المسـلمـون والغـرب (7)
2016/10/18م
المقالات
1,942 زيارة
المسـلمـون والغـرب (7)
من يُـسـمّـوْن «رجـال الديـن»
بقلم: أحمد المحمود
بعد دراسة الغرب للإسلام عن طريق المستشرقين، وضع دراسات تشويهية للإسلام أرادها أن تكون إسلاماً بديلاً يوافق أفكاره، ووجهة نظره ومقاييسه، وبالتالي تتوافق مع علمانيته. دراسات من شأنها إذا نفذت أن تنزع الخطر من الإسلام على مصالحه، وتجعل من الإسلام كياناً فكرياً تابعاً غير أصيل، يتشكل بحسب الواقع ويتلون بالفكر الغربي، ويتأثر به، ويتصالح معه ويتطابق مع طروحاته.
لقد رأى الغرب كذلك أنه لا يستطيع أن يصل إلى فرض هذا الإسلام البديل إلا عن طريق علماء مسلمين تابعين له، يتكلمون بلسانه، ويُلبسون كل حكم يناسبه بلبوس إسلامي. فهو يعلم تماماً أنه لا يمكنه القيام بذلك بنفسه، ويعلم أن الناس تحب دينها وربها، وأنها تتخذ من العلماء وسائط لمعرفتهما. فالوصول إلى العلماء، والتأثير عليهم، وشراؤهم في بعض الأحيان، وإطماعهم بالمناصب العالية، والشهرة الكبيرة… كل ذلك من شأنه أن يدفع العلماء لأن يساهموا في تنفيذ هذا الجانب المهم من تخطيط الغرب الكبير الذي يطال واقع الأمة من كل جوانبها.
ولما كان الإسلام هو دين اللـه المحفوظ، والذي لا يستطيع أحد أن يطال نصوصه بالتغيير والتبديل، فلا خوف عليه من هذه الناحية. ولكن الذي يفهم الإسلام ويطبقه هم المسلمون، وهم غير معصومين والفهم الصحيح للإسلام يتطلب فهم نصوصه فهماً دقيقاً لأن اللـه هو الذي أنزل هذه النصوص في القرآن أو صاغها الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة. وكلامه سبحانه يكون على مراده، ومراده لا نعرفه إلا من خلال النصوص. لذلك وضع العلماء المسلمون الأوائل، المشهود لهم من الأمة بالخير والصلاح والتقوى، أصولاً تضبط هذا الفهم، وتوصلوا إلى طريقة الإسلام الثابتة في فهم النصوص، وذلك عن طريق الاستقراء لما كان عليه الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام. وهي طريقة في الفهم فرضتها طبيعة الدين وطبيعة نصوصه، ولم تكن من اختراع وابتداع العلماء. وهي تقوم على أساس الإيمان باللـه وبأنه المشرع وحده من غير شريك، وأن المسلم هو العبد المطيع. ولكن الغرب عمل على نزع الأساس الروحي الذي يقوم عليه نظام الإسلام، وأحلّ محله الأساس الماديّ الذي يقوم على تحقيق المصالح أنّى وجدت. وهو تماماً الأساس الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي. ولما كان قد سبق لعلماء المسلمين الأوائل أن تكلموا بالمصالح وأعطوا فيها رأيهم من منطلق الإيمان باللـه، فقد جاء العلماء المتأخرون وأولوا أقوال السابقين، وفسروها بما ينسجم مع ما يريده الغرب، وجعلوها تسير وفق طريقته في التشريع. وبناءً على هذه الأصول المنحرفة طرحت أفكار تطوير الإسلام لكي يوافق الأوضاع والمشاكل المتغيرة، والمصالح المتجددة في حياتنا المعاصرة، على اعتبار أن النصوص تتبع المصالح المتجددة فيجب أن تتغير الأفهام لتحقيق تلك المصالح. وإلا فكيف نواجه المشاكل الجديدة التي لم تكن في أسلافنا. وقد ساعدهم على تسويق فهمهم هذا الجمودُ الذي ران على علماء الأمة في فهم الإسلام. فظهر هذا الطرح وكأن فيه الخروج من واقع الجمود، خاصة وأن هذا الرأي الجديد قد لاقى دعاية واسعة من الغرب ومعاونيه من العلماء الذين أخذوا يروجون له. وقد تناغم هذا الطرح مع الأمل بالخروج من الجمود، ومن هذا الواقع المتردي. والذي سهّل الطريق لهذا الفهم هو خلو الأمة تقريباً من علماء منضبطين بالأصول الشرعية الصحيحة. فالزمن كان زمن انحطاط وتردٍ.
