مسألة دمج المسلمين في المجتمعات الغربية
1993/10/02م
المقالات
2,091 زيارة
بقلم: خالد إبراهيم العمراوي
سويسرا
لا تزال إشكالية الاندماج تطرح أسئلة عديدة في العالم الغربي. فقد اقترح أحد السياسيين الفرنسيين في الآونة الأخيرة توقيف الهجرة إلى أن يندمج المهاجرون نهائياً. وإشكالية الاندماج هذه تدور حول أولئك الذين يعيشون في البلدان الغربية ولم ينخرطوا بعد ـ حسب المفهوم الغربي ت في عاداته وتقاليده وطريقة عيشه ونظرته إلى الحياة. والرّد على مثل هذه المسألة بسيط لكنه رغم بساطته تطلّب شرحاً مميزاً ودقيقاً علّنا نصل به إلى الجواب المقنع.
لقد حاول الغرب منذ أمد بعيد إدماجَ المقيمين عنده والمنتمين إلى حضارات شتّى وجعْلَهم ينخرطون في مجتمعه ويتّصفون بقيمه ويعتنقون أفكاره، وبتعبير آخر أراد من هؤلاء المستهدفين أن يتنكّروا للعراقة والأصالة ويسمحوا للأفكار والعادات الجديدة أن تحلّ محلّهما أو على الأقل أن تقضي عليهما شيئاً فشيئاً. وكان الغرب في محاولاته تلك يفاجأ بردّة فعل سلبيّة تجاه مخطّطه إما بالاحتجاج العنيف ضد هذا الأسلوب المتّبع لاستمالة الآخرين واستهوائهم.
ومن أجل ذلك نظّمت حلقات نقاش عديدة وحُبِّرت دراسات ومقالات متعددة حول الموضوع لمعرفة علّة هذا الفشل وسببه أو بالأحرى الجواب عن السؤال القائل «ما المانع الذي يقف أمام قبول الناس لمسألة الاندماج؟».
وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إن الغرب نسي أن حياة الناس ـ أي ناس ـ تقوم عموماً على مجموعة من المفاهيم يتعيّن بحسبها سلوكهم في الحياة. وبمجموع هذه المفاهيم أيضاً تتكوّن لديهم وجهة نظر في الحياة، ومعنى ذلك أنه تصير لديهم نظرة خاصة نجاه الأشياء والأعمال وإعطاء الحكم عليها.
واصطلاح «وجهة النّظر» هذا يمثل رأس الحربة في هذا الموضوع وعليه تقوم النظرة التحليليّة، لذا فإنّني أرى من الضروري الوقوف عند شرحه في بعض الأسطر نظراً إلى أهميته من جهة وارتباطه بالموضوع من جهة أخرى.
إنّ وجهة النظر في الحياة تتكوّن من ثلاثة عناصر وبها تتشكّل. فأمّا العنصر الأول فيتكوّن من مجموع المفاهيم الجزئية المرتبطة بوقائع الحياة. وأمّا العنصر الثاني فيتكوّن من مجموع المفاهيم الكلية المرتبطة بالوقائع الجزئية عن الحياة. وأما العنصر الثالث فهو عبارة عن العنصرين السابقين إلا أنه لا يقف عند حدود الارتباط بوقائع الحياة بل يتجاوز ذلك بكثير إلى حدّ الامتزاج بالنفس وميولاتها ويصير من المسلمات التي لا تناقش لقوّة ارتباطها بالذات، ويطلق عليها اصطلاح «القناعات». وبمجموع العناصر الثلاثة المذكورة تتشكّل وجهة النظر لدى الفرد أو الجماعة التي تبنّتها.
ولو تعمّقنا في العنصر الأول لوجدنا أن المفاهيم الجزئية المرتبطة بوقائع الحياة هي تلك الأفكار الجزئية التي لها وقائع جزئية من الحياة تقابلها، كجزئيات الحياة الاجتماعية مثلاً بما فيها من علاقة المرأة بالرجل، ونظام الأسرة وكفالة الأبناء وحضانتهم، ونفقة العائلة… الخ. وكالحياة الاقتصادية بما فيها من معاملات تجارية سواء كانت داخلية أم خارجية، ونظام السوق، والعملة، وتبادل السلع… الخ، وكالحياة السياسية بما فيها من علاقة الحاكم بالمحكوم أو بأنظمة الحكم، وسياسة الدولة الخارجية تجاه غيرها من الدول وحسب موقعها منها… الخ. وجميع هذه الجزئيات وغيرها يحتاج إلى فكر معين يفصّلها ويعطي حكمه عليها، وهو ما يُسمى بالمعالجات. ولذلك كان لكل واقع جزئي من وقائع الحياة فكرةٌ جزئية تقابله لشرحه وتفصيله وإعطاء الحكم عليه. ومن ثم كانت هذه المفاهيم الجزئية تختلف باختلاف المجتمعات والأمم والحضارات.
