استراتيجية كبرى لزعزعة استقرار الشرق الأوسط
1993/11/02م
المقالات
1,770 زيارة
تحت هذا العنوان كتب جهاد الخازن، رئيس تحرير جريدة الحياة، بالتعاون مع عدد من الباحثين مقالاً نشره في الحياة في 28/10/93. وبالإضافة إلى العنوان أعلاه أبرز الكاتب العناوين الفرعية التالية:
l خمس سنوات تقوم بعدها دول على أساس الديمقراطية وحرية السوق.
l هلال أزمة جديدة يعطي «الناتو» مهمة إلى الجنوب بدل الشرق، ويمتد من المحيط الأطلسي حتى روسيا.
l الدعوات لانتهاج سياسة قصيرة المدى تشمل زعزعة الاستقرار والتدخل بهدف إعادة رسم خارطة المنطقة لم تُسمع علناً حتى توقيع الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
ونظراً لأهمية هذا المقال رأت «الوعي» أن تنشره بحرفيته لاطلاع قرائها عليه. وفيما يلي نص المقال:
هذا النظام العالمي الجديد هل يتضمن شرق أوسط «جديد»؟ المصافحة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في 14 أيلول (سبتمبر) في واشنطن فتحت الباب على مصراعيه للحديث علناً، بعد الهمس السابق، عن استراتيجية كبرى أميركية ترى دور الأبحاث الغربية، خصوصاً تلك القريبة من الأوساط العسكرية، أنها تشمل إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط بإطلاق قوى التغيير الثورية، حتى لو عنى ذلك فوضى سياسية واقتصادية واجتماعية على المدى القصير يتبعها على المدى الطويل قيام أنظمة على أساسين: الديمقراطية وحرية السوق.
يصرح بهذا الكلام، بعد همس، باحثون هم يوماً في الحكم ويوماً في دور الأبحاث على شكل لعبة الكراسي الموسيقية، وبالتالي لا يمكن الفصل بين آرائهم والقرار السياسي، فهي إذا لم تكن هذا القرار اليوم فستكونه غداً، حتى يصعب التفريق بين الباحثين والمسؤولين عن السياسة، أو العكس. ويمكن تلخيص ما يطرح على الشكل الآتي:
السلام العربي ـ الإسرائيلي سيساعد على تسريع قوى التغيير الكامنة في الشرق الأوسط، حيث لا يتمتع معظم الأنظمة العربية بشريعة، وحيث يسير كل من هذه الأنظمة باتجاه أزمة داخلية سببها فشله في تلبية الطلبات الاقتصادية والاجتماعية لشعبه. وكان النزاع العربي ـ الإسرائيلي عذراً استعملته الأنظمة التوتاليتارية في بناء دول بوليسية، ربما عبّر عنها جميعاً شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» (ضد إسرائيل). وكل دولة تقمع شعبها وترهب جيرانها، وتدخل سباق تسلّح انتحارياً، بحجة مقاومة العدو الصهيوني صاحب الميول التوسعية التي لا تقف عند حدود فلسطين.
بعد حلول سلام عربي ـ إسرائيلي ستقوى المطالبة بالتغيير، لانتفاء سبب استمرار الحال في الأنظمة العربية التي أضعفتها قبل ذلك نهاية الحرب الباردة، حتى يأتي وقت تكون هذه الأنظمة فيه فقدت كل شرعية للبقاء، وهي بذلك في رأي الباحثين حفرت قبرها بنفسها عندما قبلت السلام.
تفكير الباحثين (ومرة أخرى لو قلنا تفكير الحكومات الغربية اليوم أو غداً لما بعدنا من الصواب) هو أن على الغرب أن يشجع مسيرة الليبرالية السياسية والاقتصادية في البلدان العربية، ومعها إيران. وعلى المدى البعيد فالتغيير سيسهم في قيام حكومات تمثيلية ومجتمعات مستقرة. لكن على المدى القصير، فعملية الليبرالية السياسية والاقتصادية سيصحبها اضطراب كبير، غير أن مثل هذا الاضطراب لن تكون له مضاعفات دولية بسبب نهاية الحرب الباردة.
