فبهداهم اقتده: الطفيل بن عمرو الدوسي (رضي الله عنه)
2008/10/30م
المقالات
2,426 زيارة
فبهداهم اقتده:
الطفيل بن عمرو الدوسي (رضي الله عنه)
«اللهم اجعل له آية تعينه على ما ينوي من الخير» من دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) له
الطفيل بن عمرو الدوسي سيد قبيلة دوس في الجاهلية، وشريف من أشراف العرب المرموقين، وواحد من أصحاب المروءات المعدودين… لا تنـزل له قدر عن نار، ولا يوصد له باب أمام طارق… يطعم الجائع، ويؤمن الخائف، ويجير المستجير. وهو إلى ذلك أديب أريب لبيب، وشاعر مرهف الحس، رقيق الشعور بصير بحلو البيان ومره… حيث تفعل فيه الكلمة فعل السحر.
غادر الطفيل منازل قومه من تهامة متوجهاً إلى مكة، ورحى الصراع دائرة بين الرسول الكريم، صلوات الله عليه، وكفار قريش، كل يريد أن يكسب لنفسه الأنصار، ويجتذب لحزبه الأعوان… فالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، يدعو لربه وسلاحه الإيمان والحق، وكفار قريش يقاومون دعوته بكل سلاح، ويصدون الناس عنه بكل وسيلة. ووجد الطفيل نفسه يدخل في هذه المعركة على غير أهبة، ويخوض غمارها عن غير قصد… فهو لم يقدم إلى مكة لهذا الغرض، ولا خطر له أمر محمد وقريش قبل ذلك على بال.
حدث الطفيل قال: قدمت مكة، فما إن رآني سادة قريش حتى أقبلوا علي فرحبوا بي أكرم ترحيب، وأنزلوني فيهم أعز منـزل. ثم اجتمع إلي سادتهم وكبراؤهم وقالوا: يا طفيل، إنك قد قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي قد أفسد أمرنا ومزق شملنا، وشتت جماعتنا، ونحن إنما نخشى أن يحل بك وبزعامتك في قومك ما قد حل بنا، فلا تكلم الرجل، ولا تسمعن منه شيئاً، فإن له قولاً كالسحر، يفرق بين الولد وأبيه، وبين الأخ وأخيه، وبين الزوجة وزوجها.
قال الطفيل: فوالله ما زالوا بي يقصون علي من غرائب أخباره، ويخوفونني على نفسي وقومي بعجائب أفعاله، حتى أجمعت أمري على ألا أقترب منه، وألا أكلمه أو أسمع منه شيئاً. ولما غدوت إلى المسجد للطواف بالكعبة، والتبرك بأصنامها التي كنا إليها نحج وإياها نعظم، حشوت في أذنيّ قطناً خوفاً من أن يلامس سمعي شيءٌ من قول محمد. لكني ما إن دخلت المسجد حتى وجدته قائماً يصلي عند الكعبة صلاةً غير صلاتنا، ويتعبد عبادة غير عبادتنا، فأسرني منظره، وهزتني عبادته، ووجدت نفسي أدنو منه شيئاً فشيئاً على غير قصد مني حتى أصبحت قريباً منه… وأبى الله إلا أن يصل إلى سمعي بعض مما يقول، فسمعت كلاماً حسناً، وقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا طفيل… إنك لرجل لبيب شاعر، وما يخفى عليك الحسن من القبيح، فما يمنعك أن تسمع من الرجل ما يقول… فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته.
قال الطفيل: ثم مكثت حتى انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل داره دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي عنك كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفونني من أمرك حتى سددت أذنيّ بقطن لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني شيئاً منه فوجدته حسناً، فاعرض علي أمرك. فعرض علي أمره، وقرأ لي سورة الإخلاص والفلق، فوالله ما سمعت قولاً أحسن من قوله، ولا رأيت أمراً أعدل من أمره. عند ذلك بسطت يدي له، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ودخلت في الإسلام.
قال الطفيل: ثم أقمت في مكة زمناً تعلمت فيه أمور الإسلام. وحفظت فيه ما تيسر لي من القرآن، ولما عزمت على العودة إلى قومي قلت: يا رسول الله، إني امرؤ مطاع في عشيرتي، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عوناً فيما أدعوهم إليه، فقال: «اللهم اجعل له آية». فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت في موضع مشرف على منازلهم وقع نور فيما بين عينيَّ مثل المصباح، فقلت: الله اجعله في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا أنها عقوبة وقعت في وجهي لمفارقة دينهم… فتحول النور فوقع في رأس سوطي، فجعل الناس يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية، فلما نزلت، أتاني أبي -وكان شيخاً كبيراً- فقلت: إليك عني يا أبت، فلست منك ولست مني. قال: ولم يا بني؟! قلت: لقد أسلمت وتابعت دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: أي بني، ديني دينك، فقلت: اذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم تعالَ حتى أعلمك ما علمت، فذهب فاغتسل وطهر ثيابه ثم جاء، فعرضت عليه الإسلام فأسلم. ثم جاءت زوجتي، فقلت: إليك عني فلست منك ولست مني. قالت: ولمَ!! بأبي أنت وأمي، فقلت: فرَّق بين وبينك الإسلام، فقد أسلمت وتابعت دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). قالت: فديني دينك، قلت: فاذهبي وتطهري من ماء ذي الشرى -وذو الشرى صنم لدوس حوله ماء يهبط من الجبل- فقالت: بأبي أنت وأمي، أتخشى على الصِّبية شيئاً من ذي الشرى؟! فقلت: تباً لك ولذي الشرى… قلت لك: اذهبي واغتسلي هناك بعيداً عن الناس، وأنا ضامن لك ألا يفعل هذا الحجر الأصم شيئاً. فذهبَتْ فاغتسلت ثم جاءت، فعرضتُ عليها الإسلام فأسلمت. ثم دعوت دوساً فأبطؤوا عليَّ إلا أبا هريرة فقد كان أسرع الناس إسلاماً.