أما العنصر الثاني الذي سلف أن قلنا إنه يمثل مجموعة المفاهيم الكلية المرتبطة بوقائع الحياة الجزئية فهو يعني أن الأفكار الجزئية المتنوعة تدخل كلها ضمن إطار معين بالنسبة إليها مقياساً، أي مقياس الأشياء والأعمال، وبحسبه تؤخذ الأشياء وتنجز الأعمال. ذلك أن المقياس يكوّن وحدةً كليةً مثل المتر واللتر والكلغرام، أما المقيس فهو جزئي ومختلف كالقماش والحليب والجزر، فالأشياء الجزئية تختلف وتتنوع، أما الوحدة القياسية فتبقى هي هي ثابتةً كالمتر واللتر والكلغرام التي لا تتغيّر. فعند الغرب مثلاً تُقاس الأشياء والأعمال حسب المنفعة الموجودة فيها وبالمنفعة وحدها يؤخذ القرار إما بالإقبال على الأمر وإما بالإحجام عنه. ويُعرف الغرب اليوم بهذا المقياس وهو مقياس النفعيّة، وهذا بخلاف ما عند الحضارات الأخرى كالحضارة الإسلامية مثلاً. فالمقياس عند المسلمين هو الحلال والحرام، وجميع الأشياء والأعمال ينظر إليها من هذا الجانب: فما كان حلالاً يُرضي الله فعلوه،وما كان حراماً يغضب الله تركوه. وليست المنفعة البحتة هي قطب الرّحى في أعمالهم وقراراتهم بل إنّ رضوان الله هو المقدَّم عليها، فالمنفعة عندهم هي من تحصيل الحاصل إذا ما خضعوا لأوامر الله ونواهيه.
وباختلاف هذه المقاييس بين الأمم والمجتمعات ـ سواء أكانت المنفعة أم الحلال والحرام ـ تتحقّق الأهداف والغايات. فوحدة أوروبا اليوم ينظر إليها بمقياس النفعيّة فهناك القابل وهنالك الرّافض. على حين أن الوحدة عند المسلمين فرض، فهي واجب لا بد من تحقيقه، والفُرقة عندهم حرام. وهذه الوحدة بالنسبة إلى المسلمين لا ينظر إليها من باب المنفعة فقط بل ينظر إليها أساساً من باب الواجب الذي فرضه الله عليهم.
وأما العنصر الثالث فهو عبارة عن العنصرين السابقين لكنه لا يقف عند مجرّد ارتباطه بواقع الحياة بل بتجاوز ذلك إلى حدّ الامتزاج بالنّفس والارتباط بواقع الحياة بل يتجاوز ذلك إلى حد الامتزاج بالنفس والارتباط بها، أي أن مجموعة المفاهيم والمقاييس لا تقف عند فهم الواقع وشرحه وإعطاء الحكم عليه بل تضيف إلى ذلك الارتياح النفسي للنتيجة وقبولها قناعةً غير قابلة للنقاش، ولذلك سمّي هذا العنصر بالقناعات. والقناعات التي يملكها شخص أو جماعة يصعب تهديمها أو تغييرها بقناعات أخرى. وحتى لو كانت القناعات مبنيّة على أفكار خاطئة وأوهام ساذجة. إلا أن تغييرها يتطلّب جهداً كبيراً كبيراً جداً لأن الشيء الذي يرتبط بالقناعات يصير يجري مجرى الدم بالنفس البشرية، وتغيير الدم الذي يجري في العروق وتعويضه بدم آخر يتطلب عملية شاقة.
وبهذه العناصر الثلاثة أي مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات تتكوّن وجهة النظر في الحياة، أي وجهة نظر كانت بغض النظر عن جانب الصحة أو الخطأ فيها. وعليه فإن مسألة تخلي الفرد أو الجماعة عن مجموعة المفاهيم التي يملكونها واندماجهم بمفاهيم أخرى أمر ليس بالسهولة المطلوبة، والموضوع لا يؤخذ بهذا الاستخفاف لأن القضية قضية مصيرية لا يمكن التنازل عنها بين عشية وضحاها. وقد تشعر مجموعة ما بأن خطراً يهدّد أفكارها وعاداتها وتقاليدها، بل كيانها فتثور فيها نزعة المحافظة على الهُوية والثقافة فتعمل على إبعاد هذا الخطر وتحاصر هجوماته من كل مكان.
