الدعوة إلى الإسلام (21)
1993/12/28م
المقالات
2,087 زيارة
انتهاك الحرام بحجة المصلحة
فرض الشرع أموراً وحرّم أخرى، ولم يسمح للناس أن يعدّلوا أو يبدّلوا أو يحرفوا. وقد وضع الشارع الحكيم رخصاً حيث علم أن الناس قد يحتاجون إلهيا. وحيث لم يضع رخصة فهو لم يسمح للناس أن يتفلتوا من الحكم حتى لو زينت لهم أهواؤهم وشياطينهم هذا التفلت باسم المصالح. والذي يبيح ترك ما فرض الله وانتهاك ما حرّم الله… دون رخصة من الله هو كافر أو جاهل فاسق. وقد حذرَنا الله بقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
لقد استدلوا بالمصلحة على جواز المشاركة في الحكم.
فقد نقلوا تعريف المصلحة بأنها وصف للفعل يحصل به الصلاح أي النفع منه دائماً أو غالباً للجمهور أو للآحاد. ويقولون إن العلماء استقرؤوا الشريعة، فهداهم استقراؤهم إلى أن الشريعة وضعت لمصالح العباد في المعاش والمعاد.
وذكروا المصالح المرسلة وما تقوم عليه. ولكنهم قالوا أن الاشتراك في الحكم ليس من قبيل المصالح المرسلة لأن النصوص الصريحة جاءت قاطعة في تأثيم المشارك في الحكم الجاهلي. والاستدلال هنا يعود إلى ترجيح خير الخيرين، وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناها ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناها.
وقالوا: هذا مسلك في الشريعة واضح المعالم. فالإسلام حرم الخمر والميسر مع نصه على أن فيهما للعباد نفع، ولكنه نفع قليل ترجح به المفسدة العظيمة التي في الخمر والميسر.
وأوجب الشرع القتال على الرغم مما فيه من إزهاق لنفوس المؤمنين، وإذهاب لأموالهم لأن القتال فيه مصالح عظيمة محبوبة للرب تبارك وتعالى وفيه مصالح عظمية تحصل للعباد.
وفي المسيرة الإسلامية كان الحكام والعلماء يراعون هذا المنهج أثناء حركتهم بالإسلام فالرسول ﷺ ترك هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم على الرغم مما في ذلك من المصالح الدينية لأن المفسدة التي ستترتب على ذلك أكبر من المصلحة التي ستترتب على تصحيح بناء الكعبة. وقال لزوجه عائشة: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر، لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم».. وهكذا..
ومن هذا المنطلق يقولون: لا شك في أن في المشاركة في الحكم الجاهلي مفاسد عظيمة. فهذه الحكومات إنما تقيم حكم الطاغين، وتحادّ الله في أمره، وتنازعه في حكمه (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) (وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا). ومع ذلك يقولون: إن الحركة قد ترى في بعض الأحوال أن المشاركة في الحكم تحقق للإسلام والمسلمين والحركة الإسلامية نفعاً كبيراً. بل قد تؤدي إلى إزاحة الطاغوت وإقرار الحق. ولننقل لهم بعض كلماتهم في ذلك لنفهم رأيهم على حقيقته، وليفهم الأخ القارئ المدى الذي ذهبوا إليه في بعدهم عن طريقة التفكير الشرعية حين يتم نقض هذه الطريقة، وبالتالي هذا الرأي، فهم يقولون:
– وان مشاركة المسلم في الحكم الجاهلي يوقعه في تناقض كبير. فالمسلم مطالب بأن يحارب هذه الدول الطاغوتية فكيف يكون هو المقيم لهذا الحكم الطاغوتي. وقد عجب الله من حال الذين يزعمون أنهم آمنوا ثم هم بعد ذلك يتحاكمون إلى الطاغوت. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاًلاً بَعِيدًا).
– وإن طاعة الطواغيت فيما يشرعونه مخالفين أمر الله تعني اتخاذ المطيع لهم أرباباً من دون الله كما قال الحق في شأن أهل الكتاب: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا) وقد بيّن الرسول ﷺ لعدي بن حاتم أن معنى هذا الاتخاذ هو طاعتهم في تحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله.
– وقد عهدنا حكام اليوم أنهم يتخذون من يستوزرونهم من المسلمين الصالحين زينة يحلون بها حكمهم القبيح ويدلسون بذلك على السذج والعوام فيقولون لو كنا على الباطل لما قبل فلان مشاركتنا في الحكم.
– ويزداد الطين بلة عندما يمررون من خلال الوزير المسلم القوانين الجائرة الظالمة، وبعد أن يحققوا من ورائه أهدافهم الخبيثة ينبذونه نبذ النواة.
– وفي المشاركة في الحكم ركون إلى الذين ظلموا. وقد حذرنا الحق من ذلك فقال: (وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ).
وفي المشاركة في الحكم إطالة لأمد الحكم الجاهلي.