المفكرون الاستراتيجيون الأميركيون يدعون إلى تدخل الغرب لتحقيق الهدف البعيد المدى حتى على حساب الاضطراب القصير المدى. بكلام آخر، للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تُدعى الولايات المتحدة إلى ضرب استقرار معظم العالم العربي وإيران عمداً لخلق «ديمقراطيات السوق» التي يمكن دمجها في الشبكة المالية والسياسية للغرب… وإسرائيل. ويمكن الاستعاضة عن هدف الاستقرار في الشرق الأوسط الذي سعت إليه الولايات المتحدة على مدى عقود بسياسة مرتدة (Revisionist) لا يقيّدها كما في الماضي التنافس مع الاتحاد السوفياتي أو غياب السلام بين العرب وإسرائيل.
هناك تغييرات دقيقة لا ترها غير العين المدرّبة تحصل فعلاً الآن، فقبل أشهر قليلة فقط كان تدفق النفط من الخليج إلى الدول الصناعية يعتبر مصلحة حيوية للولايات المتحدة، باتفاق أركان الحكومة ومراكز الأبحاث، غير أن هذا الوضع طرأ عليه تعديل بعد المصافحة في أيلول، فالمصلحة الحيوية أصبحت تدفق هذا النفط حراً بسعر معقول، وأصبح مطلوباً من الدول المنتجة انتهاج سياسة تسعير ودية تتمشى مع حاجات النظام الاقتصادي العالمي الليبرالي.
مثل هذه الأفكار لم يُسمع علناً وبوضوح إلا بعد المصافحة في حديقة البيت الأبيض، فهي اعتبر مناسبة لبناء استراتيجية كبرى أميركية للشرق الأوسط عبّر عنها مستشار الرئيس للأمن القومي انطوني ليك عندما دعا إلى «توسيع ديمقراطيات السوق» ومنع الدول خارج حلقة الديمقراطية وحرية السوق من تهديد العملية. وقال ليك في خطابة في جامعة جونز هوبكنز قرب نهاية أيلول أنه مع انتهاء خطر القوة العسكرية السوفياتية، أصبحت الولايات المتحدة أكثر حرية في التدخل في البلدان الأخرى.
ويبدو أن ليك لم يرفع صوتاً وحيداً فآراؤه التدخلية تلقى قبولاً عند باحثين ومسؤولين يعتبرون الشرق الأوسط ناضجاً للتدخل، حتى لو أدى ذلك إلى زعزعة استقرار المنطقة من أجل توسيع الديمقراطية واقتصاد السوق وحقوق الإنسان.
والحقيقة أن «الشرق الأوسط الجديد» أثار اهتمام «المهتمين» هؤلاء منذ مؤتمر مدريد في تشرين الأول (أكتوبر) 1991. غير أن الدعوات لانتهاج سياسة قصيرة المدى تشمل زعزعة الاستقرار والتدخل بهدف «إعادة رسم» خارطة المنطقة لم تسمع علناً حتى توقيع الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي.
إذا غلب رأي الباحثين، وهم كما أسلفنا يدخلون الإدارة ويخرجون منها بانتظام، فسنرى محاولات لزعزعة استقرار دول الشرق الأوسط على المدى القصير تعرّض أمنه وأمن الغرب كله للخطر. غير أنه يبدو أن حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة يسير في هذا الاتجاه. وقد لاحظنا أن وزارة الدفاع الأميركية عيّنت للمرة الأولى مساعداً للوزير للديمقراطية وحفظ السلام هو نورتون هالبرين.
ويروج المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن وزبغنيو بريجنسكي وآخرون لفكرة «هلال أزمة» جديد يمتد من الغرب إلى الاتحاد السوفياتي السابق. وليس في الأمر أكثر من عبارة مستعملة لأن بريجنسكي استعمل عبارة «هلال الأزمة» عن الشرق الأقصى عندما كان مستشار الأمن القومي في إدارة كارتر. غير أن المعهد الدولي جعل العبارة محور مؤتمره السنوي في زوريخ سنة 1991، وكسب العبارة اتباعاً منذ ذلك الحين. وإذا كان لنا أن نستفيد من درس «هلال الأزمة» السابق فهو أن الولايات المتحدة خلقت الأزمة، أو الأزمات، التي تريد حلها. والهلال الجديد سيحمل في طياته أخطاراً لا يمكن حصرها الآن إذا حاولت الولايات المتحدة إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط لتناسب المصالح الأميركية والإسرائيلية تحت حجة الديمقراطية وحرية السوق.
