الإعصار المالي… نذيرٌ وبشير!..
2009/03/04م
المقالات
1,810 زيارة
الإعصار المالي… نذيرٌ وبشير!..
أبو المعتصم – بيت المقدس
يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ) [النحل 26]، ويقول: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [التوبة 109].
إن الناظر إلى وجه الأرض هذه الأيام يرى إعصاراً وزلزالاً مالياً كبيراً قد بدأ يضرب هنا وهناك، حتى لم تكد تسلم من شره منطقة على وجه هذه البسيطة… وطالت مفاسده وضرباته الحجر والشجر وحتى الدواب العجماء في كل أرض معمورة!!.
لقد صدرت على ألسنة المفكرين والسياسيين تحذيرات وإنذارات تنبئ بسوء العاقبة، وما سيلحق البشريّة من دمار شامل، ومن خسائر رهيبة، ومن كوارث ستطال أكثر أهل الأرض… ومن هذه التحذيرات والإنذارات الخطيرة:
l ما قاله الرئيس الأميركي الجديد (أوباما) في الخطاب الأول الذي ألقاه بمناسبة فوزه في الانتخابات 5/11/2008م: «إن الأزمة التي تعيشها أميركا هي الأسوأ في التاريخ»، وقد سبقه في هذا التحذير الرئيس السابق بوش في خطابه للشعب الأميركي في 25/9/2008م حيث قال: «إن الاقتصاد الأميركي برمته في خطر».
l أما وزير الخزانة الأميركي هنري بولسون فقال في تصريح بتاريخ 9/10/2008م «إن الميزانية الأميركية قد تضاعف العجز فيها ثلاث مرات خلال السنة المالية 2007-2008م ووصل إلى 455 مليار دولار، وهو أعلى رقم يصل إليه عجز الميزانية على الإطلاق»، وقال: «إن الرقم يمكن أن يصل إلى 700 مليار دولار في العام القادم».
l وفي الصين قالت صحيفة (ساوث تشانيا مورننغ بوست) نقلاً عن (كليمنث تشين) رئيس اتحاد الصناعات في هونغ كونغ في 20/10/2008م: «إن الأزمة المالية يمكن أن تؤدي إلى إفلاس نحو ربع شركات هونغ كونغ، الصغيرة والمتوسطة، على مدار الأشهر الثلاثة المقبلة»، وأضاف قائلاً: «إن الآثار المترتبة على الأزمة المالية ستكون كارثية، وستضرب البنوك والصناعات الخدمية»، وقال: «إن العديد من الشركات أعلنت أنها ستغلق أبوابها قريباً».
l وقال كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي (كينيت روغوف)، والذي يعمل الآن أستاذاً للاقتصاد في جامعة هارفارد، قال: «إن أسوأ ما في الأزمة المالية العالمية لم يظهر بعد حتى الآن» وقال أمام مؤتمر مالي في سنغافورة في 19/8/2008م «لم تنتهِ مشاكل الولايات المتحدة، وأعتقد أن الأزمة ربما كانت في نقطة المنتصف الآن، بل إنني أقول: إن أسوأ ما في الأمر لم يأت بعد!».
l أما بالنسبة لتأثير هذه الأزمة على الفقراء وعلى ازدياد أعداد العاطلين عن العمل، فقد حذر رئيس منظمة العمل الدولية (سومافيا) في تصريح له في 21/10/2008م، أن 20 مليون شخص سيفقدون وظائفهم بحلول نهاية العام القادم 2009م على خلفية الأزمة المالية داعياً إلى ضرورة وضع إجراءات فورية للتصدي لتلك الأزمة، وقال: «إن عدد العاملين الفقراء الذين يعيشون على أقل من دولار يومياً سيبلغ حوالى 40 مليون إنسان، وسيبلغ عدد الذين يعيشون على دولارين يومياً ما يزيد عن 100 مليون».
l وكان معهد واشنطن لأبحاث السياسات الغذائية قد حذر قبل ذلك بأسبوع في 16/10/2008م بأن عدد الفقراء سيزداد في الدول النامية في ظل هذه الأزمة العاصفة، وقال هذا المعهد بأن حوالى مليار إنسان سيعانون من الجوع على وجه الأرض معظمهم في آسيا وأفريقيا!!
l وحذر وزير الداخلية الألماني في مقال نشرته دير شبيغل في 7/10/2008م حيث قال: «إن خطراً سياسياً قد ينتج عن الأزمة المالية الدولية كما كان الحال بعد أزمة عام 1929م ووصول أدولف هتلر إلى السلطة».
l وفي مقال نشر في الشرق الأوسط اللندنية بعنوان «محلّلون يقارنون بين الوضع الحالي والأزمات السابقة» جاء في هذا المقال الذي نشر في 29/3/2008م قال خبير اقتصادي بارز يعمل في جامعة برينستون: «إن الاقتصاد الأميركي دخل مرحلة الركود ولن يتعافى إلا في عام 2010م على أقل تقدير» وقال الخبير الاقتصادي كردغمان: «أسرفنا في الإنفاق كما في عام 1929م وها نحن الآن أمام أزمة 1930م» ثم تابع: «الأزمة المالية الحالية هي بصورة إجمالية نسخة حديثة عن موجة الذعر الذي اجتاح مصارف البلاد قبل ثلاثة أجيال».
