الأزمة المالية العالمية وأسبابها
2008/12/02م
المقالات
1,938 زيارة
الأزمة المالية العالمية وأسبابها
د. أبو الفضل الشعراوي
منطلقات فكرية اقتصادية أساسية:
يعترف علماء الاقتصاد في الغرب بوجود مبدأين اقتصاديين في العالم فقط لا غير، وهما: النظام الاقتصادي الرأسمالي والنظام الاشتراكي، لكن علماء الاقتصاد المسلمين منقسمون على أنفسهم في الاعتراف بالمبدأ الثالث، فمن كان منهم غربي الهوى والفكر يرى ما يرى الغرب، لأنه يفكر بعقل غربي، ويهوى ما يهوى الغرب. أما العلماء الذين لم يتشرّبوا فكر الغرب وحضارته فهم يعترفون بوجود هذا النظام ويطالبون بعودته ليسود العالم. وقد حصل صراع أيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية في القرن العشرين(صراع فكري، صراع مبادئ ووجهات نظر)، أما النظام الاقتصادي في الإسلام فقد غُيّب عن التطبيق وعن ساحة الصراع في القرن العشرين لأسباب يعرفها القاصي والداني.
1- النظام الرأسمالي يتبنى اقتصاد السوق، أو الاقتصاد الحر، فالنظرية الكلاسيكية رفضت تدخل الدولة، وقالت باليد الخفية والتوازن التلقائي للاقتصاد. أما النظرية الحديثة فقالت بضرورة تدخل الدولة، لتخفيض سعر الفائدة، ولضبط توازن الأسواق والأسعار.
ظهرت موجة الخصخصة في ثمانينات القرن العشرين، وتخلت الدولة الرأسمالية عما تبقى لها من ملكية دولة، أو ما يسمى بالقطاع العام. وعادت الدول الرأسمالية لسياسة التأميم في الأزمة الأخيرة، وعادت للتملك في القطاع الخاص بشكل مؤقت، من خلال شراء الديون والأسهم من الشركات والمصارف المفلسة، وذلك لكي تنقذ النظام الرأسمالي من الانهيار الكامل.
2- النظام الاشتراكي يتبنى الاقتصاد الموجَّه، أو المخطط مركزياً، والدولة هي الكل في الكل: هي المخطط والمالك والمنفذ والمراقب، والدولة لا تسمح بملكية وسائل الإنتاج من قبل الشركات والأفراد، والدولة تحدد الأسعار والأجور وهي تحقق التوازن الاقتصادي وليست اليد الخفية التي يدّعيها النظام الرأسمالي هي من يحقق التوازن.
3- النظام الاقتصادي في الإسلام يُدار يحسب الشرع، والشرع يحدد دور الدولة ودور الأفراد، والشرع ينص على ما يجوز عمله وما لا يجوز، والشرع يحدد متى تتدخل الدولة وكيف تتدخل، والدولة راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، وكل ما يدخل تحت باب الرعاية تقوم به.
4- أسباب الأزمة ليست تقنية فحسب بل هي أزمة نظام اقتصادي رأسمالي بدأ يلفظ أنفاسه، وأزمة نظام مالي انكشف عواره، وأزمة فكر رأسمالي سقط سقوطاً مدوياً.
5- يضاف إلى ما سبق وجود أزمة أخلاق يعيشها المجتمع الأميركي وباقي المجتمعات الغربية خلال ممارسة التجارة والمضاربة بأموال الناس، وممارسة الصفقات الاحتيالية والرشوة والقمار وتزوير المستندات في تصنيف الديون، وفي إعداد القوائم المالية والحسابات الختامية، وفي التدقيق والمراجعة والتقارير المالية السنوية، وفي إدارة هذا الكازينو العالمي العملاق.
6- من الخطأ قول البعض: إن البديل جاهز، وهو النظام الاقتصادي في الإسلام، بل القول إن الأصيل جاهز، وهذا الأصيل ليس قطعة من قطع الغيار مخزونة في المخازن والمستودعات في حالة انتظار لنجدة الأنظمة الأخرى حينما تفشل في أداء مهمتها، فيهرول أصحاب هذا النظام في حالات الطوارئ لإسعاف النظام المأزوم، ثم يُعاد مرة أخرى للمخازن، وفوق الرفوف، وفي داخل الأدراج.
