نظرة في مفهوم «التجديد والتسامح»
2016/10/19م
المقالات
1,947 زيارة
نظرة في مفهوم «التجديد والتسامح»
بقلم: الدكتور أحمد عبد اللـه العمر
إن التاريخ الإسلامي والدين الإسلامي بشكل عام قد وقع ضحية حقد الغرب منذ عدة قرون. والذي كان كل همه تهميش المفاهيم الإسلامية وتمييع القيم الإسلامية وقراءة التاريخ الإسلامي بأبجدية غريبة عنه وبعقول غريبة ملوثة بالصليبية والصهيونية والاستشراق. والواقع أن أجدادنا قد صنعوا التاريخ وكتبوه لنا، ولكن الغرب هو الذي قرأه لنا وأدواتُه التي ربّاها، فصدّقناهم وائْتَمنّاهم، فكان مثلنا معهم كمثل من ائتَمَن الذئب على غنمه. ومن فَرْط غفلتنا وفجورهم وجدناهم اليوم هم الذين يكتبونه وهم الذين يقرأونه على هواهم تحت فِرْيَةٍ كبرى خرقوها لنا، وصدقناها أيضاً وهي الأمانة التاريخية والبحث العلمي والتجديد والتسامح، حتى أصبحنا نجد العجب العُجاب، وأضحى الدين والاحتكام إليه ضرباً من التخلف والجمود، وأصبحت التقوى تعني البلادة والغفلة. والمؤسف حقاً أن كثيراً من كُتّاب المسلمين قد سقطوا في فخاخ الغزو الثقافي هذه وصبّوا التاريخ الإسلامي المجيد وحقائقه الناصعة ومواقفه الرفيعة في قوالب صنعها لهم الغرب من مستشرقين ومبشرين؛ ولا شك عندي أن هذا كله قد حصل والمسلمون في سبات عميق، فلما أفاقوا من غيبوبتهم هذه وجدوا القوالب قد جهّزت لهم فتلقفوها تلقف الجاهل الغافل دون فحص ولا تدقيق، فكان عاقبتها أن فشا النفور من الإسلام وسهل التحلل من أحكامه، واستمرأ المسلمون التخلّي عنه واستبدلوا به أنظمةً وضعية وضيعة، باعتبار هذا تجديداً وتسامحاً وبحثاً علمياً بعيداً عن التعصب. هذه الكلمة التي أصبحت تهمة يحاول المسلمون دائماً التنصُّل منها.. وكلما ازدادوا نفياً لها واستبراءً منها أمْعن الغرب في إلصاقها بهم وتبكيتهم عليها، وهي، وغيرها من السموم المبثوثة بين المسلمين، نتائج حتمية لهجمة غربية صليبية صهيونية شرسة طالت عقول المسلمين حتى تمكنت منها وأقصت الإسلام عن الحياة، فغدت كلمة القومية تهز المشاعر أكثر من كلمة الإسلام. فخـفـت الـحـمـيـة الإسـلامـيـة وصار يعتبر السـخط من مهاجمة القرآن الكريم تعصباً وانْمَحت بذلك المشاعر الإسلامية، ولم يبق إلاّ بقايا مشاعر كهنوتية حُصِرت في المساجد، حتى هذه طالتها يد البطش.