فلماذا حدثت هذه المفاسد والشرور العظيمة؟ وكيف تتخلص البشرية من هذا البلاء والكرب العظيم؟!
وحتى نقف على الحقيقة من جميع جوانبها بشكل موجز، سنتحدث عن هذا الموضوع المهمّ من ثلاث زوايا.
الزاوية الأولى: الجانب العقائدي (وهو ما يتعلق بالعقاب الإلهي).
الزاوية الثانية: حقيقة الأزمات في النظام الاقتصادي الرأسمالي: أسبابها ونتائجها على البشر.
الزاوية الثالثة: البشارة الكبيرة التي نرجوها من مثل هذه الأزمات والكوارث والنكبات..!!
l أما ما يتعلق بالزاوية الأولى (الجانب العقائدي): فإن لله عز وجلّ سنناً في هذا الكون لا تتغير ولا تتبدل، قال تعالى: (اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) [فاطر 43].
ومن هذه السنن العظيمة أنه سبحانه يرسل آيات العذاب على الأقوام التي تجافي وتخالف منهجه وطريقه القويم المستقيم، وتقف عقبةً في سبيل وصوله إلى الناس رسالة هدىً وخير ونور واستقامة … !! قال تعالى يصف ويخبر عن بعض هذه الآيات: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف 130]. حيث أخذهم الحق تعالى بالقحط والشدة والبلايا العظام عندما آذوا بني إسرائيل، وكذبوا موسى عليه السلام، ثم بعد ذلك أخذهم أخذ عزيز جبار مقتدر فأغرقهم في اليم أجمعين، فجعلهم سلفاً ومثلاً للآخرين!..
ولم تكن هذه السنة الإلهية لقوم فرعون فقط، بل كانت لجميع الأقوام التي خرجت عن الطريق المستقيم وسلكت طرق الاعوجاج والشر والفساد، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ، ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [الأعراف 94-96].
وهذه السُنَّة الإلهية باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وما هذا الضنك والفساد والزلازل والأعاصير المالية التي تضرب وجه الأرض إلا ألوان من هذا الغضب الإلهيّ الشديد بسبب المعاصي والذنوب التي تقترفها أيدي البشر على وجه الأرض، وبسبب الظلم والفساد العريض الذي تمارسه الدول العظمى الكافرة، وبسبب مجافاة المنهج الرباني؛ منهج الهدى والرشاد والنور!..
فماذا ينتظر منهج فصل الحياة عن خالقها عز وجلّ وقال: «دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله»؟!، ماذا ينتظر نظام جعل الربا أساس معاملاته في البنوك والله تعالى يقول: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [البقرة 276]؟! ما هو الدرب الذي ستسلكه تشريعات ونظم جعلت حرية العقل الأساس في وضعها وتطويرها؟! هل سيكون هذا الدرب مفروشاً بالورود والرياحين؟! ما هو مصير الجشع وإطلاق العنان للتنافس البهيمي في أسواق المال والشركات والعقارات بكافة أشكالها وألوانها؟! وكيف سيعامل الحق تعالى أصحاب هذه الشرور والمفاسد العظام وهم يفسدون وجه الأرض بعقولهم القاصرة؟!
إن الحق تبارك وتعالى يمهل ولا يهمل، ويملي للظالمين حتى إذا أخذهم لم يفلتهم، قال تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [آل عمران 178].
وقال عليه الصلاة والسلام : «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته». لقد جاءت ساعة المحاسبة العسيرة في دار الدنيا لهذا الاعوجاج والفساد العريض!!..
نعم لقد جاءت ساعة الحساب بعد كل الإشارات والتحذيرات الربانية التي أرسلها على هؤلاء الناس، فلم يعتبروا ولم يتّعظوا، ولم يقفوا عند حدّ!.. ولم يأخذوا درساً مما يحدث لهم، بل زادوا في طغيانهم وكفرهم وعنادهم!.. لم يأخذوا درساً ولم يعتبروا من الأمراض والآفات التي تحصد أرواح الملايين من بينهم في كل عام بسبب (الإيدز) الناتج عن حرية الممارسات البهيمية!.. لم يأخذوا درساً ولم يعتبروا من الجرائم التي تقاس بالدقيقة الواحدة وتزداد في كلّ عام عمن سبقه!.. لم يعتبروا من الحروب الطاحنة التي حصدت أرواح الملايين من بينهم لا لشيء إلا من أجل التنافس على الطين والتراب ومتعِ الحياة الدنيا، وذلك كما حصل في حربين عالميتين: الأولى والثانية! لم يتعظوا من هذا التفاوت الطبقي الكبير بسبب رأسماليتهم الشريرة، ولم يعتبروا من مئات الآلاف من الفقراء وهم يجوبون الشوارع في أرقى عواصمهم يبحثون في حاويات القمامة!