أسباب الأزمة المالية العالمية وكيفية حصولها:
يوجد نوعان من الاقتصاد حسب التصنيف العلمي. الأول: الاقتصاد الحقيقي(أصول عينية: أراضٍ، مصانع، سلع، خدمات). والثاني: الاقتصاد المالي (سندات، كمبيالات، شيكات،عملات،أسهم، صكوك).
ظهر مفهوم جديد اسمه الأصول المالية. ومع تطور عالم الأعمال تم تحويل الأصول العينية إلى أصول مالية بواسطة التوريق، أو التسنيد securitization))، أي تحويل الأصول الثابتة (العقارات، السيارات، الآلات) إلى أصول متداولة: (سندات وأسهم ونقود)، أي قروض مالية. وقد حصلت الأزمة في النوع الثاني( الأصول المالية) من خلال المتاجرة بالأوراق والديون.
دور المصارف العقارية في الأزمة: قامت المصارف والشركات المالية والمكاتب العقارية بتقديم القروض لشراء المنازل، وذلك من قبل ذوي الدخل المحدود حيث يوقع طالب القرض سندات بفوائد مرتفعة بعد برمجة الدفعات الأولى بفوائد متدنية.
يبقى البيت مرهوناً للمصرف حتى يكتمل التسديد ومن هنا جاء مصطلح الرهن العقاري.
تم تصنيف هذه الرهونات العقارية بالرهون الأقل جودة وباللغة الإنجليزية تُعرف بال (Subprime). وهذا التصنيف يدل على أن هذا الاستثمار محفوف بالمخاطر
قامت المصارف العقارية بالمخاطرة الثانية وهي تجميع السندات التي تجمعت في محافظها المالية ورهنتها لمصارف أخرى وذلك بإصدارها أوراقاً مالية جديدة بضمان المحفظة، وهو ما يسمى التوريق أو التسنيد. هذه الموجة الثانية من المشتقات المالية زادت المخاطر التي واجهتها المصارف.
استمرت موجات بيع المشتقات المالية من مصرف لآخر حتى وصل التوسع في الإقراض أكثر من ستين ضعف حجم رؤوس أموالها كما حصل مع مصرف (ubs) وكانت الأضعاف أكثر مع بنك ليمان براذرز.
غابت الرقابة الرسمية عن المؤسسات المالية الوسيطة بسبب كون المصارف التجارية تخضع لرقابة المصارف المركزية، أما المصارف العقارية والاستثمارية وسماسرة الرهن العقاري والهيئات التي تُصدر شهادات الكفاءة الائتمانية فإنها لا تخضع للرقابة، وهذه ثغرة استُغلَّت من قبل الجشعين.
دور صناديق التحوُّط في الأزمة: هي صناديق للنخبة لا تُفتح لعامة الناس بل للأثرياء فقط، وكل صندوق يستوعب 500 مستثمر، والحد الأدنى لرسم الاشتراك فيه مليون دولار، أتعاب المدير تصل إلى 1-2% من قيمة الأصول، إضافة إلى20% من الأرباح، وهو لا يخضع للرقابة التي تخضع لها الصناديق الاستثمارية العادية.
السيولة النقدية الهائلة والكسب السريع جعل هذه الصناديق أكثر انتشاراً، فسيطرت على ثلث مداولات الأسهم، كان حجم أصولها عام 2006م ما قيمته:(2 تريليون) دولار.
كانت للمخاطر التي حصلت في أميركا ثلاثة أوجه:
1- مضاعفة الإقراض. 2- مضاعفة المخاطر من المشتقات. 3- نقص الرقابة الرسمية.
ماذا حصل على صعيد المقترضين لشراء البيوت؟
ارتفعت قيمة العقارات فقاموا بأخذ قروض جديدة تعادل فرق السعر الذي حصل للبيوت، وذلك بضمانة رهن جزء من قيمة البيت يعادل المبلغ المقترض. قام المقترضون بصرف ذلك القرض على أمور استهلاكية وسياحية وشراء سيارة فتراكمت الديون وفوائد الديون على المقترضين.
صُنِّفت هذه الرهونات من الدرجة الثانية، وهي معرضة للمخاطر إذا انخفضت قيمة العقارات، وهذا ما حصل فيما بعد، ولم يعد البيت يشكل ضمانة للقرض الأول ولا للقرض الثاني ولا للمشتقات المالية التي صنعها المصرف المقرض مرتين، وغيره عدة مرات.