وربما عدنا قليلاً إلى قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في لندن في تموز (يوليو) 1990 ففيها بدأ التحول التدريجي عن التركيز على الاتحاد السوفياتي وأوروبا الوسطى، فقد كان واضحاً أن الأحداث تسير نحو ما توقعه المجتمعون من إعادة توحيد ألمانيا قرب نهاية ذلك العام وسقوط الشيوعية السوفياتية في العام التالي. واصبح حلف الشمال الأطلسي يواجه خطر التفكك كما تواجه الولايات المتحدة خطر خسارة دورها القيادي فيه. وأقرّ الناتو في روما في تشرين الثاني (نوفمبر) 1991 خطة ضغطت إدارة بوش لإقرارها وتهدف إلى التخطيط لمواجهة ما سمّي بخطر المناطق البعيدة (Out Of Area).
إذا استطاعت الولايات المتحدة إقناع حلفائها بفكرة «هلال الأزمة» الجديد، فستصبح البرتغال وأسبانيا وإيطاليا واليونان (ومعها تركيا)، والجميع أعضاء في حلف الأطلسي، الخط الأمامي، بدل الخلفي أو الهامشي، للناتو، مع وجود «التهديد» للأمن الأوروبي من هجرة عمال وانتشار أسلحة دمار شامل، وصراعات اثنيه وإرهاب تطرفي ديني إلى الجنوب بدل الشرق. وحتى كتابه هذه السطور كانت الدول المعنية لا تزال تراجع المطلوب منها من دون أن تستقر على قرار، مع استثناء تركيا إلى تفتش عن دور.
ونعود إلى تموز 1990 وقمة الناتو في لندن، فقد حدث في ذلك الشهر تطوران يستحقان التسجيل:
ـ عندما مثل إدوارد غنيم أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي لتثبيته سفيراً لدى الكويت، انتقد السناتور دانيال باتريك موينهان، رئيس اللجنة سياسة الكويت، وقال «إنهم» لو أعطوها للمملكة العربية السعودية أو قسّموها بين العراق والسعودية لوفروا نفقات سفارة.
إذا كان صدام حسين لم يسمع ما سبق فهو اجتمع مع ابريل غلاسبي، السفيرة الأميركية في بغداد، التي أكدت له أن بلادها لا تتدخل في النزاعات الحدودية بين دول المنطقة وإنما تتركها لتحلها فيما بينها… وهو اعتبر ذلك تصريحاً له باحتلال الكويت.
ولم يمض شهر حتى غزا العراق الكويت، وتبع ذلك حرب تحريرها، وأثبت أصحاب نظرية «هلال الأزمة» الجديد صدق ما ذهبوا إليه، من دون أن يقول لهم أحد أنهم يصنعون الأزمات التي يندبون أنفسهم لحلّها.
الآن ربما فتحت المفاوضات السرية بين منظمة التحرير وإسرائيل برعاية النرويج الباب لتحقيق الهدف الأميركي إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط على أساس «القيم الغربية» والنرويج عضو في الناتو قريب من الولايات المتحدة وبريطانيا، وربما طلبت منها الوساطة أملاً بأن يؤدي نجاحها إلى خلق الأوضاع المطلوبة لتنفيذ «الاستراتيجية الكبرى» الأميركية للمنطقة.
ونسجل هنا أن المفاوضات السرية بدأت بعد أن اقترحت النرويج رسميا على إسرائيل في أيلول 1992 أن تعمل جسراً بينها وبين منظمة التحرير. وفي حين أنكرت الولايات المتحدة أي معرفة بدقائق المحادثات وإن لم تستطع إنكار معرفتها بوجود مفاوضين فلسطينيين وإسرائيليين في أوسلو، فربما كان الأمر أنها عرفت بالمفاوضات منذ إدارة جورج بوش وتابعت تقدمها بدقة. ويصر خبراء في الناتو أن النرويج ليست بلداً من النوع الذي يتدخل في مسيرة مؤتمر مدريد من دون طلب محدد.