قال الطفيل: فجئت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة، ومعي أبو هريرة فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: «ما وراءك يا طفيل؟» فقلت: قلوب عليها أكنة وكفر شديد… لقد غلب على دوس الفسوق والعصيان… فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتوضأ وصلى ورفع يده إلى السماء، قال أبو هريرة: فلما رأيته كذلك خفت على قومي فيهلكوا… فقلت: واقوماه… لكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه جعل يقول: «اللهم اهدِ دوساً… اللهم اهدِ دوساً… اللهم اهدِ دوساً…». ثم التفت إلى الطفيل وقال: «ارجع إلى قومك وارفق بهم وادعهم إلى الإسلام».
قال الطفيل: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، ومضت بدر وأحد والخندق، فقدمت على النبي ومعي ثمانون بيتاً من دوس أسلموا وحسن إسلامهم فسر بنا رسول الله، وأسهم لنا مع المسلمين من غنائم خيبر فقلنا: يا رسول الله، اجعلنا ميمنتك في كل غزوة تغزوها واجعل شعارنا: «مبرور».
قال الطفيل: ثم لم أزل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى فتح الله عليه مكة، فقلت: يا رسول الله، ابعثني إلى «ذي الكفين» صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه… فأذن له النبي عليه الصلاة والسلام، فسار إلى الصنم في سرية من قومه. فلما بلغه وهمّ بإحراقه، اجتمع حوله النساء والرجال والأطفال يتربصون به الشر، وينتظرون أن تصعقه صاعقة إن هو نال «ذا الكفين» بضر. لكن الطفيل أقبل على الصنم على مشهد من عبَّاده… وجعل يضرم النار في فؤاده… وهو يرتجز:
يا ذا الكفين لست من عبادكا
ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا
وما إن التهمت النار الصنم حتى التهمت معها ما تبقى من الشرك في قبيلة دوس، فأسلم القوم جميعاً وحسن إسلامهم.
ظل الطفيل بن عمرو الدوسي بعد ذلك ملازماً لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه، حتى قبض النبي إلى جوار ربه. ولما آلت الخلافة من بعده إلى صاحبه الصدّيق وضع الطفيل نفسه وسيفه وولده في طاعة خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ولما نشبت حروب الردة نفر الطفيل في طليعة جيش المسلمين لحرب مسيلمة الكذاب، ومعه ابنه عمرو. وفيما هو في طريقه إلى اليمامة رأى رؤيا، فقال لأصحابه: إني رأيت رؤيا فعبِّروها لي. فقالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن رأسي قد حلق، وأن طائراً خرج من فمي، وأن امرأة أدخلتني في بطنها، وأن ابني عمراً جعل يطلبني حثيثاً لكنه حيل بيني وبينه. فقالوا: خيراً… فقال: أما أنا -والله- لقد أوّلتها: أما حلق رأسي فذلك أن يقطع… وأما الطائر الذي خرج من فمي فهو روحي… وأما المرأة التي أدخلتني في بطنها فهي الأرض تحفر لي فأدفن في جوفها… وإني لأرجو أن أقتل شهيداً. وأما طلب ابني لي فهو يعني أنه يطلب الشهادة التي سأحظى بها -إذا أذن الله- لكنه يدركها فيما بعد.
وفي معركة اليمامة أبلى الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي أعظم البلاء، حتى خرَّ صريعاً شهيداً على أرض المعركة. وأما ابنه فما زال يقاتل حتى أثخنته الجراح وقطعت كفه اليمنى فعاد إلى المدينة مخلِّفاً على أرض اليمامة أباه ويده.
وفي خلافة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، دخل عليه عمرو بن الطفيل، فأتي الفاروق بطعام، والناس جلوس عنده، فدعا القوم إلى طعامه، فتنحى عمرو عنه، فقال له الفاروق: مالك؟! لعلك تأخرت عن الطعام خجلاً من يدك، قال: أجل يا أمير المؤمنين. قال: والله لا أذوق هذا الطعام حتى تخلطه بيدك المقطوعة… والله ما في القوم أحد بعضه في الجنة إلا أنت، يريد بذلك يده.
ظل حلم الشهادة يلوح لعمرو منذ فارق أباه، فلما كانت معركة اليرموك بادر إليها عمرو مع المبادرين، وما زال يقاتل حتى أدرك الشهادة التي مناه بها أبوه.
رحم الله الطفيل بن عمرو الدوسي، فهو الشهيد وأبو الشهيد.
2008-10-30