هناك شرط في عقود الإقراض يقول: “إن سعر الفائدة سيرتفع كلما رفع البنك المركزي أسعار الفائدة”. وهناك بند يقول:” إذا تأخر المقترض عن دفع أي قسط من الأقساط فإن الفائدة تتضاعف ثلاث مرات.
هناك فقرة في العقد تقول: “إن المدفوعات الشهرية خلال السنوات الثلاث الأولى تذهب كلها لسداد الفوائد”.
رفع البنك المركزي الأميركي أسعار الفائدة فارتفعت الدفعات الشهرية، ثم ارتفعت أسعار الفائدة مرة أخرى فارتفعت مبالغ الأقساط التي يتوجب على المقترضين دفعها حتى أصبحت فوق قدرات المقترضين على الدفع فتوقفوا عن الدفع.
تراكمت الفوائد والغرامات الزائدة على المقترضين بسبب تلكئهم في الدفع وعدم كفاية رواتبهم لتسديد ما تزايد من فوائد وغرامات تأخير.
قرر بعض المقترضين التوقف عن الدفع وتحمل كل تبعات هذا القرار، وقرر آخرون ترك منازلهم للمصارف واستئجار بيوت بديلة؛ ففقدت المصارف الدفعات الشهرية، وهي عاجزة عن بيعه مرة ثانية بسبب جمود سوق العقارات وانخفاض الأسعار؛ فلم تعد البيوت المرهونة ضمانة للدفع، بل تحولت عبئاً عليها.
قبل انخفاض أسعار البيوت، وقبل توقف المقترضين عن الدفع، قامت المصارف المقرضة ببيع السندات التي هي أثمان للبيوت إلى مستثمرين من داخل أميركا ومن خارجها، ومن ضمنهم مستثمرون عرب وخليجيون، وأخذت تلك المصارف مبالغ أكثر من قيمة السند تحت ذريعة العمولات ورسوم خدمات.
استطاعت المصارف الأميركية وبعض المصارف الأوروبية تحويل جزء من المخاطر إلى مستثمرين من خارج أوروبا وأميركا مثل تركيا وأوستراليا وبعض دول الخليج.
بداية إشهار الأزمة كانت حين قام أعرق مصرف وهو (ليمان براذرز) بإعلان الإفلاس الوقائي. ساهم في تفاقم الأزمة تدهور أسعار الأسهم في أسواق المال، وكانت المصارف الرائدة في انهيار الأسهم بنك (UBS) وبنك ((HSBC وبنك (Barklaze) لأنها كانت الأكثر تضرراً من الأزمة.
بدأ الهلع يفعل فعله، وبدأ البيع الهستيري، علّقت 70 شركة عقارية أميركية عملياتها وأعلنت إفلاسها. وانتشرت العدوى في كافة البورصات العالمية بنسب مختلفة، وبدأت محاولات العلاج ولكنها للإسعاف والتهدئة وبث روح الثقة في النظام المالي العالمي، وخاصة الأميركي والأوروبي، فنجحوا في منع الانهيار الكامل.
بوادر الأزمة بدأت عام 2007م
كل المؤشرات تدل على أن بوادر الأزمة بدأت عام 2007م، وأن الانهيار لم يحصل فجأة، وكل الخبراء والاقتصاديين والسياسيين داخل أميركا وفي بلدان أخرى كانوا يحسّون بإرهاصات مخيفة تحوم حول الاقتصاد الأميركي، وحينما حصل أول إفلاس (ليمان براذرز) انهار النظام الهش. وفيما يلي مجموعة من الأزمات الصغيرة التي كانت تؤشر على قدوم الخطر الأكبر:
1- في شباط/ فبراير عام 2007م: الولايات المتحدة تشهد ارتفاعاً كبيراً في عدم قُدرة المقترضين على دفع مستحقات قروض الرهن العقاري، ما أدّى إلى أولى عمليات إفلاس مؤسسات مصرفية متخصصة.
2- في حزيران/ يونيو عام 2007م: مصرف الاستثمار الأميركي Bear Stearns، هو أول مصرف كبير يُعاني من خسائر قروض الرهن العقاري.
3- في آب/ أغسطس عام 2007م: البنك المركزي الأوروبي يضخّ 94،8 مليار يورو من السيولة، والخزينة الفدرالية الأميركية تضخّ من جانبها 24 مليار دولار، كما تدخّلت العديد من المصارف الأخرى، مثل بنك اليابان والبنك الوطني السويسري.