– وحسبنا أن المشترك في الحكم يدخل في الذين قال الله فيهم: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ)، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ)، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ).
محل ذلك غير خاف على رواد الحركة ودعاتها. وصراحة الآيات ودلالاتها لا تخفى على ناظر. ويضيفون، ومع ذلك نقول: إن الحركة قد ترى في بعض الأحوال أن المشاركة في الحكم تحقق للإسلام والمسلمين والحركة الإسلامية نفعاً كبيراً. بل قد تؤدي إلى إزاحة الطاغوت وإقرار الحق. ويمكننا أن نلخص المصالح التي قد تترتب على مشاركة الحركة الإسلامية في الحكم في النقاط التالية:
1- درء المكائد عن الحركة الإسلامية بالاطلاع على ما يجري في الخفاء والعمل على إفشاله.
2- إعطاء النموذج على أن الجماعة قادرة على قيادة الناس وليست جماعة من الدراويش.
3- إعادة الثقة بالإسلام بأنه قادر على تنظيم شؤون الحياة الخاصة والعامة.
4- زيادة خبرة الجماعة في طرق إدارة الحكم.
5- تعرف الحركة على النظام القائم اتقاء لشره.
6- تدريب وتعليم الكوادر الإسلامية المتخصصة عن طريق البعثات التي تنظمها الوزارات.
7- إيجاد مجموعة من أفراد الجماعة الإسلامية من أصحاب الجاه عند الناس. وهؤلاء يحلون كثيراً من الاشكالات للجماعة وأفرادها.
8- زيادة المراكز الإسلامية ومحاربة المراكز الكافرة.
9- تدريب الكوادر الإسلامية على السياسة ودفع ألاعيبها.
10- الاستفادة من هيبة السلطة لمصلحة الجماعة.
11- وإذا امتنعت الجماعة عن المشاركة قد يكون البديل المشارك هم الأعداء الذين يسخرون كل إمكاناتهم لمحاربة الحركة الإسلامية أو للقضاء على الإسلام والمسلمين.
نعم لقد تناولت رأيهم بشيء من التفصيل مع أن المقام هو مقام رد عليهم وليس نقلاً لرأيهم؛ وذلك حتى يفهم على حقيقته بشكل واضح، وليرى مدى التجروء على دين الله في إصدار الفتاوى التي تغضب ساكن السماء والأرض من المؤمنين عن غير ما ارعواء لحق الله تعالى، ولا تقيد بأمره، وليرى المسلم مدى مصادمتها للأحكام الشرعية القطعية التي لا يجوز مسها بأي حال من الأحوال، وليرى مدى بعدهم عن التقيد بطريقة الإسلام الصحيحة في الاستنباط، واختراع طريقة جديدة ظهرت بوادرها أيام انحطاط المسلمين وتأثرهم بطريقة الغرب في التفكير، وليتم تتبع أفكارهم بالتفصيل وردها، وطريقة تفكيرهم ودحضها.
وليس أدلّ على فساد هذه الطريقة في الاجتهاد من الأحكام التي طلعوا بها بواسطتها.
فإذا كان الحكم الشرعي الواضح القطعي والذي لا يجوز فيه الاجتهاد، أنه لا يجوز التعامل بالربا لتحريم الله الصريح له بقوله سبحانه: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) وكذلك جاءت القرائن الشرعية القطعية لتغلظ القول فيه حيث يقول تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) وكذلك حذر الله سبحانه المتعاملين بالربا وأنذرهم إنذار حرب فقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ @ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ… ) ووصف من يأكل الربا بقوله: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ) هذا وقد عدّه رسول الله ﷺ من الموبقات وقرنه مع الشرك بالله حيث قال: «اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: وما هي يا رسول الله، قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» متفق عليه.
ومع ذلك نراهم قد طلعوا، بحسب هذه الطريقة أن التعامل بالربا جائز ولكن بشروط. أين ذهب التحريم القطعي الصريح؟ وأين ذهب الإنذار والوعيد؟ إنهم بطريقتهم هذه يميّعون الحكم الشرعي، ويجعلون التساهل في أمور الدين أمراً طبيعياً وشيمة عند المسلم.
وكذلك فإن (الحكم بما أنزل الله) فرض. ويجب إفراد الله في حكمه وهذا بشهادتهم. ومع ذلك فإنهم طلعوا، بحسب هذه الطريقة المتبدعة أنه يجوز للمسلم أن يشارك بحكم الطاغوت، تحت أسباب وظروف، مع بقاء الأصل على أصله. انظروا إلى ما نقل عنهم في موضوعنا لنتبيّن كم حاد عن الصواب أولئك الذين يصفون أنفسهم بأنهم روّاد الحركة الإسلامية وعلماؤها مع أن الرائد لا يكذب أهل. إنهم يقولن:
– لا شك في أن المشاركة في الحكم الجاهلي مفاسد عظيمة. فهذه الحكومات إنما تقيم حكم الطاغين وتحادد الله في أمره وتنازعه في حكمه.