كل ما سبق، ومن دون أن نصرّ على دقّة كل تفصيل فيه، أوصلنا اليوم إلى حديث العلن بهد الهمس، عن زعزعة استقرار الشرق الأوسط لتحقيق تحول سياسي واقتصادي أساسي في بعض دول المنطقة لفتحها أمام السيطرة الاقتصادية الأميركية والإسرائيلية عندما يحل السلام، وعدم تكرار تجربة مصر عندما تبع السلام الثنائي جمود في العلاقات يحمّل اليهود الأميركيون الرئيس حسني مبارك، بسياسته الوطنية العربية، المسؤولية عنه. ويفضّل دعاة الفكرة أن تتم زعزعة الاستقرار خلال فترة السنوات الخمس الانتقالية في الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي حتى يكون التفاوض مع دول عربية مهددة من الداخل والخارج، وبالتالي أكثر استعداداً لقبول ما يعرض عليها.
ولعل أهم ما في هذه السياسة الجديدة أن انتهاج الولايات المتحدة لها يعني نهاية دورها كراعية الوضع القائم، وبدء سياسة مرتدة أساسها التغيير حتى لو أدى إلى كوارث على شعوب المنطقة في المدى القصير. غير أن الولايات المتحدة مستعدة لغض النظر عن الأخطار لأن الموضوع يطاول زعامتها حلف شمال الأطلسي، والبحث عن دور جديد له يضمن استمرار هذه الزعامة والحاجة إليها، وعلاقاتها الاستراتيجية مع إسرائيل.
وهناك مراكز تعمل بتمويل خاص في الولايات المتحدة وتقيم علاقات وطيدة مع الناتو والتحالف والعسكري ـ الصناعي المشهور يهمها وضع الناتو استراتيجية تشدد على الخطر المزعوم من الجنوب. وتؤيدها في هذا الاتجاه مراكز استراتيجية سيطرت عليها تقليدياً مصالح الناتو، خصوصاً الأميركية منها.
هذه الأفكار يجد الباحث مكاناً لها في بريطانيا وألمانيا إلا أن فرنسا تظل تشك في الأهداف الأميركية في الشرق الأوسط. أما الدول الأربع التي سبقت الإشارة إليها، أي البرتغال وأسبانيا وإيطاليا واليونان، فهي لا تزال محتارة بين الدور المطلوب إلى الجنوب، والأفكار الفرنسية عن محورية الأمن الأوروبي. إلا أن الولايات المتحدة تضغط على الدول الأربع للسير في سياستها، وقد ضمنت حتى الآن تركيا على الجناح الشرقي للناتو.
في مثل هذه الظروف، أي مشروع أميركي لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط سيكون ثقيل التسليح ليصبح بالإمكان تنفيذ سيناريوهات التدخل. وقد أثبتت الولايات المتحدة فعلاً حتى الآن أنها أصبحت الدولة الوحيدة الباقية في العالم القادرة على التدخل العسكري من الخليج إلى القرن الأفريقي إلى أميركا الوسطى.
أما النرويج فبعد أن تكمل دورها في تحويل اهتمام الناتو من الشرق إلى الجنوب فإن أهميتها ستبدأ بالتراجع، ويكون الرئيس ياسر عرفات لعب من دون قصد دور «مخلب قط» في اللعبة الكبرى الأميركية للسيطرة الجغرافية السياسية على الشرق الأوسط. أما اسحق رابين فيبدو أن دوره أكبر لأن إسرائيل جزء أساسي في اللعبة الأميركية وسيكون لها دور عسكري إذا دعت الحاجة يطالب به الباحثون المحسوبون عليها، وستقبض ثمنه من فتح المنطقة للسيطرة الأميركية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
وإذا قدّر للإستراتيجية الكبرى هذه أن ترى النور فسيدفع العرب ثمنها، تدفعه الأنظمة والشعوب على حد سواء. ولعل العرب يرتفعون يوماً إلى مستوى التحدي، ويراجعون حساباتهم منذ توقيع اتفاق المبادئ الفلسطيني ـ الإسرائيلي، فهناك وسائل للدفاع عن أنفسهم ربما كانت موضوع دراسة في المستقبل. يكفي الآن أن نقول أنه لو اتفقت دول الخليج في ما بينها فعلاً لا قولاً كما هو الحال الآن وتجاوزت نهائياً مضاعفات احتلال الكويت، ولو قادت مصر والمملكة العربية السعودية وسورية المجموعة العربية برأي واحد تجاه العالم الخارجي، فإن أي مخطط كبير أو صغير يمكن إحباطه. غير أن المخططين للسيطرة على المنطقة يعرفون أن أفضل سلاح عندهم هو عجز العرب عن الاتفاق، لا أكثر ولا أقل على رغم ما يبدو من سذاجة الكلمات .
1993-11-02