وأكتفي بهذه الكلمات لأقول إن الثقافة الغربية لم تسقط علينا من السماء، ولا هي قدر داهمنا فجأة لم يكن بد من تجرعه. كلا، وإنما دخلت البلاد الإسلامية واستقرت في العقول عبر قنوات رسمية ومن خلال وسائط طبيعية مبرمجة وجهود مكثفة كانت وما زالت، حتى انطلت على الكثيرين وعُمِّيت على المفكرين، حتى وجدنا هذه الأيام من يحاول تأويل الإسلام ليوافق نظامَ الغربِ والتشريعَ الرأسمالي، وحتى شاع هذا في الأوساط الفكرية ووجدنا مفاهيم التجديد والتطوير ومسايرة العصر قد غدت دارجة على كل لسان. ثم خرج علينا كُتّاب مسلمون يصِفون الإسلام بالمرونة، ومنهم من قال: لا بد للإسلام من مسايرة الزمن!! والمقصود من مرونة الإسلام أن يقولوا الرأي الذي يريدونه ولو ناقض الإسلام، وأن يساير الأنظمة الغربية بصفتها هي السائدة اليوم، لذا يتوجب علينا أن نتطور حتى نستطيع العيش معهم! هذه النقولات وغيرها مما هو أفظع منها، أضحت مألوفة يعرفها القاصي والداني. فما الذي غيّر هذه العقول حتى انحرفت هذا القدر الهائل من الدرجات؟! إنها بلا شك حصاد معاول الهدم الثقافية التي طلعت علينا بمفاهيم التجديد والتسامح والصياغة الحديثة للتاريخ والإسلام!!
وكل هذا يعني فيما يعني أخذ الرأسمالية وما يسـمونها الديـمـقراطية واستبدالها بالإسلام لتصبح هي الدين العالمي الجديد. من هذه الكلمات التي تتردد كثيراً على الألسن «التجديد والتسامح» فما هي؟
لقد قال ذات مرة دكتور في مؤتمر عقد في أندونيسيا هو الدكتور تامبونان: (إن التجديد هو رسالة النصرانية). وسواء كان التجديد هو رسالة النصرانية أم لا فليس هذا هو الذي استوقفني، ولكن تكرار الكلمة في البلاد الإسلامية باستمرار دفعني إلى التوقف عندها طويلاً. فالمفترض في التجديد أنه الإتيان بكل جديد وإن كان على مثال سابق، ولكنه بثياب أحسن وجوهر أكثر نقاءً يتمشى مع الفطرة ويوافق العقل ويأخذ بالإنسان إلى الإحسان في كل شيء. ولكن الذي نراه في هذه الأيام النحسات أن معظم الرزايا العظام التي حطت على رؤوس المسلمين وهذا البلاء الشديد الذي مُنيت به الأمة الإسلامية قد وقع تحت ستار هذا الشعار الخبيث «التجديد». فحين تَمَّ القضاء على الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك، ثم نَبذَ هذا الإسلام وقال «لا نريد أن نحكم بكتاب ما زال يحدثنا عن التين والزيتون» وأتى ببهتان عظيم وجدنا الغرب قد هلّل له حين ذاك وقلده أوسمة كثيرة ولقَّبوه «رسول التجديد» أو شيئاً آخر من جنسه.
وعندما نادى المثقفون من العرب المضبوعون بالغرب ونظامه بما نادوْا به وخرجوا به عن الإسلام منحوهم نفس الأوسمة ولقبوهم نفس الألقاب وقالوا عنهم «أبطال التجديد». حينئذٍ وقَرَ في صدري وأنا أُراجع هذا كله وأنظر في التجديد الذي ذكره جناب الدكتور الأستاذ تامبونان أن كلمة التجديد تعني الإتيان بشيء غير الإسلام. وأن المجدد والبطل في نظرهم ليس هو المبدع في العلوم أو المتمسك بالقيم الإنسانية المثلى، أو الذي يحقِر الأنظمة العفنة إذا بان له عوارها ويأخذ بالطيب منها والتي ثبت صلاحها، كلا. بل هو الذي يأتي بشيء يبدل فيه من الإسلام أو يحرفه. وبمعنى آخر فإن التجديد هو الإتيان بالنصرانية أو الرأسمالية، إذ سواهما تخلف يقتضي تجديده. وأن اللحاق بهما والأخذ منهما أو بأحدهما قدر الاستطاعة هو البطولة بعينها، وهو المراد من كلمة التجديد. ولا أرى للكلمة معنى غير هذا عندهم أبداً. فلو كان المقصود بالتجديد هو إيجاد حلول للمشاكل المستجدة التي أحدثتها الحياة الحديثة مثلاً فلا يصح أن يطلق عليه اسم التجديد إذ هو اجتهاد والفرق بينهما واضح تماماً، فالاجتهاد هو الإتيان بالحكم الشرعي من أصوله الثابتة التي لم تتغير ولم تتبدل مذ أُنزلت، ولا يعني بأي حال من الأحوال الإتيان بشيء جديد لم يأت به الإسلام، وإنما يعني إيجاد الحلول للمشاكل المستجدة من قواعدها ونصوصها، وهذه لا تتبدل ولا تتغير ولا تقبل زيادة ولا نقصاناً، كما سلف. والتشريع الإسلامي هو وحده الذي بُني على أساس صحيح قطعي، ومعالجاته هي وحدها المطابقة للواقع والمتمشية مع الفطرة السليمة. أما تطابقه مع الواقع فهو جَعْلُه الواقعَ موضعَ التفكير لإصلاحه وتغييره إلى واقع سليم لا مَصْدرَ التفكير لمجاراته كما هو المطلوب منه اليوم أن يفعل.