لم يعتبروا من هذا وذاك، بل زادوا من شرهم وكفرهم وعنادهم واستكبارهم، وأصروا واستكبروا استكباراً!..
لقد أعلن أصحاب هذا المبدأ الشرير حرباً على الله ورسوله وأمة الإسلام، وذلك عندما أعلنوا الحرب على الإرهاب معتبرين أن الإسلام هو الإرهاب. وجعلوها حرباً عالمية ثالثة لا هوادة فيها ولا رحمة.. فقادت أميركا ودول التحالف من أتباع الرأسمالية الشريرة حربين مدمرتين على بلاد المسلمين في أفغانستان والعراق، وأهلكت الحرث والنسل وقتلت الملايين من البشر، وشردتهم من مدنهم وقراهم الآمنة… وجعلتهم مشتتين في الأرض بلا راع ولا طعام ولا شراب ولا مأوى!.. وأمرت وأغرت سفهاءها من الحكام في بلاد المسلمين ليشاركوها هذه الحرب بلا رحمةٍ ولا شفقة ولا رادع ولا وازع حتى إنساني أو حيواني.. فقتلوا الآلاف بحجّة الحرب على الإرهاب، ووضعوا في السجون الآلاف الكثيرة، واضطهدوا ومارسوا شرورهم المتصلة بشرّ أميركا ودول أوروبا ودول المبدأ الرأسمالي بشكل عام!!.
لم تعتبر أميركا ودول أوروبا وسفهاؤهم من الحكام من كل هذه الآيات والإشارات والشرور والمساوئ المبدئية، بل زادوا كفراً وشراً وطغياناً!.. ووصل بهم الحدّ إلى الإساءة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسباب والشتائم والافتراءات… ثم ذهبوا مذهباً شريراً في الإساءة إلى المصحف الشريف فدنسّوه، ومزقوه وداسوه بأقدامهم النجسة!..
لقد بلغ هذا الشر ذروته، وهذا الطغيان مداه العالي، وجاءت ساعة المحاسبة العسيرة.. نعم لقد جاءت ساعة المحاسبة العسيرة… وبدأ هذا الإعصار الإلهي يضرب أوصالهم هنا وهناك.. فضربهم في أعز شيء في حياتهم.. في أموالهم وثرواتهم ومؤسساتهم القائمة على الشرّ والفساد!.. ولن يترك هذا الإعصار الرباني هذا المبدأ الشرير الفاسد حتى يأتي على آخر بقاياه من القواعد… ويجعله عبرةً لمن يعتبر حتى قيام الساعة!..
لقد بدأت الصيحات والنداءات من الآن بترك مبدأ الحرية الاقتصادية والإقلاع عنها.. وبدأت بعض الدول بالفعل بتطبيق مبدأ التأميم لبعض المؤسسات المنهارة… فكان مثلهم في ذلك كمن يستجير من الرمضاء بالنار.. أو كمن يداوي الجرح بالجراح!!..
إن الذي يحصل هي عقوبةٌ ربانية ولن ينفع معها تضميدٌ ولا ترقيعٌ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود 102]، (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا، فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) [الطلاق 8-9].
ولا أخال هذا الإعصار يمضي حتى يمزّق رأسَ الأفعى… رأس الشرّ والكفر والإرهاب… “أميركا” تماماً كما مزّق الاتحاد السوفياتي من قبل.. وإن غداً لناظره قريب!..
هذا ما يتعلق بالزاوية الأولى.
l أما الزاوية الثانية في هذا الموضوع وهي حقيقة الأزمات في النظام الرأسمالي: فإن جميع الأزمات التي تعصف بهذا المبدأ هي بسبب الاعوجاج في أساس هذا البناء الفاسد وفروعه وكافة أوصاله!..
فالمبدأ الرأسماليّ ابتداءً قائمٌ على أساس فاسد وهو الحلّ الوسط، أي التوسّط بين أمرين متباعدين، ومتنافرين في نفس الوقت، والنتيجة الطبيعية هي أن التوسّط بين أمرين متناقضين هو الفساد والاعوجاج، ثم جاءت مفسدةٌ أخرى أكبرُ من أختها وهي: إطلاق العنان للعقل الإنساني القاصر من منطلق (الحرية) لابتكار ووضع التشريعات؛ حيث جعلوا فكرة الحريّة أمراً مقدساً في كل شيء في حياتهم ووضعوا لها صنماً عبدوه سمّوه تمثال الحرية في مدينة نيويورك.