وكان من أثر ذلك أن دعي إلى فتح باب الاجتهاد، وكان الغرض من هذه الدعوة إدخال الأحكام التي تتطابق مع الحضارة الغربية على حياة المسلمين، أو الاقتراب منها بقدر ما تسمح به النصوص من تأويل والظروف من قبول لها. لذلك جاءت هذه الدعوة على لسان علماء أثبتت الوقائع التاريخية فيما بعد أنهم كانوا من صنائع الغرب أمثال الأفغاني ومحمد عبده وتلميذيه رشيد رضا والمراغي. وهذا الأخير كان قد أعلن صراحة أنه لا يعجزه أن يفسر النصوص ويستدل بها على ما تقتضيه المصلحة وكان يقول: «عليكم بالحكم وعليّ بالدليل».
وكذلك كان من أثر ذلك أيضاً طرح شعار: «مرونة الشريعة»، و«رفع الحرج» و«حكم الضرورة» و«ارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين»، و«أن المصلحة علة الحكم» و«أنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان»… وتحت هذه الشعارات وأمثالها عُطِّل الإسلام الذي كانت عليه الأمة طيلة الوقت وحُكِمَ بغيره، إرضاءً للغرب وتعجلاً لما عنده. وصار شعار المجتهد التفتيش عن النصوص الشرعية التي تثبت صحة ما يريد أو النصوص التي تحرم ما لا يتوافق مع مصالحهم ليؤولها تأويلاً بعيداً يخرج بها عن الفهم الصحيح. وبهذا صار الشرع تابعاً وليس متبوعاً، بينما الأصل أن يفهم الواقع كما هو فهماً دقيقاً عميقاً ثم اللجوء إلى النصوص الشرعية لمعرفة الحكم المتعلق بهذا الواقع ثم الاستنباط من هذه النصوص حكم اللـه في هذا الواقع على غلبة ظن المجتهد.
وكان من نتيجة هذا التوجه أن أبيح الربا، وأجيز الحكم بغير ما أنزل اللـه، أو التحاكم لغير شرع اللـه وصار الجهاد جهاد الإعلام ونشر الفكر باللسان والقلم ووسائل العصر وصار يسمى جهاد العصر. وأفتي بعدم قتل المرتد، وبجواز تولي المرأة للحكم، وبجواز زواج المسلمة من نصراني أو يهودي، وأسقط بعضهم حكم الخلافة وأقرّوا تجزئة الأمة الإسلامية والبلاد الإسلامية إلى دويلات، وأفتى بعضهم بالتنازل لليهود عن فلسطين، وأفتى بعضهم بعدم وجود نظام حكم في الإسلام….