ولقد ثبت عبر قرون خلت طُبِّق فيها الإسلام تطبيقاً كاملاً أنه وحده القادر على إعطاء الحل الأمثل لأية مشكلة دون أن يبعد عن أساسه وخطوطِه العريضة، لا كما تفعل الرأسمالية وغيرها من الأنظمة الوضعية، ولا يبقى الإسلام إسلاماً إذا أُريد له غير ذلك. ولا أرى والحالة هذه مكاناً لكلمة التجديد بمفهومها الغربي المستورد.
أما إذا كان التجديد في نظرهم هو التقدم العلمي كما أشرنا لَما أثار فينا الرغبة في التساؤل أبداً ولا الامتعاض، ولكنهم لا يعنون بهذه الكلمة أن يصبح الإسلام متجدداً بمعنى يبيح العلوم والبحث العلمي… كلا، وإلاّ لاتُّهموا بالغباء وقصر النظر حين لم يدركوا أن الإسلام هو الذي دعا إلى العلم والتعلم وكرّم العلماء ولم يحجر على عقولهم ولم يسجنهم! أو يحرقهم! بل دعا إلى التفكير وحض عليه، وكافأ عليه فيكون هو بالفعل بطل التجديد وهو الأحق بالأوسمة والأهل لكل إجلال وتعظيم. فقد كان عبر تاريخه الطويل الدينَ الوحيد الذي ميّز العلماء وأنزلهم منازل من نور. يقول الحق تبارك وتعالى: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) ويقول: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون… ).
بل إن الإسلام قد جعل اكتشاف أسرار الوجود وما أودعه اللـه فيه من قوى وأسرار قربة يتـقـرب بها العـبـد لربـه، إذا كانت خالصة لِوَجهه الكريم، وهو القائل عز وجل: (.. إنما يخشـى اللـهَ من عباده العلماءُ). وقال: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلقَ ثم اللـهُ ينشئ النشأةَ الآخرة..).
إذن هم ليسوا من الجهل والغباء بحيث يظنون ذلك ويطالبون الإسلام بالتجديد، وهم يدركون تماماً أن نهضة أوروبا العلمية مدينة لعلوم المسلمين ولا كلام. فإذا كان التجديد ليس الإتيان بالعلوم والابتكارات وهم ما زالوا يطالبوننا به فماذا يكون إذن؟! ومن ظني أنه لم يبق من معنى للكلمة يذهب إليه كل فطِنٍ إلا ما ذهبنا إليه وبلغ قناعاتنا وهو أن التجديد الذي يدعوننا إليه هو التخلي عن الإسلام وأفكاره ومفاهيمه وأنظمته والأخذ بثقافتهم وحضارتهم.
والسؤال الذي يقفز إلى أذهاننا فوراً ولا ننتظر الإجابة عليه فهو ظاهر بين دفّتيْ رسالتهم إلينا، وهم لا يجهلونه فهو جزء من فكرهم وتاريخهم، فعلامَ يُنْكِرونه؟!