لذلك كانت المعاناة من أول يوم وُضعت فيه التشريعات والقوانين، ثم كانت الترقيعات تلو الترقيعات حتى بات هذا المبدأ لا لون له ولا عنوان!..
فالمبدأ الرأسمالي -دون مبالغة- هو مبدأ الأزمات والتقلبات والترقيعات، وحتى نقف على هذه الحقيقة في هذا الموضوع نورد بعض الأمثلة قديماً وحديثاً عن هذه الأزمات الكبرى التي عصفت بهذا المبدأ الشرير!..
– فبعد سنوات قليلة من إعلان هذا المبدأ ونُظمُه طريقةً لتنظيم حياة الناس الاقتصادية في العمل والعمال والشركات، اصطدم الغرب بمشكلة هي (أجور العمال، وتحديد ساعات العمل…)، فالأمر الطبيعي، وانطلاقاً من الحرية الاقتصادية أن صاحب المصنع، أو ربّ العمل حرّ في وضع ما يريد من أجر، وأن يحدد ما يريد من ساعات العمل، لكن هذا الأمر لم يكن فيه مصلحة للعامل، فقام العمال وأعلنوا إضرابات ومظاهرات وخاصّة في أميركا، واستمر هذا النـزاع بين أرباب العمل والعمال ما يقارب العشر سنوات (1974م – 1984م) حتى اضطرت الحكومة في نهاية المطاف للتدخل، ولتحديد ساعات العمل، وتحديد حدّ أدنى لأجرة العامل، فكان هذا خرقاً لمبدأ الحرية الاقتصادية، وتدخّلاً من الدولة في أمر الأصل أن لا تتدخل فيه، بل تتركه يحلّ نفسه بنفسه كما يقول (آدم سميث) وغيره في مبدأ الحرية الاقتصادية، وحرية السوق!..
– ثم اصطدم ساسة هذا المبدأ وقادته بمعضلة أخرى تتعلق بجهاز الثمن، حيث قرر المفكرون الاقتصاديون ابتداءً أن الثمن هو (أداة التحفيز على الإنتاج، وأداة التنظيم للتوزيع)، وجعلوا كامل الحرية لهذه النظرية في تحديد الإنتاج والتوزيع معاً!..
فكان هناك الآلاف من ذوي الحاجات ممن لا يستطيع حيازة الثمن للحصول على أدنى أمور الحياة اليوميّة، فاضطروا لخرق هذه النظرية أمام هذه الأزمة، وكان الخرق عن طريق الجمعيات الخيرية والمؤسسات التي ترعاها الدولة، وظهر عوار هذه النظريّة سريعاً وتهاوت!..
– ونشأت أزمات جديدة تتعلق بالكساد في الدولة نتيجة السلب والنهب الذي يمارسه الرأسماليون الكبار ونتيجة النظام المالي السيئ الذي ينفق أكثر من حجمه الحقيقي، ونتيجة كثرة النفقات مقارنة بحجم الإنتاج .. فكانت أول أزمة كبرى سنة 1929م، وسميت بـ«أزمة الكساد الكبير»، حيث تحطمت أسواق المال القائمة على الربا والقمار والمضاربات الوهميّة، وفقد العمال أماكن عملهم بالآلاف، وفقد أصحاب المدّخرات مدخراتهم، وتآكلت أجور العمال.. وقد تسببت هذه الأزمة بكوارث اقتصادية استمرت حوالى عشر سنوات متتالية، ولم يستطع الغرب -وخاصة أميركا- إخفاءها وسترها إلا بعد الدخول في حرب عالمية ثانية؛ دمرت العالم وجلبت على البشرية الويلات العظام والتي ما زالت تكتوي بنارها حتى اليوم!..
ومع أن هذه الأزمة لم تحل حلاً حقيقياً، وإنما صُدّرت هنا وهناك في أرجاء الأرض، إلاّ أن الغرب أخفى آثارها الشريرة من المجتمع الغربي إلى حين.
– ومن الأزمات كذلك الناتجة عن سوء هذا النظام الشرير ما حصل سنة 1998م عندما هوت أسواق مالية عملاقة في جنوب شرق آسيا واختفت عن الوجود نهائياً، وتسببت في دمار اقتصادي هائل لتلك الدول، وتسببت في فقد آلاف الناس وظائفهم ومدخراتهم وأموالهم المودعة في هذه البورصات.. والحقيقة أن آثار هذه الأزمة ما زالت حتى اليوم في بعض الدول مثل إندونيسيا!..