ولا عجب أن تأتي هذه الفتاوى على لسان رجال دين مسلمين، أقول رجال دين لأنهم سمحوا لأنفسهم بطريقة من الطرق، أن يشرعوا، أن يحلوا ويحرموا بعيداً عن أمر اللـه. أما إذا قلنا عنهم بأنهم علماء فهم علماء سوء أو علماء السلاطين الذين اتخذوا من العلم الشرعي وسيلة للمتاجرة والتلبيس على العوام، وتفريخ الفتاوى الباطلة لمصلحة الحكام وأسيادهم من الغرب. وليس بعيداً عنا الفتوى التي أصدرها في مكة ثم في القاهرة ثلاثمائة عالم بجواز الاستعانة بأمريكا ضد مسلمي العراق، وبفتاوى جواز الصلح مع اليهود والتنازل النهائي لهم عن الأرض، وعن المسجد الأقصى في القدس،… لقد تخوف الرسول (صلى الله عليه وسلم) على أمته من مثل هذا النوع من العلماء فقال: «أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان» وقد قال عمر بن الخطاب (رضي اللـه عنه) في أمثالهم: «ما أخاف عليكم أحد رجلين: رجل مؤمن قد تبين إيمانه، ورجل كافر قد تبين كفره، ولكن أخاف عليكم منافقاً يتعوذ بالإيمان يعمل بغيره». وقال أيضاً: «إن أخوف ما أخاف عليكم ثلاثة: منافق يقرأ القرآن لا يخطئ فيه واواً ولا ألفاً يجادل الناس أنه اعلم منهم ليضلهم عن الهدى، وزلة عالم، وأئمة مضلون». إن أمثال هؤلاء يلتمسون الدنيا بعمل الآخرة، وهم يُعرَفون من صفاتهم. فمن صفاتهم تبصير الناس بالرخص، وتبرير ظلم الحكام لهم، ومن صفاتهم الإنكار على الراعي دون الرعية، ويأمرون الرعية بالرفق بالحاكم وليس العكس. ومن صفاتهم أنهم ينكرون على الناس الإفراط ولا ينكرون على الحكام التفريط، ويسمّون كثيراً من الأشياء بغير أسمائها، فالذل والاستكانة للحكام يسمونه حكمة وبعد نظر، والتمسك بهدي الرسول (صلى الله عليه وسلم) وسيرة السلف الصالح تعصباً وتشدداً. ويسمون الجهر بالحق تهوراً، ومسايرة الكفار والتشبه بهم انفتاحاً، وقد قال عبد اللـه بن المبارك أحد كبار تابعي التابعين فيهم:
«وهلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إلاّ الملُوكُ
وأَحْبـارُ سُـوءٍ ورُهـبـانُـهــا».
وهنا لا بد من لفتة مهمة تتعلق بموضوعنا. إنه لا يوجد في الإسلام رجال دين، بل علماء. والفرق بينهما هو أن العالم هو العالم بحلال اللـه وحرامه، وليس له يد في التحليل والتحريم. فهو ليس إلا عالم عنده المقدرة على التوصل إلى معرفة الحلال والحرام الذي هو أصلاً من عند اللـه سبحانه. وطاعة المسلم لقول العالم إنما هي في حقيقتها طاعة للـه ورسوله وليس للعالم. فالعالم ليس إلا واسطة لمعرفة الحق الذي أنزله اللـه. أما رجل الدين فهو اصطلاح غربي أطلق على أتباع الدين النصراني الذين كرسوا حياتهم لفهم الدين وخدمته. وهؤلاء يملكون صلاحية التشريع أي التحليل والتحريم، وهؤلاء وعلى رأسهم بابا روما، النائب عن الإله بحسب زعمهم يحق له أن يحل ويحرم، يحق له أن يحلّ لهم الطلاق بعد تحريمه، وامتثال أمره طاعة مفروضة، ويستطيع أن يبرئ اليهود من دم المسيح عليه السلام بحسب زعمهم، وعليهم إمضاء ما يطلب فإرادته إرادة إلهية.
والذي يلفت النظر هنا أن علماء المسلمين المتأثرين بالغرب بدأوا يقتربون من عمل رجال الدين النصارى في التحليل والتحريم بعيداً عن أمر اللـه المحفوظ. وما يدل على ذلك أننا نجد أحكاماً لهم تعارض النصوص القطعية المتفق عليها من الأمة جمعاء، وكل ذلك يحدث لاعتمادهم على أصول وضوابط تجعل الحكم يسير لا بحسب ما يريده اللـه سبحانه بل بحسب ما تتطلبه الأهواء والمصالح، وهذا يجعلهم على خطأ وخطر عظيمين وخصوصاً بعد أن يَبْلغهم الحق من أهل الحق.