أين هو التجديد في تعاليم المسيحية؟ وأين هو التجديد في مفاهيم الرأسمالية؟!
إن التـقـدم الذي شـهدته أوروبا ليس له علاقة بالنصرانية أبداً، وما ظهرت النهضة العلمية في أوروبا إلا من بعد ثورتها على الكنيسة؛ إن تاريخ أوروبا يحدثنا أنهم لم يستطيعوا التقدم قيْد أُنْملة إلا من بعد أن نفضوا عن كاهلهم نير الكنيسة وجعلوا الدين وراء ظهورهم «أعط ما لقيصر لقيصر وما للـه للـه».
فأين هي العلوم التي تجدَّدت على يد النصرانية؟! وقد كانت الكنائس وأربابها ينشرون الرعب ويحرقون العلماء ويضطهدون المفكرين ويَزُجُّون بهم في السجون، حتى يقول المفكر لصاحبه «أُنج جون فقد هلك جونيه». هذا إذا كان التجديد الذي يزعمونه هو التقدم العلمي والإبداع فيه، أما إذا كان التـجديد هو في الأنظـمة بشـكـل عام فأين هي الأنظـمـة والأحكام التي جاءت بها النصرانية؟ والحقيقة تقول إنها ليست من مستلزمات النصرانية، فلا وجه إذن لاختلاط الأمور.
إن الذي نشاهده في العالم اليوم هو الرأسمالية بنظمها وثقافتها وحضارتها، فأين هي النظم والمفاهيم التي أتت بها الرأسمالية والتي تستحق أن تأخذ بها الشعوب أو تصلح للآدميين؟!
أروني كيف احترمت الحضارة الغربية آدمية الإنسان، وهل حقاً رفَعَتْه أو ميَّزَته عن الحيوان البهيم؟ وما نراه اليوم في أوروبا يُندي الجبين ويستفزّ الرجل الحليم.
كلمة نسوقها إليهم وإلى المفتونين بزَبَدهم أن أقْصِروا.. قَدْ واللـه جاوزتم كل الحدود حتى طفح الكيل، فهلاّ وقفةً صادقة تقفونها مع آدميتكم التي بالَـغْـتُـم في إذْلالهـا؟.. لقد سقطت الأقنعة وسقطت معها المفاهيم المضلِّلة، ولم يبق للتجديد من معـنـى يُدْعى إليه الناس كافـة غيـر الأخذ بنظام الإسلام من جديد ليحكم البشرية كما حكمها أول مرة، وعزَّت به وامتلأت جنبات الأرض منه عدلاً ونوراً.
أما التسامح فهو في الأصل دعوة مسيحية صرفة تهمهم هم لما كان بينهم من صراع، وما عانوْه من فظائع الاقتتال الطائفي والتعصب. ولا شأن للمسلمين بهذا الشعار. فالشريعة الإسلامية لم تتبدَّل ولم تتغير منذ أُنزلت حتى يومنا هذا، وإلى أن يرث اللـه الأرض وما عليها، والتي تدعونا إلى احترام الأديان وأهلها وتوصينا بهم (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون).
