من قـصـص المجاهـديـن في سـبيـل الله تعالـى
2016/10/18م
المقالات
9,888 زيارة
من قـصـص المجاهـديـن في سـبيـل الله تعالـى
حكاية أبي قدامة مع المرأة التي ظفرت شعرها شكالا للفَرس في سبيل اللـه حكاية مشهورة حكاها جماعة منهم أحمد بن الجوزي الدمشقي رحمه اللـه في كتابه المسمى بسوق العروس وأنس النفوس فحكى:
أنه كان بمدينة رسول اللـه صلى الله عليه وسلم رجل يقال له أبو قدامة الشامي، وكان قد حبب اللـه إليه الجهاد في سبيل اللـه والغزو إلى بلاد الروم، فجلس يوماً في مسجد رسول اللـه صلى الله عليه وسلم يتحدث مع أصحابه، فقالوا له: يا أبا قدامة حدثنا بأعجب ما رأيت في الجهاد؟ فقال أبو قدامة:
نعم إني دخلت في بعض السنين الرقة أطلب جملاً أشتريه ليحمل السلاح، فبينما أنا يوماً جالسٌ إذ دخلت علي امرأة فقالت: يا أبا قدامة سمعتك وأنت تحدث عن الجهاد وتحث عليه وقد رُزقتُ من الشَّعر ما لم يُرزقه غيري من النساء، وقد قصعته وأصلحت منه شكالا للفرس وعفرته بالتراب كي لا ينظر إليه أحد، وقد أحببت أن تأخذه معك فإذا صرتَ في بلاد الكفار وجالت الأبطال ورُميت النبال وجُردت السيوف وشُـرعـت الأسـنّـة، فإن احتجت إليه وإلا فادفعه إلى من يـحـتـاج إليه ليحضر شعري ويصيبه الغبار في سبيل اللـه، فأنا امرأة أرملة كان لي زوج وعصبة كلهم قُتلوا في سبيل اللـه ولو كان عليّ جهاد لجاهدت.
وناولتني الشكال. وقالت: اعلم يا أبا قدامة أن زوجي لما قُتل خلف لي غلاماً من أحسن الشباب، وقد تعلم القرآن والفروسية والرمي على القوس وهو قوّام بالليل صوّام بالنهار، وله من العمر خمس عشرة سنة وهو غائب في ضيعة خلفها له أبوه، فلعله يقدم قبل مسيرك فأوجهه معك هدية إلى اللـه عز وجل وأنا أسألك بحرمة الإسلام، لا تحرمني ما طلبت من الثواب.
فأخذت الشكال منها فإذا هو مظفور من شعرها. فقالت: ألقه في بعض رحالك وأنا أنظر إليه ليطمئن قلبي. فطرحته في رحلي وخرجتُ من الرقة ومعي أصحابي، فلما صرنا عند حصن مسـلمــة بـن عبـدالملـك إذا بفـارس يهـتـف مـن ورائي : يا أبا قدامة قف علي قليلاً يرحمك اللـه، فوقفت وقلت لأصحابي تقدموا أنتم حتى أنظر من هذا، وإذا أنا بفارس قد دنا مني وعانقني وقال: الحمد للـه الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائباً.
قلت للصبي أسفر لي عن وجهك، فإن كان يلزم مثلك غزو أمرتك بالمسير، وإن لم يلزمك غزو رددتك، فأسفر عن وجهه فإذا به غلام كأنه القمر ليلة البدر وعليه آثار النعمة. قلت للصبي: ألك والد؟ قال: لا بل أنا خارج معك أطلب ثأر والدي لأنه استشهد فلعل اللـه يرزقني الشهادة كما رزق أبي.
قلت للصبي: ألك والدة؟ قال: نعم. قلت: اذهب إليها فاستأذنها فإن أذنت وإلا فأقم عندها فإن طاعتك لها أفضل من الجهاد، لأن الجنة تحت ظلال السيوف وتحت أقدام الأمهات. قال: يا أبا قدامة أما تعرفني؟ قلت : لا. قال : أنا ابن صاحبة الوديعة، ما أسرع ما نسيت وصية أمي صاحبة الشكال، وأنا إن شاء اللـه الشهيد ابن الشهيد، سألتك باللـه لا تحرمني الغزو معك في سبيل اللـه، فإني حافظ لكتاب اللـه عارف بسنة رسول اللـه صلى الله عليه وسلم، عارف بالفروسية والرمي وما خلفت ورائي أفرس مني، فلا تحقرني لصغر سني، وإن أمي قد أقسمت عليّ أن لا أرجع وقالت : يا بُنيّ إذا لقيت الكفار فلا تولّهم الدُّبُرَ وهب نفسك للـه واطلب مجاورة اللـه تعالى ومجاورة أبيك مع إخوانك الصالحين في الجنة، فإذا رزقك اللـه الشهادة فاشفع فيّ فإنه قد بلغني أن الشهيد يشفع في سبعين من أهله وسبعين من جيرانه، ثم ضمتني إلى صدرها ورفعت رأسها إلى السماء وقالت : إلهي وسيدي ومولاي هذا ولدي وريحانة قلبي وثمرة فؤادي سلمته إليك فقربه من أبيه.