– وجاءت هذه الأزمةالحالية -خاتمة الأحزان كما يقولون- والحقيقة أن هذه الأزمة ليست جديدةً في أميركا ولا في دول أوروبا، وإن كانت نتائجها قد ظهرت على سطح الماء بالتدريج.. فهذه الأزمة ترتبط بل تمتدّ إلى كلّ الأزمات السابقة، وتضرب جذورها في هذا الأساس الفاسد في عقيدة المبدأ الرأسمالي وكافة فروعه…
وقد اشتدت هذه الأزمة في أميركا قبل إعلان بوش حربه على العراق وأفغانستان بظهور العجز الكبير في ميزانية أميركا، وظهور العجز عند الكثير من الشركات العملاقة، فرأى الحزب الجمهوري أن الطريقة الصحيحة للخروج من هذه الأزمة هو الدخول في حرب جديدة، تماماً كما فعلت أميركا في الحرب العالمية الثانية عن طريق افتعال قصة (ميناء هاربر)… فجاء هذا الحزب الشرير فافتعل أو استغلّ أحداث الحادي عشر من أيلول، وقاد حرباً عالمية ثالثة على ما سماهُ الإرهاب!..
لكن الرياح قد جرت بما لا تشتهي سفن بوش ولا سفن أميركا، فتنكبت أميركا في هذه الحرب، وبدل أن تُنقذ الوضع المالي، ازدادت النفقات دون مردود يوازي ذلك، فكانت الكارثة على أميركا وعلى رئيسها وعلى شعبها، فتراجعت الكثير من الشركات، ودمّرت بعضها، وزاد العجز في ميزانية أميركا حتى بلغ سنة 2008م ما يقارب نصف تريليون دولار… وكانت النتيجة أن بدأ الزلزالُ المالي يضرب أركان هذه الدولة الشريرة، ويحطمّ بعضاً من مؤسّساتها الماليةِ وشركاتها… ثم اشتدّ هذا الإعصارُ بعد قصة الرهن العقاريّ، وأخذ يضرب يمنةً ويسرة حتى طال بعد ذلك دولاً أخرى في هذا المبدأ في أوروبا والصين واليابان وروسيا وكثير من دول العالم الثالث!..
وها هو هذا الإعصار يشتدّ في كل يوم ، ويمتد ليطال بلاداً جديدة ومؤسسات جديداً… لا يأتي على واحدة منها إلا تركها قاعاً صفصفاً.. ولن يهدأ هذا الإعصار -بإذنه تعالى- حتى يأتي على أركان هذا الشرّ الكبير ويطرحه أرضاً!!..
والحقيقة أنه قد صدرت تصريحات كثيرة على ألسنة ساسة ومسؤولين تحذر وتنذر من هذا الشرّ -حسب زعمهم- وها هي الآثار والنتائج قد بدأت تظهر واحدة بعد الأخرى!..
l أما ما يتعلق بالزاوية الثالثة وهي المهمة في هذا الموضوع (البشارات والثمرات) التي نرجوها من هذا الحدث الجلل العظيم، فإنا سنذكر هذا الأمر من ثلاث زوايا أيضاً.
الأولى: الآثار المادية لهذا الزلزال على دول المبدأ الرأسمالي.
الثانية: الآثار المبدئية لهذا الزلزال على كل دول العالم.
الثالثة: آثار هذا الزلزال على الشعوب المسلمة في بلاد المسلمين.
أما بالنسبة للنقطة الأولى وهي الآثار الماديّة لهذا الزلزال المدمّر، فإنه لا يخفى على مفكر متابع للأحداث ما يحدثه هذا الإعصار المالي من شرور ودمار لا يسلم منه أحد على وجه الأرض… وقد أدى إلى انشغال الدول الكبرى كأميركا بنفسها، وأثخن جراحها الداخلية، وجعل أميركا ودول أوروبا تفكر جديّاً بسحب قوّاتها العسكرية من أفغانستان والعراق بسبب ما تكلفه هذه الحرب من أموال ونفقات طائلة، وفي نفس الوقت عجز الحكومات الغربية عن الوفاء بهذه النفقات الكبيرة!!..
لقد أحدث هذا الإعصار خسائر مادية كبيرة على مستوى الدولة والمؤسسات المالية والشركات، والأجور والمدخرات حتى بات يثقل كاهل جميع المواطنين في هذه الدول…
والبشارة في هذا الأمر أن انشغال الكفر بنفسه يخفف الشرّ عن المسلمين، وعن الدول في العالم الإسلامي مثل أفغانستان والعراق، وفي نفس الوقت يشغل الكفار عن المسلمين العاملين في ميدان العمل لإعادة الخلافة الراشدة، ويجعل الكفر يفكر ألف مرة في إشعال أية حربٍ جديدة في العالم الإسلامي، وخاصة في حال قيام دولة مخلصة في إحدى بلاد المسلمين!!..