صحيح، قد يقال إن هناك من يتخلّى عن قناعاته القديمة ويعتنق قناعات أخرى جديدة، والجواب عن ذلك ذو شقّين كل شق منهما يمثل حالة خاصة. فأما الحالة الأولى فيتخلى فيها المرء عن مفاهيمه أي عن قناعاته القديمة ويتبنّى مفاهيم أخرى تخالف الأولى، وذلك بعد اقتناعه بأن المفاهيم القديمة التي كانت تصوّر له الحياة مفاهيم خاطئة أو مغلوطة، واكتشافه قناعاتٍ أخرى أفضل وأصلح وأصوب من مفاهيمه الأولى، وهذه الحالة ليست مقصورة على الذين يعيشون داخل مجتمعات غير مجتمعاتهم الأصلية حتى يتأثروا بعاداتها وتقاليدها وتصوّراتها من جرّاء عيشهم بين أحضانها، بل تكفي في هذه الحالة النظرة المتفحّصة للأفكار والمفاهيم الموجودة في الدنيا ومن ثم يأخذ الشخص اتجاهه الجديد، كما حصل لبعض مفكري العالم الرأسمالي الذين تخلّوا عن الرأسمالية ووضعوا بعض المؤلفات التي تنقد الفكر الرأسمالي، أو كما حصل أيضاً لبعض مفكري الاشتراكية الشيوعية الذين هربوا من المعسكر الشيوعي سابقاً لمخالفتهم للمفاهيم الشيوعية.
وأما الحالة الثانية فتمثّل حالة الاضطراب الفكري، وهي بالتحديد تحدث للأشخاص الذين حكمت عليهم ظروف العيش بأن يقيموا في مجتمعات تختلف عن مجتمعاتهم، فهؤلاء تراهم يتأثرون بأسلوب العيش الجديد ويقلّدون نمطه، من غير أخذ أفكاره، دون وعي أن انتباه بل لمجرد التقليد ليس غير. وفي أغلب الأحيان تراهم يقفزون بين مفاهيم الأعماق التي تمثل تصوراتهم القديمة عن الحياة وبين طراز العيش الجديد الذي يعيشون بين أحضانه. ومن جراء هذا التشوّش الفكري تضطرب شخصيات هؤلاء وتعمّهم الفوضى.
وهذه الحالة كثيراً ما يعيشها أبناء المهاجرين الذين ولدوا خارج موطنهم. وهي حالة لا تصلح مثالاً على موضوع الاندماج لأنها حالة تشوش وليست حالة استقرار فكري.
هذه إذن هي إشكالية الاندماج وهكذا يجب النظر إليها، ولا يجوز القول بإيجاد حل لها لأنها ليست حالة مرضية حتى نعالجها ونجد لها الحلول، إنما هي قضية صراع بين أفكار وأخرى والفوز في الصراع الفكري يكون للفكر الأصلح كما هو معلوم.
وأخيراً أريد أن اهمس في أذن الغرب وأذكّره بمفهوم الديمقراطية الذي يتبنّاه وأقول له: أليس من حرية الأشخاص أن يتبنّوا ما يطيب لهم ويختاروا ما يشاؤون؟ أوليس من حقهم أن يختاروا طريقة عيشهم وطراز حياتهم؟ أما إذا كان الغربيون يقولون إن الذي يقبل بالعيش بينهم عليه أن يخضع لإرادتهم فإننا ننبههم على مناقضتهم لمبدئهم تجاه غيرهم، ونقول لهم إن ذلك استعباد وإخضاع وليس اختياراً وحريةً. ثم ماذا سيحصل يا ترى لو سلّمنا جدلاً بأن عملية الاندماج هذه ستنجح على الشكل الذي يصوره الغرب وتداخلت الأجناس، فماذا ستكون النتيجة بعد سنين؟ الجواب واضح على ما أظن، فسينظر فيما بعد إلى هؤلاء «المندمجين» على أنهم دخلاء من قوميات أخرى وسيعمل على تضييق عيشهم وتعييرهم بعِرْقهم كما هو الحال الآن مع زنوج أميركا
1993-10-02