فلـمـا سـمـعـت كـلام الغـلام بكـيـت بكاءاً شديداً أسفاً على حسنه وجمال شبابه ورحمة لقلب والدته وتعجباً من صبرها عنه. فقال: يا عم مم بكاؤك؟ إن كنت تبكي لصغر سني فإن اللـه يعذب من هو أصغر مني إذا عصاه. قلت: لم أبك لصغر سنك ولكن أبكي لقلب والدتك كيف تكون بعدك.
وسِرْنا ونزلنا تلك الليلة. فلما كان الغداة رحلنا والغلام لا يفتر من ذكر اللـه تعالى، فـتـأمـلـتـه فإذا هـو أفـرس منا إذا ركب وخادمنا إذا نزلنا منزلا، وصـار كلما سرنا يقوى عزمه ويزداد نشاطه ويصفو قلبه وتظهر علامات الفرح عليه.
فلم نزل سائرين حتى أشرفنا على ديار المشركين عند غروب الشمس، فنزلنا فجلس الغلام يطبخ لنا طعاما لإفطارنا وكنا صياما، فغلبه النعاس فنام نومة طويلة فبينما هو نائم إذ تبسم في نومه فقلت لأصحابي ألا ترون إلى ضحك هذا الغلام في نومه، فلما استيقظ قلت: حبيبي رأيتك الساعة ضاحكاً مبتسماً في منامك، قال: رأيت رؤيا فأعجبتني وأضحكتني. قلت: ما هي. قال: رأيت كأني في روضة خضراء أنيقة فبينما أنا أجول فيها إذ رأيت قصراً من فضة شُرفه من الدر والجواهر، وأبوابه من الذهب وستوره مرخية، وإذا جواري يرفعن الستور وجوههن كالأقمار فلما رأينني قلن لي: مرحبا بك فأردت أن أمد يدي إلى إحداهن فقالت: لا تعجل ما آن لك، ثم سمعت بعضهن يقول لبعض هذا زوج المرضية، وقلن لي تقدم يرحمك اللـه، فتقدمت أمامي فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر قوامه من الفضة البيضاء عليه جارية وجهها كأنه الشمس لولا أن اللـه ثبت علي بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية. فلما رأتني الجارية قالت: مرحبا وأهلا وسهلا يا ولي اللـه وحبيبه، أنت لي وأنا لك فأردت أن أضمها إلى صدري فقالت: مهلا، لا تعجل، فإنك بعيد من الخنا، وإن الميعاد بيني وبينك غداً بعد صلاة الظهر فأبشر.
قال أبو قدامة : قلت له حبيبي رأيت خيراً، وخيراً يكون. ثم بتنا متعجبين من منام الغلام، فلما أصبحنا تبادرنا فركبنا خيولنا فإذا المنادي ينادي : يا خيل اللـه اركبي وبالجنة أبشري، انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا.
فما كان إلا ساعة، وإذا جيش الكفر – خذله اللـه – قد أقبل كالجراد المنتشر، فكان أول من حمل منّا فيهم الغلام فبدد شملهم وفرق جمعهم وغاص في وسطهم، فقتل منهم رجالاً وجندل أبطالاً، فلما رأيته كذلك لحقته فأخذت بعنان فرسه وقلت : يا حبيبي ارجع فأنت صبي ولا تعرف خدع الحرب. فقال : يا عم ألم تسمع قول اللـه تعالى : ]يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار[، أتريد أن أدخل النار؟ فبينما هو يكلمني إذ حمل علينا المشركون حملة رجل واحد، حالوا بيني وبين الغلام ومنعوني منه واشتغل كل واحد منا بنفسه.