وهذا كله فضل من الله عز وجلّ تماماً كما أشغل الكفار أثناء حصارهم للمسلمين في غزوة الأحزاب بإعصار الريح الذي قلب خيامهم واقتلعهم من جذورهم، وأخذوا يفكرون في الرحيل عن المسلمين قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) [الأحزاب 9-10].
أما بالنسبة للنقطة الثانية وهي الآثار المبدئية لهذا الحدث الكبير ، فإن الناظر المدقق في مجريات هذا الحدث يرى أن الدول الرأسمالية، وخاصّةً أميركا، قد بدأت بالتخلي عن أهم الأفكار في صلب النظام الاقتصادي وهي (حرية السوق) التي وضعها كبار المفكّرين في هذا المبدأ مثل آدم سميث صاحب نظرية (حرية السوق) وذلك عندما أخذت هذه الدول تعمل على تأميم بعض المؤسسات البنكية والشركات، وهذا بحدّ ذاته يعتبر نسفاً لأهم الأسس في النظام الرأسمالي، وهو الحريّة في حركة الاقتصاد ومؤسساته المالية، وقد أخذت تخرج أصوات في بلاد الغرب وفي اليابان والصين وروسيا تتهم هذا النظام مباشرة بالعجز عن معالجة شؤون الناس الاقتصادية، وخاصة المالية، ومن هذه الأقوال ما صدر على ألسنة اقتصاديين مشهورين، ومنها على ألسنة زعماء سياسيين، ومن ذلك:
l الرئيس الروسي (ديمتري ميدفيديف) قال في تصريح له في 5/10/2008م: «إن الأزمة المالية العالمية ناتجة عما سماه عدم مسؤولية النظام المالي الأميركي، وطالب بإقامة نظام اقتصادي مالي جديد أكثر عدلاً..».
l الرئيس (ساركوزي) رئيس فرنسا قد صرح في القمة الثلاثية مع بوش ورئيس المفوضية الأوروبي في 18/10/2008م فقال: «العالم لا يسعه إدارة اقتصاده في القرن 21 باستخدام أدوات القرن العشرين» وهذا اتهام واضح للنظام المالي الرأسمالي وبأنه عاجز وبحاجة لتجديد.
l رئيس الوزراء الصيني (دين جياباو) قال في 28/10/2008م لوسائل الإعلام في بكين: «إصلاح البنية التحتية المالية العالمية شيء مهم وأنسب وقت لذلك هو الآن…».
l ونفس الكلام جاء على لسان قادة الاتحاد الأوروبي في قمة بروكسل في 16/10/2008م حيث صرّحوا بضرورة إجراء إصلاحات جوهرية على النظام المالي العالمي، وتحسين الشفافية ووضع معايير عالمية للرقابة والمراقبة عبر الحدود، ووضع نظام للإنذار المبكر!! وهذا فيه إلغاء كامل لفكرة حرية الأسواق بين الدول حسب نظرة النظام الرأسمالي.
l أما رئيس البنك الفدرالي الأميركي فقد صرح في اجتماع محافظي البنوك المركزية في 28/10/2008م قال : «إن الأزمة المالية تفرز نظاماً عالمياً جديداً يجمع بين الرأسمالية وتدخل الدولة» وهذا الكلام أيضاً فيه إلغاء لمفهوم الحرية الاقتصادية التي ينادي بها المبدأ الرأسمالي!!
l واتهام آخر جاء على لسان الخبير الاقتصادي (ستيجلتز) في جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل سابقاً قال: «إنه لا يوجد الآن من يحترم النموذج الاقتصادي الرأسمالي بعد الأزمة الراهنة، وبالطبع فإن هذه الأزمة تطرح أسئلة حول مصداقيتنا، ويشعر الجميع أنه يعاني بسببنا…» جاء هذا الكلام في مقال نشرته الواشنطن بوست في 10/10/2008م.
l أما أستاذ التاريخ (روبرت ماك ألفين) فقد نقلت عنه الواشنطن بوست في 28/9/2008م قوله: «أكثر المخاطر بروزاً للرأسمالية هو تركز الدخل في القمة بما يضعف أساس عمل اقتصاد يستند إلى المستهلك..!» والتركز طبعاً كما نعلم ناتج عن الحرية الاقتصادية التي تبيح الربا والاحتكار والمضاربات وإنشاء الشركات العملاقة على حساب الآخرين!.. ومعنى كلامه: إنه يجب الغاء أسباب التركز.