إن الغرب يستغل كل من يستطيع أن يخدم هدفه. ولما كان للعلماء منزلتهم في الأمة فقد حافظ على هذه الورقة لتكون بين يديه، وراح يمرر طروحاته عبر أنابيب العلماء. ونستطيع أن نقسم استغلال الغرب للعلماء إلى مرحلتين:
1- الأولى استغل فيها الغرب علماء كان أبرزهم وأولهم جمال الدين الأفغاني ومن دار في فلكه وهؤلاء استطاع الغرب بواسطتهم أن يمرر أحكامه لتكون أحكاماً عند المسلمين، حتى إن كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر كان يقول: إذا أردنا أن نعرف مدى انتشار أفكارنا في مصر فلننظر إلى مدى قبول الناس لأفكار محمد عبده. وكان منهم من تدل الوقائع والوثائق على اتصاله بالإنكليز – رأس الاستعمار والكفر في ذلك الوقت – ومنهم من كان مخدوعاً بالأفكار، غير عارف بخلفياتها، ظاناً أنه بذلك يفك الأمة من عقال جمودها. ونحن هنا لسنا بصدد محاكمة هؤلاء العلماء وإثبات عمالتهم أو عدم إثباتها، بل نريد أن نوضح أن ما أفتوا به من أحكام، وما تبنوه من أصول إنما تخرج من مشكاة الغرب وتصب في مصالحه. والأمر في الحالين واقعه على الأرض واحد سواء كان طارحه مخلصاً أم لا، وسواء أصدر عن حسن نية أو عن سوء قصد.
2- والثانية وهي مرحلة معاصرة، ونجد فيها كذلك علماءها المتهاونين من أمثال الترابي والغنوشي والقرضاوي وسيد طنطاوي… الذين يتساهلون في فتاويهم، ويقفون في وجه الدعاة العاملين الذين يريدون العودة بالدين إلى أصوله ونقائه فيتهمونهم وبنفس لسان الحكام والغرب بأنهم متشددون ومتطرفون. ويمكّن لهم في الحكم أو تفتح لهم وسائل الإعلام أبواقها ليصل رأيهم المرضيّ عنه إلى الناس، ويشدد الحصار على الدعاة المخلصين الواعين… ويجب علينا أن لا نتهيب من قول الحق بحق كل من يقف موقف التخاذل من أمثال هؤلاء العلماء، فالحق يعلو ولا يُعلى عليه، والسكوت عن أمثال هؤلاء العلماء فيما يفتون أو يعملون حرام. وتفقد النصيحة قيمتها إذا سكتنا الآن وتكلمنا بعد فوات الأوان، وكذلك لا نؤدي حق النصيحة إذا أفتوا بفتاويهم التي لا يرعوْن فيها حق اللـه في العلن وتناولناهم نحن في مجالات ضيقة. ونعود لنؤكد أننا في كتابتنا هذه الآن لا نركّز على كون هذا العالِم عميلاً مرتبطاً أو غير مرتبط، بل نتناول فهمه هل هو خاطئ أم صائب؟
وإن كلامنا مهما كان جريئاً ومراً فإنما يهدف إلى تقويم المعوج، وحبذا لو يلقى أذناً صاغية لأن الحق في نظر الجميع أحق أن يتبع.
إنه يجب الوعي على مثل هذه الطروحات، مع لفت النظر أن الأمة اليوم أصبحت على مسافة قريبة من الفهم الصحيح. فالأوضاع لم تعد ترضيها، وأمثال هؤلاء العلماء يكرسون الواقع ويدافعون عن الأنظمة ويلومون مَن يقوم ضدها، لذلك يأخذون عن الأمة نفس نظرة الأنظمة. ولذلك بدأت الأمة تنفضّ عنهم وبدأت تتخلى عن الانقياد لهم والحمد للـه. ونسأل اللـه المزيد من الخير.
ويكفي أن ننبه إلى تشابه نظرة الأمة إلى هؤلاء العلماء مع نظرتها إلى الأنظمة والغرب.
إن الغرب رجيم كالشيطان يأمرنا بالمنكر وينهانا عن المعروف، وله منطقه ومبرراته وتعليلاته التي تنسجم مع أهدافه. ويكفي تدليلاً على شيطانيته أنه يضيق صدراً بالطروحات الجذرية التي تقلب الأوضاع رأساً على عقب، وينزعج إذا لم نرقص على أنغامه، فهل يستحق من علمائنا أن يتبعوا هواه. إن الأصل في العلماء أن يكونوا أدلاّء للخير ودعاة تقوى، وأن يكونوا عين الأمة التي تبصّرها بالحق، وأذن الخير التي تستمع إلى الحق وتتبع أحسنه، ولسان الصدق الذي يهدي الأمة إلى صراط ربها الحميد.
(يتبع)
2016-10-18