ويدور في خَلَدِي أنها دعوة خبيثة قد خرجت من رحم خبيثة وتعدّت مفهومَها الذي وُجدت من أجله! لذا فلنستمع إلى هذا المؤرخ لعلّه يلقي الضوء على هذا الشعار بوضوح وصراحة، فيخرجنا من دائرة الظن هذه إلى اليقين. ذكر المؤرخ البرفوسور «برنارد لويس» خبير العلوم الشرقية في ندوة نُظّمت في فندق كونرار تحت رعاية وزارة الخـارجية والمجـلـس الأوروبي وجمـعـيـة الخمسـماية سـنة تحـت عنوان «العنصـرية واللاسامية» قال:
«إن فكر التسامح قد ولد في النصرانية على أثر الحروب الدينية في أوروبا والتي راح ضحيتها آلاف النصارى نتيجة الصراع الدموي بين الكاثوليك والبروتستانت، فالتسامح وهو الذي يعني فصل الدين عن أعمال الدولة، وباختصار هو العلمانية التي وُجِدت لحل مشكلة النصرانية. فهذه المشكلة لم تنشأ في البلاد الإسلامية، لأن الناس المنتسبين لأديان مختلفة في البلاد الإسلامية وجدوا إمكانية العيش هناك بصداقة وأخوّة وبدون صراع ونزاع. إن التسامح موجود في أصل الإسلام، وهو ليس فكراً قد طرأ عليه فيما بعد، وعندما يقول الإسلام (لا إكراه في الدين) فإنه يوضح بشكل جلي أهمية التسامح التي منحها. فإن غير المسلمين في حالة مطابقتهم لبعض المعايير المعينة يكون بإمكانهم العيش في هناء وراحة في البلاد الإسلامية. فإن التحديات لغير المسلمين كانت فيما يتعلق بالحكم وهي كتدابير واحتياطات. إن غير المسلمين لم يُبْعَدوا عن الحياة الثقافية والاقتصادية في المجتمع في عهد العثمانيين الذي لمعت فيه الحضارة الإسلامية. وقد خدموا في الحكم بأشكال مختلفة ولم يعاملوا قطعاً ولا في زمن كمواطنين من الدرجة الثانية، وكانوا يتمتعون بكافة الحقوق مقابل دفع الجزية. أ.هـ.» – جريدة تركيا الصادرة في منتصف يناير / 1995م.
يتضح لنا من هذا النص الصريح صِدْق ما ذهبنا إليه، وأن كلمة التسامح كلمة حق أُريد بها باطل، ثم فُصِّلت على مقاسنا نحن المسلمين. والسـؤال الذي لا بـد أن يسـألـه كـل مـسـلم وهو يستخف بمسبّباته:
على أي أَمر يريدوننا أن نتسامح؟ وديننا ثابت ثبوت الجبال لم يَلْحَقْه تغيير ولا تحريف، ولم يذكر لنا التاريخ أن خرجت فئة تدَّعي قرآناً جديداً أو طالبت بتغييره فعلام ومع من نتسامح؟! وأَيَّ سُور الكتاب يريدوننا أن نتسامح فيها فَنَرُدَّها على اللـه؟! وأي حدود اللـه يرغبون أن نُسقطها؟!
اللهم إلا أن يكون التسامح معهم هم، ونحن نراهم يفعلون الأفاعيل ويتقولون الأقاويل فنسكت ونطأطِئ رؤوسنا ثم نبتسم! أو نراهم يسفكون دماء المسلمين ويحرمونهم من التعليم ويحرضون عليهم حُكامهم ليذلّوهم ويطردوهم ويتخذوا معهم من وسائل الضغط وأساليب الإغراء والرعب ما لا يقرّه خُلُق ليكرهوهم على تبديل دينهم، فَنُغْمِض أعيننا عن جرائمهم هذه في أنحاء الأرض. وإن كنتم في ريب من هذا فاسألوا أهل إفريقيا والمستضعفين فيها.