l وقال الخبير الاقتصادي (هارولد ميرسون): «يجب على المثقفين نشر مجلّد يتحدث عن سقوط معبودهم (السوق الحرة)»، نقلت هذا القول عنه النيويورك تايمز بتاريخ 15/10/2008م.
l وفي مقال نشر في جريدة (جروب ماغرب أوبزيزماتز) في 12/10/2008م تحت عنوان «الرأسمالية في طريقها للزوال» جاء فيه «مطلوب فلسفة جديدة، وهذه الفلسفة لم تنضج قبل بعض الوقت، إلا أنه آت ليس باصلاحات فارغة [إشارة إلى ما تقوم به أميركا من ترقيعات وضخ للأموال] وإنما بانتصار الضحايا على الجلادين … [وفي هذا إشارة إلى ثورة العبيد على الاقتصاديين] وبروز نظام جديد…!!».
وقد صدرت أقوال وآراء أخرى فيها من البشارة الشيء العظيم، حيث أشادت بالنظام الاقتصادي الإسلامي ووصفته بالاستقامة والعدالة والشمولية، وطالبت البشرية -إن هي أرادت السعادة والتخلص مما هي فيه باتباعه، ومن هذه الأقوال:
l ما قالته الباحثة الإيطالية لرويتانا بليوني في كتابها الذي أصدرته بعنوان «اقتصاد ابن آوى» قالت: «إن مسؤولية الوضع الطارئ في الاقتصاد العالمي والذي نعيشه اليوم ناتج عن الفساد المستشري والمضاربات التي تتحكم بالسوق والتي أدت إلى مضاعفة الآثار الاقتصادية» وقالت: «إن المصارف الإسلامية يمكن أن تصبح البديل المناسب للبنوك الغربية»! علماً أن هذا الكتاب قد صدر حديثاً.
l أما رئيس تحرير مجلة تشالنجر (كبرى الصحف الاقتصادية في أوروبا) فقد كتب مقالاً في افتتاحية الجريدة بتاريخ 11/9/2008م بعنوان «البابا أو القرآن»!..، ومما جاء في هذا المقال: «أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا، لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من أحكام وتعاليم وطبقوها ما حلّ بنا ما حل من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري، لأن النقود لا تلد نقوداً»!.
l وقال كذلك رئيس تحرير صحيفة (لوجورنال دي فايتنس) في افتتاحية العدد في 25/9/2008م: «هل حان الوقت لاعتماد مبادئ الشريعة الإسلامية في وول ستريت؟! إن كان قادتنا حقاً يسعون إلى الحدّ من المضاربة المالية التي تسببت في الأزمة فلا شيء أكثر بساطة من تطبيق الشريعة الإسلامية»!.
l وفي جريدة الاقتصادية السعودية في عددها الذي صدر بتاريخ 1/11/2008م جاء في هذه الجريدة: «أن وزارة الخزانة الأميركية تدرس حالياً أبرز ملامح نظام الصيرفه الإسلامية للاستفادة منه في الخروج من الأزمة المالية العالمية الراهنة».
l وهذا الأمر يشبه ما قام به وزير المالية الروسي سنة 1990م من زيارة للأزهر مع كبار مساعديه الاقتصاديين، حيث جلس مع علماء مسلمين مختصين في الاقتصاد الإسلامي، وبعد حوالى أسبوع من الجلسات والنقاشات قال وزير المالية الروسي لوفد الأزهر: «أعندكم هذا النظام الفريد في الاقتصاد وحالكم هذا الحال؟!».
l وجاء في جريدة الواشنطن بوست في عددها في 27/10/2008م: «إن القيود التي تفرضها الشريعة الإسلامية على أداء ومجالات الاستثمار أثبتت فائدتها وأفضليتها، حيث لا تتعامل بالمضاربات أو الفوائد (الربا)، التي أدت إلى ضربات قاصمة بشركات أخرى أدت إلى حدّ الإفلاس..»!.
l أما الاقتصادي الفرنسي (موريس آي) الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد فقد رأى قبل حوالى 20 عاماً في مقال له نشر في الصحف الغربية: «أن الأزمة الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد العالمي بقيادة الليبرالية المتوحشة ستقود إلى الانهيار تحت وطأة المديونية والبطالة»، واقترح للخروج من الأزمة شرطين: تعديل معدل الفائدة إلى الصفر -أي إلغاء الربا-، ومراجعة معدل الضريبة إلى ما يقارب 2% (وهذا الأمر قريب من الزكاة في الشريعة الإسلامية).
l وقد أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية -وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك- في وقت سابق قراراً يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي يتميز بها النظام الرأسمالي، واشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام لا أكثر من إبرام الصفقات، كما أصدرت نفس الهيئة قراراً يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية بالتعامل مع نظام الصكوك الإسلامي في السوق المنظمة الفرنسية.
