعوى أنها لغة وطنية لا تحتاج إلى تعليم، وكذلك جعل لغته هي اللغة الرسمية بحيث لا تؤدى المعاملات إلا بها. وحصر الوظائف بمتقنيها، وصوّر اللغة العربية أنها لغة لا تستطيع أن تواكب التطور العلمي والاقتصادي والفكري، ولا تستطيع أن تلبي حاجات الناس، ودعا إلى نشر اللـهجات العامية لأنها أقدر على التعامل بها من الفصحى، ودعوا بعض الكتاب العرب إلى الكتابة بالعامية لتصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس ولتعمّ الاستفادة، وكتب بعض المستشرقين بالعامية تشجيعاً للمسلمين على حذو حذوهم واللحاق بهم. ومعلوم ما في هذه الدعوة من عزل وفصل للمسلمين عن مصادر ثروتهم الفكرية والفقهية، وهذا مراد خطر.

فهذا المستشرق الألماني «ولهلم سبيتا» يقول: «إن أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصيحة العربية – لغة القرآن – كما هي في الوقت الحاضر». وتمادى المستشرق الألماني «كارل فولرس» أكثر عندما دعا العرب لاستعمال الحرف اللاتيني لدى الكتابة بالعامية. أما المستشرق الإنكليزي: «سلدن ولمور» فقد حاول تعقيد اللغة العامية.  والاسـتشـهادات بأقوال المستشرقين كثيرة، والإكثار منها قد يخرجنا عن خطة البحث. وآزر هذه الدعوة كتّاب منخدعون وآخرون مأجورون مستغربون من أبناء اللغة العربية كلطفي السيد. وقدّم عبد العزيز فهمي مشروع كتابة العربية بالحروف اللاتينية وكذلك دعا طه حسين إلى شيء أسماه تطوير اللغة.

وهذا المكر الغربي ضد اللغة العربية ما زال سارياً حتى اليوم بحيث لا يصل إلى المراكز الحساسة، ويتسلم الوظائف العالية التي تتوقف عليها مصالح الناس إلا من أتقن اللغة الأجنبية.

إن الغرب بسياسته المقصودة تجاه اللغة العربية استطاع أن يجعلها تبدو عاجزة أمام تطور وسائل الحياة وأقعدها عن مواكبة التطور العلمي والتقني، وأفرغها من طاقتها الحيوية حين جعل المناهج التعليمية للغة العربية منفصلة عن الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وصار يُدرسها بشكل جافّ، ولا يشعر المتعلم حين يتعلمها بأي قرب من اللـه بل يشعر بصعوبتها فينفر منها.

وهو الآن يحاول عن طريق ما يعرف بالألسنية الحديثة أن يقعد اللغة العربية من جديد وفي تخطيطه بأن هذه الإطلالة الجديدة على اللغة ربما تصلح أن تكون بديلاً يلغي ما سبق من دراسات لغوية عند أسلافنا السابقين.

إن اللغة العربية يجب أن توظف في خدمة أهداف الدين لذلك يجب أن لا تدرس كغاية بحد ذاتها كما يحدث الآن، فإن في ذلك تفريغاً لها من مفاعيلها. فاللغة العربية يجب أن لا تنفصل النظرة إليها عن اعتبارها لغة القرآن والحديث، فإن من شأن ذلك أن يجعلها حيّة مؤثرة في النفوس وتصبح عندها من العلوم الشرعية.

إن كيد الغرب للغة العربية الذي ما زال قائماً، ليدلل على إدراك الغرب لخطورتها، وإن كل ما من شأنه أن يقيم الإسـلام على دعائم صحيحة وثابتة نرى الغرب قد وضع يده الأثيمة فيه فأفسده واتخذ له الأسباب التي تمنعه والأساليب التي تضيعه.

وإن كذبة الاستقلال الثقافي والفكري والاقتصادي… عن الغرب، كذبة كبيرة لم يصدقها إلا من غشّى اللـه على بصره وختم على سمعه وران الضلالُ على قلبه.

                                            [يتبع]