– إن مشاركة المسلم في الحكم توقعه في تناقض كبير. فالمسلم مطالب بأن يحارب الدول الطاغوتية، فيكف يكون هو المقيم لها.
– إن طاعة الطواغيت فيما يشرعون مخالفين أمر الله تعنى اتخاذ المطيع لهم أرباباً من دون الله.
– إن حكام اليوم يتخذون من يستوزرونهم من المسلمين الصالحين زينة يحلّون بها حكمهم القبيح.
– إن حكام اليوم يمررون من خلال الوزير المسلم القوانين الجائرة الظالمة.
– إن حكام اليوم بعد أن يحققوا من وراء الوزير المسلم أهدافهم الخبيثة ينبذونه نبذ النواة.
– إن في المشاركة في الحكم الجاهلي ركوناً إلى الذين ظلموا.
– إن في المشاركة في الحكم الجاهلي إطالة لأمده.
– ويدخل المشترك في الحكم بغير ما أنزل الله في الذين قال الله فيهم أنهم (الْكَافِرُونَ)، (الظَّالِمُونَ)، (الْفَاسِقُونَ) ومع كل هذا الذي ذكروه، وغيره مما سنذكره طلعوا برأيهم هذا. فأية جرأة يتجرؤها هؤلاء على الدين الله؟! والذي يزيد الطين بلة أنها ليست مخالفة لأمر الله، بل هي دعوة لمخالفة أمر الله. وفي هذا إثم عظيم.
والآن بعد هذا السرد لكل هذه المخالفات الشرعية نتساءل: ما الذي سيحققونه إذا هم قاموا بالمشاركة؟. لقد ظننا أنهم بعد سردهم لمحاذير هذه الدعوة سيذكرون مصالح عظيمة هائلة ـ غفل عنها الشرع، وفطنوا هم لها ـ تستحق حسب منطقهم المرفوض، وطريقتهم العقيمة في التفكير هذه المخالفة للشرع، وهذه المناصرة لأعداء الله. لقد تمخض فكرهم الفذ، الذي تبوأ مركز التشريع في هذه المسألة، ليخرجوا للمسلمين بنتائج لا تفيد الدعوة، ولا تقرب المسلمين من الحق، وبالتالي من النصر، ولا تغيّر واقعاً. بل إن المردود سيكون عكسياً. وقد جاء الواقع ليكون شاهداً عليهم.
لقد سموا أحد عشر بنداً قالوا إنها مصالح عظيمة سَتُحَقَق جرّاءَ المشاركة في الحكم الجاهلي، وهي التي تدفعهم إلى المخاطرة بوعيد الله بها أنها أظهر الأسباب. فبالله عليكم انظروا إليها وتأملوا كم هي أسباب صغيرة تافهة أمام المعصية الكبيرة التي يقترفونها. ولنستعرضها مع بعض التعليق.
– زيادة خبرة الجماعة في طرق إدارة الحكم.
– تدريب الكوادر الإسلامية على السياسة ودفع ألاعيبها.
– تدريب وتعليم الكوادر الإسلامية المتخصصة عن طريق البعثات التي تنظمها الوزارات.
ثلاثة بنود تتعلق بموضوع واحد. وكان الأولى أن تصاغ في بند واحد. إلا إذا أريد من الإكثار من البنود إظهار كثرة المؤيدات لكلامهم. هذا مع العلم أن الأمر غير متعلق بكثرة الكلام بل بصوابيته. فهل تستحق مثل هذه البنود أن يخالف المسلم أمر ربه من أجلها؟ أليس من طريق أخرى، ليس فيها غضب الله، تستطيع الحركة من خلالها أن تدرب شبابها وتزيد خبرتهم؟ وهل الطريق الشرعية تفتقد لمثل هذا الإعداد؟ إن الحركة الإسلامية تندما تخوض العمل السياسي بشكل شرعي ومتقيد بطريقة الرسول ﷺ تزداد خبرة واطلاعاً على واقع الحكام ومدى ارتباطهم بالدول الكافرة وعلى ألاعيبهم وعلى أساليبهم الماكرة. فهل صار ليس في مقدور الداعي أن يجعل شارب الخمرة يترك شربها إلا إذا دخل الخمارة وإلا إذا شربها أمامه ثم تركها ليقنعه أنه يستطيع تركها. لله كم هي ضعيفة تلك العقول التي أنجبت مثل هذه الأفكار. فكيف تسمح لنفسها أن تبدل في شرع الله!
كذلك فقد ذكروا البنود الثلاثة التالية:
– تعريف الحركة الإسلامية على النظام القائم اتقاء لشره.
– درء المكائد عن الحركة الإسلامية بالاطلاع على ما يجري في الخفاء والعمل على إفشاله.
– إذا امتنعت الجماعة عن المشاركة قد يكون البديل هم الأعداء الذين يسخرون كل إمكاناتهم لمحاربة الحركة الإسلامية وللقضاء على الإسلام والمسلمين.