وهناك بشارة أخرى سنتحدث عنها في موضوع منفصل في المستقبل، إن شاء الله تعالى، وهي «صعود صراع دولي جديد بسبب هذه الأزمة» ما بين أميركا من جهة وباقي الدول الصناعية من جهة ثانية، وقد بدأت تبرز هذه الأزمة وتتصاعد يوماً بعد يوم مع اشتداد الأزمة، حيث بدأت الدول الصناعية توجه الاتهام صراحة لأميركا، وتدعو للتخلص من هيمنها الاقتصادية وفسادها المالي، وكان من أبرز هذه التصريحات ما دعا إليه الرئيس الروسي من إصلاح جذري للنظام المالي في 5/10/2008م، وكذلك ما دعت إليه قمة بروكسل في 5/11/2008م على لسان وزراء المال حيث قالوا: «يجب إصلاح النظام المالي العالمي». وهذا الأمر معناه الدعوة إلى التخلي عن الدولار كغطاء عالمي، ووضع ضوابط للعولمة الاقتصادية، وبالتالي حصر أميركا وحدها في الساحة!
وإن في هذه الأمور كلها لبشارة كبرى لأصحاب المبدأ المستقيم مبدأ الإسلام؛ لأن هذا يزيد من ثقتهم بدينهم، دين الله عز وجل، دين الإسلام. وكذلك يجعل هذه الشعوب التائهة الضالة الضائعة تصطدم بالحقيقة المرّة وهي أن الرأسمالية كمبدأ لا تصلح لمعالجة شؤون البشر، وإنهم يجب أن يبحثوا عن النظام السليم المستقيم!..
أما النقطة الأخيرة في هذه البشارات العظيمة فهي آثار هذا الزلزال والإعصار الكبير على الشعوب المسلمة في بلاد المسلمين!..
فقد سحب هذا الزلزال الإلهي البساط الوردي من تحت أقدام هذه الدول المهترئة، وهؤلاء القادة المتنفّذون في العالم الإسلامي، وذلك عندما شحّت عنهم مساعدات الغرب في الإقراض مقابل ثمن العمالة والتبعية، وهذا الأمر سيزداد يوماً بعد يوم ، فعلى سبيل المثال لم تجد بلد مثل الباكستان من ينقذها من كبوتها الاقتصادية فزاد عدد العاطلين عن العمل وانتشرت البطالة، وهبطت قيمة عملتها إلى الثلث من قيمتها، وارتفعت الأسعار لدرجة أن الوضع أصبح لا يطاق، فأخذت تتوسل إلى صندوق النقد الدولي كي يقرضها 15 مليار دولار.. وهذا الأمر لن يكون سهلاً عليها إذا حصل ووافق على هذا المبلغ الكبير، وربما لا يوافق على جميع المبلغ، وإذا ما وافق على جزء منه فإنه سيضع شروطاً قاسية على الاقتصاد تزيد من ارتفاع السعر وانخفاض العملة ووقوع البلاد بطولها وعرضها في أزمة اقتصادية لا قدرة للناس على تحملها!..
وما يجري في باكستان سيجري في مصر وسوريا والأردن ودول المغرب العربي وغيرها ممن ترتبط بعمالات للغرب… أما تلك الدول التي لا تعتمد في اقتصادها بالدرجة الأولى على ثروة البترول فسوف يصيبها دمار وخراب اقتصادي كبير وذلك عندما يشتدّ هذا الإعصار، ويقود إلى كسادٍ حتميّ كبير في كل الدول الصناعية المستوردة للطاقة البترولية، وبالتالي إلى قلة استيراد للبترول بحيث يصبح التنافس بين الدول البترولية على تخفيض السعر شبه يومي حتى يصل إلى أقل من عشرة دولارات للبرميل الواحد!..
وفي هذا الأمر بشارة عظيمة ستجعل هذه الدول في موقف حرج مع شعوبها عندما تجوع وتعرى ولا تجد عملاً ولا سداداً ولا قواماً من عيش، وستزداد حاجة الشعوب في بلاد المسلمين إلى مخلّص حقيقيّ يخلصها من هذا المصاب الجلل!..
إن هذا الإعصار الرباني العظيم حقاً نذيرٌ وبشير، وسيكون بإذنه تعالى مدمراً لدول الشر والفساد ولمبادئها العفنة، ودافعاً للشعوب، سواء في بلاد الكفار أم في بلاد المسلمين، للبحث عن المنقذ الحقيقي الذي يأخذ بيدها وينقذها من هذا البحر الهائج المائج!..
إنها بداية الخير العظيم بإذنه تعالى لتهيؤ الأجواء لعودة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة وصدق الحق القائل: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص 5-6] (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء 87].
2009-03-04