مع القرآن الكريم:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)
-
لما ذكر الله سبحانه وتعالى (البيت الحرام) وأنه سبحانه قد جعله قبلة للمسلمين، ذكر ما وضع البيت من أجله وهو الحج والعمرة، وذكر السعي بين الصفا والمروة حيث تحرج المسلمون من فعله، وكيف أن الله سبحانه رفع عنهم الحرج وأن طاعتهم لأمر الله في ذلك يترتب عليها أجر عظيم.
وهذا كله في سياق ما سبق من آيات حول التوجه للقبلة الجديدة والدعوة للإسلام وذكر الله على الدوام، ثم تنفيذ أوامر الله سبحانه وإن كان فيها مشقة أو أذى في سبيل الله، والصبر على الأذى في سبيله سبحانه، وبيان الأجر العظيم الذي أعده الله سبحانه لأهل طاعته الذين يلتزمون شرعه ويتقيدون به مهما كان ثقيلاً أو شاقاً أو محرجاً وأن العاقبة للمتقين.
وفي هذا السياق وردت هذه الآية الكريمة، فقد تحرج المسلمون من السعي بين الصفا والمروة وتخوفوا أن يكون عليهم إثم لو سعوا؛ وذلك لأن صنمين كانا في الجاهلية عليهما: على الصفا صنم على صورة رجل يقال له (إساف) وعلى المروة صنم على صورة امرأة يقال لها (نائلة) فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون السعي بينهما لأجل الصنمين، فنزلت تلك الآية كما روى ابن عباس (رضي الله عنهما) أي أن المسلمين تخوفوا من وقوع إثم إن سعوا بينهما بسبب الصنمين اللذين كانا عليهما في الجاهلية، فنزلت الآية لبيان أن لا إثم في ذلك.
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ):
أصل (الصَّفَا) لغة: الحجر الأملس، وأصل (الْمَرْوَةَ) لغة: الحجر الأبيض. وبالحقيقة العرفية أصبحا علمين للجــبلين الصــغيرين المعروفـين في مكة قرب البيت الحرام (الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) وجاء الشرع واستعملهما بهذه الحقيقة العرفية.
(شَعَائِرِ اللَّهِ) أي من معالم الحج لله سبحانه وهي جمع شعيرة، والشعائر المتعبَّدات في الحج – أي مناسك الحج – التي أشعرها الله تعالى أي جعلها أعلاماً للناس من الطواف بالبيت والسعي والموقف وغيرها من مناسك الحج.
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أي لا إثم ولا حرج على الحاج أو المعتمر أن يسعى بينهما؛ فقد كانوا يتحرجون من السعي بينهما كما بيّنا فرفع الله الحرج عن السعي بينهما.
وليس معنى (فَلَا جُنَاحَ) أن لا إثم على الطواف أو عدمه؛ لأنها واردة عن رفع الحرج عن الطواف، وليس عن رفع الحرج عن عدم الطواف، بل هي: أدوا أمر الله بالطواف بهما ولا حرج عليكم في ذلك. عن هشام بن عروة عن أبيه قال: “قلت لعائشة أم المؤمنين (رضي الله عنها) وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله -عز وجل- (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما. فقالت عائشة (رضي الله عنها): كلا، لو كانت كما تقول لكانت (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)”.
(أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) أي يتطوف فأدغمت التاء في الطاء، وأصل الطواف المشي حول الشيء، والمراد هنا السعي بينهما.
وبذلك يكون معنى الآية خطاباً من الله سبحانه للمسلمين، أي من حجّ البيت أو اعتمر منكم فليسعَ بين الصفا والمروة، فقد أصبحتا من شعائر الله ولم تعودا من علامات الجاهلية، ولا تتحرجوا أو تتخوفوا من وقوع إثم في السعي بينهما بسبب الصنمين اللذين كانا عليهما فيما مضى في الجاهلية، فقد انتهى ذلك الأمر ورفع الله عنكم الإثم والحرج، فاسعوا بينهما وامتثلوا أمر الله.
أما الحكم الشرعي في السعي بين الصفا والمروة فهو فرض وهو ركن في الحج والعمرة للأدلة التالية:
أ. فقد نصت الآية على أن السعي بين الصفا والمروة هو من مناسك الحج (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ).
ب. في الحديث الذي رواه جابر (رضي الله عنه) عن وصف حجة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) – حجة الوداع -: “أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول: لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه” (مسلم والنسائي وأبو داود وأحمد). وفي هذا القول بيان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للحج وهو يأخذ حكمه، أي الفرض، فيكون السعي بين الصفا والمروة فرضاً فالبيان يأخذ حكم المبين.
وبذلك يكون السعي في الحج والعمرة فرضاً، ولا يقال هنا إن الاستدلال السابق كان عن السـعي الذي في الحـج وليس الذي في العـمـرة، لا يقال ذلك لأن الآية تقول (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) والتي تدلّ على أن الحكم الشرعي في السعي لمن حجّ أو اعتمر واحد.
وما دام السعي فرضاً، والسعي جزء من الحج أو العمرة، ووجوب جزء من حكم يعني أن هذا الجزء هو ركن في ذلك الحكم كالركوع في الصلاة أو السجود، وعليه يكون السعي ركناً في الحج أو العمرة.
-
يختم الله الآية بقـوله سبحانه (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) و(خَيْرًا) هنا نكرة مثبتة فهي مطلقة، أي أن الله سبحانه شاكر عليم لكلّ من تقرب إلى الله بأي خير كان، سواء في العمرة أو في الحج كما هو في سياق الآية، أو أي خير كان كما يستفاد من إطلاق الخير بدون تقييد.