ثلاثة بنود أخرى تدور حول موضوع واحد. وهو اتقاء شر الأنظمة ودرء المكائد عن الإسلام والمسلمين. فهل فعلاً، ومن باب الواقع الذي تجاريهم في طرحه ـ من غير موافقة ـ لنجعلهم يدينون أنفسهم بأنفسهم، هل فعلاً يدرأون الخطر عن الأمة وعنهم، عن طريق المشاركة في الحكم بغير ما أنزل الله؟ هم بلسانهم يقولون إن الحاكم إنما يستوزر المسلم ليطيل عمر نظامه، وليمرر عن طريقه مخططاته، وليحسن صورته أمام الناس، ثم إنه وبعد أن يحقق ما يريد ينبذ الوزير المسلم نبذ النواة. فأين اتقاء الشر ودرء المكائد؟ إن النظام الذي يدخله هؤلاء المسلمون لن تتجمل صورته بدخولهم ستتشوه صورتهم هم وسيعطي الناس حكماً واحداً على النظام وعلى من يشارك فيه.
وكذلك فقد ذكروا البندين التاليين واللذين كان الأولى بهما أن يجعلوهما بنداً واحداً.
– إعطاء النموذج على أن الجماعة قادرة قيادة الناس.
– إعطاء الثقة بالإسلام بأنه قادر على تنظيم شؤون الحياة العامة والخاصة.
إنه لن يكون في مقدور الجماعة أن تعطي هذه الصورة. بل لقد أعطت مثلاً سيئاً ونموذجاً لا يحتذى. وكان الواقع أكبر دليل. ولولا أن هناك حركات إسلامية مخلصة وواعية، قامت بوجه هذه الدعوات، وعلماء مسلمين غيورين لسقط الإسلام من النفوس نتيجة للتصريحات والمواقف التي يصرحها ويقفها أصحاب هذه الطروحات في تأييدهم للأنظمة ومناصرتهم لها، ولله كم هو الفرق عند الله، وعند عبادة بين حركة أو عالم يعيش في رخاء الأنظمة، وتحيط به هالة الزعامة المزعومة، وينفخ صدره من هواء التبجح بالأنظمة الفاسدة وبين حركة أو عالم يقول الحق ويقوم به لا يخالف في الله لومة لائم، فهو قابع في زنازين الحكام الذين يشاركونهم يتذكرون قول الله الذي لا ينساهم حيث يقول سبحانه: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ)، (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) فهل يستويان مثلاً.
وكذلك فقد ذكروا البنود الثلاثة الأخيرة والتي كان يمكن اختصارها ببند واحد. فقالوا:
– إيجاد مجموعة من أفراد الجماعة، من أصحاب الجاه عند الناس. وهؤلاء يحلون كثيراً من الاشكالات للجماعة وأفرادها.
– زيادة المراكز الإسلامية ومحاربة المراكز الكافرة.
– الاستفادة من هيبة السلطة لمصلحة الجماعة.
إن مثل هذه البنود لتدلل على ضآلة أحلام القائلين، وهل تستحق مثل هذه النتائج المخاطرة برضا الله وتحمل وصفه لهم بأنهم ظالمون، فاسقون، مناصرون للظلمة؟ وليحققوا ما تستطيع الحركة أن تحققه بعيداً عن كل هذا. إننا لا نوافقهم على أن كل هذه النتائج ستحقَق للحركة إن هي عصت الله وشاركت في الحكم الجاهلية بل أن المردود سيكون عكسياً على الحركة، وعلى الدعوة بشكل عام وعلى الإسلام.
ولئن ذكر أصحاب هذا الطرح أحد عشر بنداً أو سبباً دفعهم لمثل هذا التصرف. فإننا نستطيع على سبيل المجاراة معهم في طريقة تفكيرهم التي لا تجوز، أن نذكر أكثر منها بكثير تشكل محاذير وموانع لمثل هذا التصرف. ومن ذلك.
– بهذه الطريقة يتعلم مسؤولو الحركة وشبابها النفاق. فهن إذا خَلَوْا إلى الحكام الذين قبلوا مشاركتهم في الحكم قالوا لهم ما يرضيهم. وإذا خَلَوا إلى الناس قالوا لهم قولاً آخر. وعملوا على إقناعهم أنهم إنما يتقربون إلى الحاكم والحكم ليستطيعوا الإمساك به وأخذ زمام المبادرة منه.
– تصبح طروحات الجماعة، متميعة، متساهلة، متهاونة، وكل ذلك على حساب جذرية الطرح والتغيير.
– تجعل النظام يحصي أنفاس الحركة وأتباعها، ويكشف خباياها، ويطلع على أسرارها. وقد يقع على بعض الخلافات بين أعضائها فيعمل على تقويتها وتغذيتها، ليتسنى له أن يقبض على زمامها، وشقها عندما تدعو الحاجة.
– اقتصار الدعوة عند هذه الجماعة إلى الأحكام التي لا تشكل خطراً على النظام، والسكوت عن الأحكام المصيرية، مما يعطي صورة غير صحيحة عن الدعوة وعن الإسلام.