وقُتل خلق كثير من المسلمين، فلما افترق الجمعان إذ القتلى لا يُحصَوْن عددا فجعلت أجول بفرسي بين القتلى ودماؤهم تسيل على الأرض ووجوههم لا تُعرف من كثرة الغبار والدماء، فبينما أنا أجول بين القتلى وإذا أنا بالغلام بين سنابك الخيل قد علاه التراب وهو يتقلب في دمه ويقول : يا معشر المسلمين، باللـه ابعثوا لي عمي أبا قدامة فأقبلت عليه عندما سمعت صياحه فلم أعرف وجهه لكثرة الدماء والغبار ودوس الدواب فقلت : أنا أبو قدامة.
قال : يا عم صدقت الرؤيا ورب الكعبة أنا ابن صاحبة الشكال، فعندها رميت بنفسي عليه فقبلت بين عينيه ومسحت التراب والدم عن محاسنه وقلت : يا حبيبي لا تنس عمك أبا قدامة في شفاعتك يوم القيامة. فقال : مثلك لا يُنسى، لا تمسح وجهي بثوبك ثوبي أحق به من ثوبك، دعه يا عم ألقى اللـه تعالى به. يا عم هذه الحوراء التي وصفتها لك قائمة على رأسي تنتظر خروج روحي وتقول لي عجّل فأنا مشتاقة إليك، باللـه يا عم إن ردّك اللـه سالماً فتحمل ثيابي هذه المضمخة بالدم لوالدتي المسكينة الثكلاء الحزينة وتسلمها إليها لتعلم أني لم أضيع وصيتها ولم أجبن عند لقاء المشركين، واقرأ مني السلام عليها، وقل لها إن اللـه قد قبل الهدية التي أهديتِها، ولي يا عم أخت صغيرة لها من العمر عشر سنين كنت كلما دخلت استقبلتني تسلم علي، وإذا خرجتُ تكون آخر من يودعني عند مخرجي، وقد قالت لي باللـه يا أخي لا تُبْطِ عنّا، فإذا لقيتَها فاقرأ عليها مني السلام وقل لها يقول لك أخوك: اللـه خليفتي عليك إلى يوم القيامة، ثم تبسم وقال أشهد أن لا إله إلا اللـه وحده لا شريك له صدق وعده وأشهد أن محمداً عبده ورسوله هذا ما وعدنا اللـه ورسوله وصدق اللـه ورسوله، ثم خرجت روحه فكفناه في ثيابه ووريناه رضي اللـه عنه وعنا به.
فلما رجعنا من غزوتنا تلك ودخلنا الرقة لم تكن لي همة إلا دار أم الغلام، فإذا جارية تشبه الغلام في حسنه وجماله وهي قائمة بالباب وتقول لكل من مر بها: يا عم من أين جئت؟ فيقول من الغزو، فتقول أما رجع معكم أخي فيقولون لا نعرفه، فلما سمعتها تقدمت إليها فقالت لي: يا عم من أين جئت قلت من الغزو قالت: أما رجع معكم أخي ثم بكت وقالت ما أبالي، يرجعون وأخي لم يرجع فغلبتني العَـبْرة، ثم قلت لها يا جارية قولي لصاحبة البيت إن أبا قدامة على الباب، فسمعت المرأة كلامي فخرجت وتغير لونها. فسلمت عليها فردت السلام وقالت أمبشراً جئت أم معزياً. قلت: بيّني لي البشارة من التعزية رحمك اللـه. قالت: إن كان ولدي رجع سالماً فأنت معز، وإن كان قُتل في سبيل اللـه فأنت مبشر. فقلت: أبشري فقد قُبلت هديتك. فبكت وقالت: الحمد للـه الذي جعله ذخيرة يوم القيامة، قلت فما فعلت الجارية أخت الغلام. قالت : هي التي تكلمك الساعة فتقدمت إلي فقلت لها إن أخاك يسلم عليك ويقول لك : اللـه خليفتي عليك إلى يوم القيامة، فصرخت ووقعت على وجهها مغشياً عليها، فحركتها بعد ساعة، فإذا هي ميتة فتعجبت من ذلك ثم سلمت ثياب الغلام التي كانت معي لأمه وودعتها وانصرفت حزيناً على الغلام والجارية ومتعجباً من صبر أمهما.
قال المؤلف وقد ذكر الحافظ العلامة أبو المظفر بن الجوزي أنه حين بلغته هذه الحكاية جمع عنده من الشـعـور ما ظـفـره فكـان منه ثلاثـمائة شكال وتقدم ذلك في الباب الرابع واللـه الموفق للصواب. انتهى
2016-10-18