4- في أيلول/ سبتمبر عام 2007م: بنك إنجلترا يمنح قرضاً مستعجلاً إلى مصرف Nothern Rock لتجنيبه الإفلاس، وقد تم بعد ذلك تأميمه.
5- في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2007م: مصرف يو بي إس السويسري يُعلن عن انخفاض قيمة موجوداته بـ 4 مليار فرنك.
6- في كانون الأول/ يناير عام 2008م: الخزينة الفدرالية الأميركية تُخفِّض نسبة الفائدة الرئيسية بثلاثة أرباع النقطة، لتصل إلى 3،50%، وهو إجراء وصفه الخبراء بأنه ذو بُعدٍ استثنائي.
7- في آذار/ مارس عام 2008م: الخزينة الفدرالية الأميركية تقول إنها مستعدّة لتقديم مبلغ يصل إلى 200 مليار دولار إلى مجموعة محدودة من المصارف الكُبرى.
8- في آذار/ مارس عام 2008م: العملاق المصرفي الأميركي JP Morgan Chase يُعلن شراءه لمصرف Bear Stearns، الذي يعاني من صعوبات، وهي العملية التي حظيت بدعم مالي من طرف الخزينة الفدرالية الأميركية.
9- في تموز/ يوليو عام 2008م: الضغط يشتدّ على مؤسستي Freddie Mac وFannie Mae الأميركيتين المتخصصتين في إعادة تمويل القروض العقارية، والخزينة الأميركية تُعلن عن خطّة لإنقاذ القطاع العقاري.
ولا تزال أزمة الرهن العقاري الأميركية تلقي بتبعاتها على الاقتصاد العالمي، حيث طالت مختلف القطاعات الاقتصادية في أميركا وأوروبا وأدت إلى خسائر مالية يصعب حصرها.
وأُغلق أيضا فيرست هيريتج بنك بفروعه الثلاثة . وبيعت أصول المصرفين المملوكين لشركة فيرست ناشيونال بنك القابضة إلى فروع بنك أوماها، وبلغت قيمة أصول المصرفين 3.6 مليار دولار في نهاية يوليو/تموز منخفضة عما كانت عليه قبل ستة أشهر حيث كانت قيمتها 4.1 مليار دولار.
وأعلن بنك وتشوفيا كورب تكبده خسائر ربع سنوية قياسية في الربع الثاني من هذا العام بقيمة 8.86 مليار دولار.
وفي بريطانيا السباقة إلى الخصخصة تم تأميم بنك نورثرن روك البريطاني للتمويل العقاري والاستغناء عن أكثر من 2000 موظف في إطار جهود الحكومة البريطانية لإخراج البنك من أزمته الطاحنة وخسائره الضخمة من جراء تلك الأزمة . وأعلن رويال بنك أوف اسكتلند (آر بي اس) البريطاني عن خسائر بلغت 691 مليون جنيه إسترليني (1.35 مليار دولار) في النصف الأول من العام الجاري 2008م.
وفي ألمانيا قرر مصرف كوميرتس بنك ثاني أكبر البنوك الألمانية الاستغناء عن تسعة آلاف وظيفة في إطار صفقة شراء منافسه دريسدنر بنك. وبلغت قيمة الصفقة 14.5 مليار دولار فيما يوصف بأنه أكبر عملية إعادة هيكلة في القطاع المصرفي الألماني منذ أكثر من سبعة أعوام. ويبقى الباب مفتوحا أمام مزيد من التداعيات لأزمة الرهن العقاري على أسواق العالم من دون استثناء. وتوقع رئيس صندوق النقد الدولي دومينيك ستراوس حصول مزيد من المتاعب، ووصف وزير الخزانة الأميركي السابق روبرت روبن تلك الأزمة بأنها أسوأ أزمة يمر بها الاقتصاد العالمي منذ الكساد العظيم في ثلاثينات القرن الماضي.
التعليق على الأزمة من الزاوية الشرعية:
قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة 278]. وقال تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة 279]. وقال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) [البقرة 276].
المصارف العقارية تتعامل بالربا، وكذلك شركات التأمين، والمصارف الاستثمارية،
والبورصة، والبنك المركزي الأميركي ، وشركات بيع العقارات، والشركات الوسيطة،
والعقود بين المقترضين والمصارف هي عقود ربوية، والسندات التي يتم بيعها مراراً هي ديون وبيع الديون ربا، فاستحكمت حلقات الربا فأين المفرّ؟
وعن تحريم المتاجرة بالديون، ورد في الحديث الشريف نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم): «عن بيع الكالئ بالكالئ» أي بيع الدين بالدين، والأزمة المالية العالمية تتلخص ببيع الديون، أو القروض، والإسلام يجيز المتاجرة بالمال وليس في المال، حيث حرَّم الإسلام بيع النقود بالنقود ذاتها مع زيادة، وحرّم كنـز المال واحتكاره، ونهى عن حصر تداول المال بين قلة قليلة من الناس (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر 7].