– عندما يسمح النظام للحركة الإسلامية التي تعمل من خلاله بإقامة المؤسسات التي يريدون العمل من خلالها، يصبحون أسرى هذه المؤسسات وأسرى الخوف من وضع النظام يده عليها ومصادرتها. فلا يتحكمون بما يزعج النظام وبالتالي لا يفكرون بالخروج عنه.
– تعطي الحركة الإسلامية عندما تقبل بالمشاركة في الأنظمة الجاهلية المبرر لهذه الأنظمة بضرب الحركات الإسلامية العاملة للتغيير بحسب طريقة الرسول ﷺ على اعتبار أن من يعمل ضد الأنظمة هم أصوليون متشددون، وأن الذي يتعاون معها معتدل، متنور، ومن غريب الأمر أن أصحاب هذه الطروحات المتساهلة الوصولية وضعوا أبحاثاً تشير أنهم بمنهجهم هذا هم المعتدلون الذين يمكن للأنظمة أن تتعاون معهم وأن غيرهم هم المتشددون.
– تغيرت مفاهيم الجماعة الإسلامية بحيث صارت تناسب الأوضاع القائمة. من مثل جواز عدم أخذ الجزية من الكفار الذميين، وجواز عدم تسميتهم بأهل ذمة حتى لا تثار حفيظتهم، ومن مثل قولهم بأن الديمقراطية بضاعتهم وقدْ رُدّت إليهم، ومن مثل جواز التعامل بالربا، ومن مثل جواز المشاركة في الحكم بغير ما أنزل الله.
– إطالة أمد النظام…
– تسقط الإسلام من النفوس، حين يرى الناس أن الإسلام لم يقدم لهم شيئاً من خلال هذه الأنظمة، وخاصة بعد أن وعدهم أصحاب هذه الطروحات بالمن والسلوى. وتظهره أنه كغيره قاصر عن معالجة مشاكلهم بشكل صحيح. والحركة بذلك لا تستطيع أن تعطي عن نفسها أنها نموذج يحتذى… بل تعطي المثل السيئ.
– تفسد شبابها حين يصبح كل همهم في الدعوة هو الدفاع عن تصرفات جماعتهم، إن لم يكن عن تصرفات الحكام والتبرير لهم.
– سكوت الحركة عن الحكام في ضرب واعتقال حملة الدعوة الآخرين إن لم يكن مهاجمتهم إرضاء للحكام أو بحسب طلبهم منهم. كما حدث في مصر مؤخراً.
– هذا التوجه يجعل المصلحة هي مقياس الأعمال عند الجماعة وليس التقيد بالحكم الشرعي. فما كان يحقق مصلحة نقوم به ولو خالف الشرع مخالفة حادة. فتصبح المصلحة في نظر المسلم منهم أعلى من الشرع. وهكذا… وهناك الكثير من الأسباب غيرها التي تشكل حالقة للدين وللدعوة.
ولقد تناولنا كل ذلك من خلال الواقع، وليس من خلال الأدلة الشرعية لنقول لهم إن طريقة تفكيرهم هذه، حتى على مذهبهم، لم تؤتِ إلا الثمار الخبيثة على الإسلام والدعوة. وهي طريقة تفكير عميقة لا يقرها الشرع.
ونحن ليس من عادتنا، وهذا ما تعلمناه من الشرع، أن ندلل على فساد فكرة ما من الواقع، أو ردّ حكم شرعي رداً عقلياً. ونحن إذا بدأنا الكلام على طريقتهم فلكي ندينهم بأفواههم. ونسقط ما عندهم بميزانهم. ولكننا نعلم، ويعلم معنا كل المسلمين الواعين المخلصين العاملين أن المعوّل عليه وحده في قبول أو عمل أو رفضه إنما هو الشرع وحده. وإذا كان الأمر كذلك فإن ما أوردوه من أدلة شرعية قالوا إنهم يعلمونها وإنها لا تخفى على ناظر ليعتبر كافياً في نقض مذهبهم وفهمهم، ولو كان عندهم المزيد. والمسألة لا تتعلق بمزيد أمثلة بل بطريقة تفكير.
ولن نسمع لهم بالقول إنهم يعرفونها، فلا حاجة لتذكيرهم بها. وأنهم رغم معرفتهم بها لم يأخذوا بها لأسباب ذكروها. فإن ذلك لا يجوز، وفيه تجروء على الدين، وتهاون بأحكامه الصحيحة القطعية. وأما ما تمثلوا به من أقوال لبعض العلماء لتأييد فكرتهم. فهي فضلاً عن أنها أمثلة غير منطبقة على واقع ما يدعون إليه، فإن أقوال العلماء ليست بحجة شرعية. فكل عالم يؤخذ منه ويرد عليه. والاعتبار لقوة الدليل وصحة الاستدلال. فإذا قالوا: قال العالم الفلاني نقول لهم: قال الله ورسوله، قولاً صحيحاً، قطعياً غير منسوخ. فهل يجوز أن ننسخ كلام الله ورسوله بفهم أشخاص كائناً من كانوا. لقد طغت فكرة المصلحة على أصحاب هذا الطرح حتى صار يصح القول فيهم بأنهم تجار الدعوة. ولكن وللأسف فإن التاجر يتاجر لكي يربح لا لكي يخسر. على أن التاجر الصدوق الذي يراعي الحكم الشرعي يحشر مع النبيين والصدّيقين.
