السياسة والمصالح
1993/11/02م
المقالات
2,324 زيارة
تعرف السياسة على أنها رعاية شؤون الأمة داخلياً وخارجياً، والرعاية لا بد أن تقوم على مجموعةٍ من الأنظمة والقوانين التي تنبثق من الفكر الأساسي للساسة الذين ينفذون هذه السياسة والناس الذين يخضعون لها. وهذه الأنظمة والقوانين قد تكون راسخة في أعماق السياسي وقد تكون مرتجلة شأنها شأن العقيدة التي يعتنقها. فالسياسة أساساً لا بد أن تنبثق من مبدأ ضعيفاً كان أو قوياً، صحيحاً كان أو فاسداً. وتتحدد صلاحيتها للأخذ والتطبيق بصلاحية المبدأ، وبالأدق بصلاحية العقيدة العقلية التي يبتنى عليها الهرم الفكري.
والأعمال والإجراءات السياسية يُقصد منها عامةً تنفيذ معالجات معينة من أجل تحقيق مصالح معينة. وهذه المصالح متعددة الأشكال والأنواع، ويمكن إجمالها في الأقسام التالية: أولاً: المصلحة المبدئية التي يحددها المبدأ الذي يعتنقه الساسة والناس (كنشر مبدئهم عالمياً). ثانياً: المصلحة الشخصية للسياسي المنفذ (كالحفاظ على كرسي الحكم وما يرجّ من عيش رغيد). ثالثاً: المصلحة الحزبية أو «الفئوية» بكل معاني الفئة من طائفة عرقية أو مذهب أو فرقة دينية أو عشرة أو تجمع أصحاب النفوذ في البلاد (وذلك كبقاء الفئة في سُدّة الحكم وتنعم أفرادها بخيرات الخاضعين للسلطة). رابعاً: المصالح الأجنبية للدول المحيطة والمؤثرة على السياسة المنفّذة، أي الدول التي لها حضور سياسي في مجال الدولة المعنية. وهذا النوع الأخير والخطير ينقاد له حتماً السياسي الذي يسعى لمصالحه الشخصية أو الفئوية (إذا ضعفت قوة الفئة) حيث يتورط في خدمة المصالح الأجنبية للدولة التي تنجح في ربط بقائه (فراداً أو فئة) بولائه لها وخدمته لمتطلبات مصالحها مباشرة أو غير مباشرة ويصبح خادماً لها ويدور مع مصالحها دوران تبعية تضعف وتقوى بحيث قد تصل إلى حد دوران السن في الدولاب.
وهذا التصنيف للمصالح يُميّز الساسة ـ من حيث التطبيق ـ إلى وعين لا ثالث لهما: شريف مخلص أو خائن عميل، وواضح أن السياسي الشريف هو الذي يربط سياسته بالمصالح الحيوية التي تتحدد بالمبدأ المعتنق من قبل الأمة (أي السعي لتحقيق النوع الأول من المصالح فقط لا غير). أما السياسي الخائن للناس المحكومين بسلطته فهو الذي يدير سياسته خلف أي مصلحة أخرى من المصالح المذكورة التي تحوله إلى الخيانة السياسية. فالسياسي العميل ليس فقط ذلك الموظف في دائرة الاستخبارات الأجنبية أو الذي يتقاضى راتباً شهرياً من دولة خارجية، وإنما قبل ذلك هو الذي يخدم الأجنبي قبل الأمة لأي سبب كان.
والناظر في واقع السياسة العربية أو الإسلامية (اسماً) يجد أن أربابها خونة وعملاء. ولا نقول ذلك اعتباطاً أو اتهاماً لمجرد الاتهام. بل ذلك انطباقاً لما قدمنا من تعاريف على واقعهم. ولا ندعي أنهم يتقاضون رواتب من السفارة الفلانية أو غيرها. بل إن بعضهم ليتصدق في محافل أسياده، كما تصدق أحدهم بملايينه العشرة لحديقة الحيوانات (!) في لندن مع أن المصالح الحيوية لأمته تدعوه إلى نجدة المسلمين في الصومال. ولكن لا تهتز لذلك شعرة في جسده. فهي الخيانة للأمة إذن مقابل وعد من البيت الأبيض لتحريك جحافل الغرب كلما تحرك مناد لتحطيم كرسيه الكرتوني أو كراسي أقرانه في الخليج. هذا مثال وقس على ذلك.