هذا هو التسامح المطلوب بكل مبرراته ومسمياته وهو أمر مرفوض مردود عليهم أيضاً بقوة وأنفة وازدراء.. وهو إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن الغرب ومنه أمريكا قوم لا يؤمَن جانبهم، وقد أصبح الإبقاء عليهم والعيش معهم تماماً كالمقيم وسط أفاعٍ لا يَأْمَن لسعها، أو كالمجاور لنار يتّقى شرها ويستكفى لذعها، ذلك أن العداء المتأصل في قلوبهم للإسلام والمسلمين ما زالت مراجله تغلي في صدورهم؛ رغم التسامح الفعلي الذي أبداه الإسلام معهم ومع جميع الشعوب التي عزَّت بالإسلام. ورغم المعاملة الكريمة التي عومل بها أصحاب الديانات ورغم النهضة العلمية التي ظهرت آثارها في أوروبا بفضل المسلمين وعلومهم ولولاها لما قامت نهضة أوروبا، رغم هذا كله فقد كفروا ما كان من إحساننا لهم وبسطوا لنا أَلْسِنَتَهم وأَقْلامهم وأَدواتِهم بالسوء: يطمسون معالم ثقافتنا وحضارتنا ويُزَوِّرون حقائقها ومحاسنها، ويغيرون على تاريخنا يشبعونه افتراءً وتلفيقاً، يتتبعون عوراته وأخبار السُّقّاط فيه والمجُاّن، يؤلفون فيها الرسالات ويذيعونها، كل ذلك بُغْية تدمير القوى الفكرية في الأمة وإبقاء البلاد بحالةِ تَخَلُّف وضياع، وتواصوا بذلك!! حتى تُحرم الأمة من العلوم والصناعات وخاصة الثقيلة منها، وفوق كل ذلك ومع هذا اللؤم والنكران طالبونا بالتجديد في ديننا والتسامح معهم في تدمير تاريخنا والتطاول على قرآننا!! أَرأيتم أوقح من هؤلاء بشراً وأَجرأ على خوض الباطل منهم؟!
وهل سجل التاريخ جُحوداً ونكران جميل أقبح من هذا؟ لقد علَّمنا رسولنا الكريم صلى اللـه عليه وآله وسلم أن من كتم علماً ألجمه اللـه يوم القيامة بلجام من نار. وعلّمنا ديننا الحنيف أن كتـمـان الشـكر لما وجب من الحق جحود، ودخـولٌ فـي كُـفْـر النعـم، الذي يعاقب اللـه عليه. فماذا علّمتهم الرأسمالية؟! وما الذي توارثوه من قيم وتعاليم؟!
ولكن لا عجب، فهذا هو الغرب وهذه هي خططه وأساليبه وأهدافه، فهل بعد هذا يبقى عذر لأحد إن لم يدرك أن ما أصاب الأمة من هزائم وما هي عليه من تشرذم إن هو إلا نتائج حتمية لتخليها عن إسلامها وسكوتها عن هدم حِصْنِها ومَلاذها: «الخلافة»، وهذه الحال ستلازمها ما لم تُؤْمن مرة أخرى بقـانـون الحركة في التاريخ المحكوم بسنن اللـه (إن اللـه لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
فمن تخلى عن موقعه مرة واحدة هان عليه التخلي عنه مرات ثم يهوي إلى الحضيض، يجثو على ركبتيه!! حتى لم يعد قادراً على التمييز بين المهانة والشهامة، وما يجب أن يؤخذ وما يجب أن يترك.. لقد آن الأوان أن نرفع عن أنفسنا الضيم، ونرفض هذه التبعية واستمراء الذل المهين. إن هذا التقهقر الذي تشهده بلاد الإسلام أمام مروّجي الفتن وعبيد الشهوات والعملاء عارٌ لَحِق هذه الأمة، فأين الحميّة الإسلامية وأين الأَنفة من مجانسة مثل هذه الأمم والتمسح بها والتذلل لها وطلب المغفرة منها! وهي التي غضب اللـه عليها فأذلها وأمرنا أن نحمل الدعوة لها لإنقاذها، فأين العزة التي منحها اللـه لنا؟! وأين ذهب فهمنا لقول الحق تبارك وتعالى: (كنتم خير أمة أخرجن للناس..) (وللـه العزة ولرسوله وللمؤمنين..) إنه لا يغسل عارهم هذا إلا نهوضنا في وجههم وأخذنا ديننا بقوة ننفض ما علق به من أتربة وعبث السنين فنركز على عقيدتنا لتأخذ مكانها من عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا، ونمحص تاريخنا ونحقق أحداثه بأنفسنا، فنحن أقدر وأجْدَر على فعْل هذا من غيرنا، لتعلو راية الإسلام من جديد ويعود الإسلام عزيزاً بإرادة جبارة، لا مجرد رغبة وشوق وأماني. والسلام على أهل الهدى والرشاد.
2016-10-19