ويظهر فساد تفكيرهم كذلك من ناحية أخرى. وذلك حينما يعتمدون على طريقة في القياس غير شرعية وتعتمد على فلسفة النص الشرعي فلسفة عقلية تقوم على الترجيح المصلحي ليطلعوا من خلاله باستنباط جديد لم يعهد عند الأمة الإسلامية، ولا عند علمائها، من قبل. وقد تركوا طريقة الاستنباط الصحيحة التي أرشد إليها الرسول ﷺ وسار عليها كل علماء الأمة من السلف الصالح وكل من تبعهم بإحسان. وهذه الطريقة الشرعية الصحيحة المنضبطة لم يُرَ لها أي أثر في أي بحث من أبحاثهم. لقد جروا على طريقة الغرب في القياس العقلي وتوخي المصلحة. وصح فيهم حديث الرسول ﷺ: «إنه من يعشّ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل محدثة بدعة. وكل بدعة في النار». ولندخل في صلب الموضوع:
يقولون: إن الإسلام حرم الخمر والميسر مع نصه على أن فيهما للعباد نفعاً، ولكنه نفع قليل، ترجح به المفسدة العظيمة التي في الخمر والميسر.
وأوجب الشرع القتال على الرغم مما فيه من إزهاق لنفوس المؤمنين وإزهاق لأموالهم. لأن القتال فيه مصالح عظيمة محبوبة للرب تبارك وتعالى وفيه مصالح عظيمة تحصل للعباد.
والرسول ﷺ ترك هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم على الرغم مما في ذلك من المصالح الدينية. لأن المفسدة التي ستترتب على ذلك أكبر من المصلحة التي ستترتب على تصحيح بناء الكعبة.
وبناء عليه يقولون: لا شك في أن في المشاركة في الحكم الجاهلي مفاسد عظيمة. ولكن الحركة قد ترى في بعض الأحوال أن المشاركة في الحكم تحقق للإسلام والمسلمين والحركة الإسلامية نفعاً كبيراً. بل قد تؤدي إلى إزاحة الطاغوت، وإقرار الحق…
لقد طرحوا فكرتهم نفسها من زاوية ثانية، مما يدل على أن طريقتهم في التفكير متأصلة في نفوسهم.
إن فهم النصوص بهذا الشكل، والخروج منها بأحكام غير معهودة في الإسلام إلا منذ عصور الانحطاط. وقد رأيناها تقوى وتشتد في العصر الحالي عصر التأثر بالثقافة الغربية القائم على القياس المصلحي. فبينما كان علماؤنا الأوائل يسيرون على أصول الإسلام المنضبطة التي فرضتها طبيعته، والتي تقوم على التقيد بأمر الله في كل أمر من دون أن يكون للإنسان أدنى مدخل في التشريع كما سنبيّن ذلك لاحقاً إن شاء الله، وجدنا أن المسلمين، وبحسب هذه الطريقة المحدثة المبتدعة قد فتحوا لأنفسهم مدخلاً للتشريع وولجوا منه. وسمحوا لعقولهم أن تقدر المنافع والمضار المتعلقة بأي فعل يريدون أن يقوموا به. فإذا غلبت عندهم، من الناحية العقلية، المنافع على المضار كان المطلوب القيام بالفعل. وإذا غلبت المضار على المنافع كان المطلوب ترك الفعل وبحسب هذه الطريقة المحدثة المبتدعة يصبح المسلم مشرّعاً إذ أنه يباشر بنفسه وبعقله تقدير المصلحة.
وقد اعتمدوا على فلسفة النصوص بهذه الصورة المذكورة ليصلوا من خلالها إلى معرفة حكم الفعل. وهذه الطريقة هي نفسها الطريقة المعتمدة في الغرب. فالغرب يعتمد على مثل هذه العقلية.
على أن هذه الطريقة تجعل المصلحة هي معبود المسلم لا أمر الله. بدليل أنه إذا تعارضت المصلحة عندهم مع الحكم الشرعي الواضح الدلالة، ترك الحكم الشرعي وأحلّ محله الحكم المبني على المصلحة.
إن التعامل مع النصوص الشرعية له أصول محددة، يبقى المسلم، وهو سائر بحسبها، عبداً لله، مطيعاً لأمره. ويكون الحكم الذي استنبط بحسب الطريقة الصحيحة في الاستنباط هو حكم الله تعالى. وذلك لا يكوه إلا عندما يعتمد قياسه على وجود العلة المنصوص عنها في الشرع.