وخلق الله النقود للتداول والتبادل بين كل الناس فقيرهم وغنيهم، قال تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ). وحّرم كنـزهما فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [التوبة 34]. ولكن الأنظمة الوضعية وعلى رأسها النظام الرأسمالي قامت بتحويلها إلى التداول بين عدد محدود من رجال الأعمال، وعدد محدود من المصارف والشركات العملاقة والبورصات، فأصبح التداول بالمليارات محصوراً بين قلة من المؤسسات الغنية العملاقة فخرجت بذلك عن سنن الله.
لقد أثبتت الوقائع المعيشية أن التدابير التي يتخذها الأفراد والجمعيات والحركات والأحزاب ليست بسيطة، لكن الوقائع أثبتت أيضاً أن تدابير الجهات غير الحكومية، أو من هم خارج إطار الدولة هي تدابير آنية ومؤقتة ومحدودة التأثير إذا ما قورنت بتدابير الدول.
مثال افتراضي على ذلك: لو افترضنا أن الجمعيات والأفراد والحركات وأهل الخير تسابقوا في حملة مدروسة ومنسقة لمكافحة الفقر في بلد من البلدان، وبالمقابل قررت الدولة في ذلك البلد تخفيض قيمة عملتها بمرسوم جمهوري، أو ملكي، فماذا يحصل؟
سوف يتحول أصحاب الدخل المحدود إلى فقراء جدد يضافون إلى الفقراء القدامى، ولن تنجح كل محاولات الغيورين للتخفيف من حدة المشكلة، وإذا نجحوا بشقّ الأنفس (وهذا مستبعد)، فإن الدولة قد تتخذ إجراءً ثانياً وثالثاً ورابعاً أكثر تدميراً للاقتصاد وللثروات فيزداد عدد الفقراء، ويزداد الفقير السابق فقراً.
لذلك فإن التغيير الحقيقي الجذري الفعال هو التغيير الذي تقوم به الدول؛ لأنها تمتلك قوة تخطيط وقوة تنفيذ لا يمكن أن يمتلكها الأفراد، أو الجماعات. لكن الدول القائمة في العالم الإسلامي لا تنوي التغيير الجذري، ولا العلاج الجذري، وتكتفي بالترقيع والتخدير، والإلهاء.
كما أن وضع معايير لضبط الأداء المالي والنقدي والاقتصادي لا يشكل ضمانة ولا يشكل حصانة في وجه الإفلاس والانهيار، وذلك بسبب كون البشر هم من يطبق المعايير، والبشر لا يطبقون الكثير من المعايير، وينحرفون أحياناً، ويخونون أحياناً، ويرتشون أحياناً، فالإنسان هو الذي يطبق المعايير، ولا يُتوقع أن يصبح الإنسان الغربي ملاكاً يلتزم بالمعايير في كل الظروف والأوقات، ولا تكفي الإجراءات الرقابية الورقية والحاسوبية إذا لم تقترن بكفاءة الأشخاص المراقبين وأهليتهم لتطبيق ما تم وضعه مسبقاً على الورق.
إن النظام الرأسمالي يحمل بذور فنائه من داخله. وأخطر ما في هذه الأزمة المالية العالمية الحالية أن الدول الغربية، وعلى رأسها أميركا، لا تملك الحلول الجذرية لها؛ لأن الحل لا يأتي من داخل مبدئها وأنظمته، وإنما من خارجه، من مبدأ الإسلام تحديداً، من أنظمته. وهذه لا تطبقها إلا دولة خلافة عالمية تنشر أجنحة الرحمة في كل جنبات العالم بدل ما تنشره الدول الغربية الرأسمالية من شرور.
فإلى الخلافة الراشدة ندعو المسلمين لإنقاذ العالم مما هو فيه، لإنقاذه في الدنيا والآخرة. فليس من إنقاذ للعالم من هذه الأزمة ومن كل أزمات العالم إلا بالخلافة، وهذا تحدٍ نطلقه. قال تعالى: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) [الطور 34].
2008-12-02