وهنا لا بد من التوضيح أن إخلاص السياسي لمبدئه ولمصالح أمته الحيوية لا يعني بالضرورة صلاحية سياسته وملاءمتها للحكم، بل إخلاص السياسي شيء وصلاحية السياسة شيء آخر. ولنأخذ على ذلك مثلاً ساسة الغرب: فهم عامةً مخلصون لمبدئهم ولمصالح شعوبهم التي تتحدد بالمبدأ الرأسمالي أو الديمقراطي. لكن على الرغم من كون سياستهم مبدئية إلا أنها فاسدة لا تصح المطالبة بها أو الدعوة لها، لأنها تنبثق من مبدأ باطل في فكرته وطريقته. ففكرة المبدأ الرأسمالي تقوم على الهروب من البحث في سرّ وجود الإنسان الذي يحدد له عقيدة يُشبع بها غريزة التدين (أو التقديس) التي هي جزء من فطرته وجبلّته. وأنظمته من صنع عقل بشري مقيّد بحواسّ ومقاييس محدودة لا يمكن أن يتعداها، وهذا ما أدّى إلى انبثاق فكرة الاستعمار التي تجلب الهلاك للشعوب. لأن هذا المبدأ يعتبر المنفعة الذاتية قيمة عليا يُسعى لتحقيقها.
أما السياسة الإسلامية الحقيقية التي غابت عن الوجود والتأثير في الحقل الدولي منذ عقود فإنها هي وحدها السياسة الصالحة والملائمة للحكم إذ أنها تقوم على مبدأ حق. لأنه وحده الذي يجيب الإنسان عن سؤاله الأساسي عن الوجود: «من أين أتيت وإلى أين أمضي؟» جواباً عقلياً صحيحاً شافياً، يقنع العقل ويوافق الفطرة فيحقق الطمأنينة والسعادة، ثم يحدد له طريقة العيش التي صاغها الرب ـ سبحانه ـ الخالق المدبر والذي يعلم ما خلق وما يناسبه من نظام للحياة.
والذين ينفذون مثل هذه السياسة هم شرفاء ويخلصون بالضرورة، لأنهم يندفعون إليها بتقوى الله، ولأن مبدئهم الإسلامي يدعوهم إلى الالتزام بالشرع الذي يؤدي إلى اعتبار السياسة أحكاماً شرعية يُقصد منها نيل رضوان الله. لذلك فالسلطان الرقيب على الإخلاص يكون من داخل النفوس، وأنّى للإنسان أن يخون نفسه؟! والمصالح التي يسعى لها ساسة الإسلام هي ما يحدده الدين الحنيف حيث تنعدم الأنانية وتذوب الفردية في الجماعة، وتعمل الجماعة لتحقيق الرفاهية للفرد (راجع مقال هيثم بكر «المصالح الحيوية للأمة الإسلامية» الوعي رق م62).
وكون السياسة الإسلامية منعدمة التأثير على الصعيد الدولي لا يعني انعدام الساسة المسلمين، بل هم كُثر لكنّ الأمر ليس بيدهم بعد أن سُلبت الأمة حق السلطان وحق نصب إمام يرعى سياستها. هم كثر لكنّ دورهم الآن هو دور الكفاح السياسي المرتبط بالصراع الفكري من أجل بث الحرارة في الأمة ببيان خيانة ساستها وبطلان ما يزعمون حتى يغلي قِدْرُها من جديد ثم تنطلق معهم ـ عما قريب بإذن الله ـ لقلب هذا الوضع المميت وبعث خلافة الإسلام وسياسته.
وهؤلاء الساسة الحقيقيون لن يقنطوا من رَوْح الله لأنه لا يقنط من رَوْح الله إلا القوم الكافرون، وسيبقى حديث رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ منارة لهم: «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة»، وستبقى أبصارهم موجهة صوب رومية والفتح الأعظم.
والأمل بالأمّة معقود لتهب ريحاً يقلب الكيانات الكرتونية الهشّة ثم تتحول رياحاً تسوق الغوث إلى المعذبين في الأرض
1993-11-02