فتحديد الخير والشر، والحسن والقبح لله وحده. وليس ذلك للإنسان أبداً. ولو كان للإنسان لكان أعطي صلاحية التشريع منذ البداية. ولما تدخلت الشريعة في تفصيلات الأحكام. ولكان مطلوباً منه أن يؤمن بالله الخالق ولم يكن مطلوباً منه أن يؤمن بالله كمدبر لأمره، منظم لحياته.
إن آلاف الكتب المؤلفة في عصور المسلمين تعتمد على الطريقة الشرعية في الاستنباط وقد استطاع فقهاؤنا الأوائل حل كل مشاكلهم بواسطتها. فهي طريقة عملية ميسورة لمن أوتي علمها وتقيد بأصولها.
ويكفي دلالة على فساد هذه الطريقة أنها طلعت بأحكام تعارض أحكام الشرع الواضحة. وأنها لو كانت طريقة صحيحة لوافق أحكامها أحكام الشرع. وهذا ما يدلل على أنها طريقة خاطئة بحد ذاتها وكذلك هي خاطئة من حيث الأثر الذي أحدثته. ولعل بعض الأمثلة تساعد على جلاء الموضوع أكثر:
– إن حمل الدعوة بشكل شرعي يقتضي الصراحة والجرأة والقوة والفكر. وتحدي كل ما يخالف الإسلام ومجابهته لبيان زيفه، بغض النظر عن النتائج، وعن الأوضاع. ويقتضي أن تكون السيادة المطلقة للمبدأ الإسلامي بغض النظر عما إذا وافق جمهور الناس أم خالفهم. تمشّى مع عاداتهم أم ناقضها، قبلوه أم رفضوه وقاوموه. وحامل الدعوة لا يتملق الناس ولا يداجي من بيدهم الأمور. هكذا كان رسول الله ﷺ في دعوته الأولى. مؤمناً بالحق الذي يدعو إليه، متحدياً الدنيا بأكملها، لم يحسب أي حساب لعادات أو تقاليد أو عقائد أو أديان، أو حكام أو سوقة، ولم يتلفت إلى شيء سوى إلى رسالة الإسلام. فقد ذكر ابن هشام أنه لما بادأ رسول الله ﷺ قريشاً بذكر آلهتهم فعابها، وسفه أحلامهم وضلّل آباءهم ناكروه العداء وأجمعوا على خلافه، وهكذا يجب أن تكون دعوة المسلمين اليوم لمن أراد أن يتأسى بالرسول الكريم. ويتمثل بقول الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي… ) ويتمثل بقول الرسول ﷺ: «تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي». ويتمثل بسيرة السلف الصالح وقولهم: «لا يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله».
أما اليوم، وبحسب هذه الطريقة المحدثة المبتدعة التي لا يقرها الإسلام نرى من يقول: إن المصلحة الراجحة تدل على أن الأوفق والأصلح أن نأخذ الأمور بالحكمة وأن ندعو بالتي هي أحسن وذلك بحسب طريقتهم لا بحسب الطريقة الشرعية. ويقولون: فما نفع الدعوة إذا قمنا بتحدي كل ما يخالفها؟ أنفتح قلوب الآخرين بذلك أم نغلقها؟ ولماذا نظهر أن ما عندنا يعارض معارضة أساسية ما عند غيرنا؟ أليس من الأوفق أن نظهر أننا نشترك مع غيرنا بأمور تكون مفتاح الدخول إلى قلوبهم وعقولهم. وخاصة عندما يظهر الأمر وكأنه ليس هناك كبير اختلاف بيننا وبينهم. وهل من مصلحة الدعوة أن تواجه الحكام وتفضح تآمرهم على الأمة، وتكشف مخططاتهم. فنستعديهم بذلك ونجلب شرهم أم نحاول أن نتقرب ونتودد إليهم. فلربما قربونا وأوصلونا إلى بعض المراكز التي تفيد الدعوة، ولربما تعم الفائدة. ولربما استطعنا أن نصل إلى الحكم عن هذه الطريقة. لذلك يجب أن نثبت لهم أن لا داعي للخوف منا، وأن لا خوف من تقريبنا منهم. ومن هنا تبدأ رحلة التزلّف والتصريحات البعيدة عن منهج الحق، ومواقف الاسترضاء للحاكم وشهادة الزور على أعماله، والسكوت عن الباطل، والانشغال بالأمور الصغيرة والتي لا تثير الحاكم والتكلم بها. والتغاضي عن الأمور المصيرية التي يجب تنبيه الأمة لها… وغيرها الكثير من التصرفات القولية والفعلية التي تجانب الحق. كل هذا التغيير كان وراءه تغيير طريقة التفكير هذه…
– كذلك فإن من حق الله على العالِم الذي ورث العلم عن النبي ﷺ أن يقوم بحقه ويكون في أول صفوف المجاهدين المصرحين بالحق، القائمين به، المواجهين للحكام الكاشفين لخططهم. أي أنه يجب أن يكون إمامَ علم ومحراب وحِراب. وهذا ما كان عليه سلفنا الصالح فإننا نرى أنه قد تولد عن هذه الطريقة المبتدعة فهمٌ مبتدع يعارض ما تعودنا في علمائنا الأوائل. ويتمثل فهمهم بالقول: إنه إذا قال العالم كلمة الحق، ومن ثم اعتقل أو قتل فمن سيقوم مقامه؟ إن الضرر الذي سيلحق الأمة من اعتقاله أو قتله هو أضعاف النفع الذي سيحققه جراء موقفه. فلماذا نحْرم الأمة خير هذا العالِم؟
– كذلك فإنه بالنسبة للمشاركة في الانتخابات النيابية فإنها تجوز ولكن بشروط: أن يكون المرشح مسلماً، ملتزماً بأحكام الإسلام، لا يقبل بتشريع الكفر بل ينقضه ويعرض بدله الحكم الشرعي، ولا يجوز له انتخاب رئيس غير مسلم أو غير قائم حكمه على الإسلام. ولا يجوز له أن يمنح الحكومة الثقة بل يجب أن يحجبها متى كان برنامجها لا يقوم على أساس إسلام… هذا هو الحكم الشرعي الواضح.
لكننا رأيناهم قد طلعوا، وبحسب هذه الطريقة المبتدعة، برأي يجيز للمسلم أن ينتخب المرشح الذي لا يلتزم بالشرع في تشريع أو محاسبة أو اختيار حاكم. بل يجيزون انتخاب المرشح النصراني والدخول معه في لوائح انتخابية بحجة أن القانون يحدد عدد وطائفة النواب في كل منطقة. فالمرشح النصراني سينجح سواء انتخبه المسلمون أم لا. فمن الأفضل في هذه الحالة اختيار من يكون بنظرنا أنفع للمسلمين من أن يختاره قومه وهو لنا من المعاندين.
وهكذا يمضي أصحاب هذه العقلية في طروحاتهم والتي كلما ازداد كلما ازدادوا بها بعداً عن الحق.
فليعِ أصحاب هذه العقلية المحدثة المبتدعة، والطروحات البعيدة عن الفهم الصحيح للإسلام أن عقليتهم وطروحاتهم ليست من الإسلام في شيء. وأن ما يقومون به يحتاج إلى توبة صادقة. إن الإسلام يحتاجهم ولكن على غير هذه العقلية. ومن غير هذه الطروحات ليكونوا ظهيراً له، لا للأنظمة التي تحكم بغير ما أنزل الله.
إن تحديد المنفعة أو المفسدة بشكل قطعي هو لله رب العالمين. وما يجلب لنا أو يدفع عنا المفاسد لا يعلمه إلا الله. ولو كان ذلك مقدور الإنسان لأصبح مشرّعاً. ولما كانت الحاجة إلى دين من عند الله يدبر للإنسان شؤون حياته. لذلك يعتبر الإسلام أنه يجب على المسلم أن يتقيد بشرع به، فما طلب الشرع فعله كان لنا مصلحة، وما طلب تركه كان لنا مفسدة. ونحن كمسلمين لا نعرف أن هذا الشيء مصلحة أو مفسدة إلا بعد أن ينزل شرع فيه، ولكن قبل ذلك فليس في مقدورنا تحديد ذلك، وذلك لافتقاد العقل للمقيس الذي أساسه يميّز الخير من الشر، والحسن من القبح. ومن هنا كانت القاعدة الشرعية التي تقول: «حيثما يكون الشرع تكون المصلحة»، ومن هنا كان خطأ القاعدة التي تقول: «حيثما تكون المصلحة يكون الشرع». وهذا ما ترشدنا إليه الآية الكريمة: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
ومن هذا المنطلق نستطيع أن نفهم قول الله تعالى: (… وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ) فالطيب هو ما جعله الله حلالاً، ولم نعرف أنه طيب إلا بعد تحليل الله سبحانه له. والخبيث هو ما جعله الله حراماً، ولم نعرف أنه خبيث إلا بعد تحريمه علينا. وليس معناها أن تحدد عقولنا الطيب فتحله، ولا الخبيث فتحرمه.
هذا ما عنوه بقولهم (ترجيح خير الخيرين، وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناها ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناها). إنه قول خطأ، وفيه خطر على الشريعة. وهو أشد من القول بالمصالح المرسلة. ذلك أن المصالح تقضي باللجوء إليها عندما يخلو الواقع من حكم شرعي، بينما نرى أنهم بقولهم هذا قد سمحوا لأنفسهم بتبديل أحكام الله ولعقولهم بنسخها. وأنهم به يحلون الحرام ويحرمون الحلال. وهذا يشكل حالقة للدين وهو منهج جد خطير. وهذا هو سبب بُعد آرائهم ومواقفهم عن الحق.
إننا نرى من خلال كل ما عرضناه أن أصولهم تنسجم مع بعضها وتتفق على التدخل في تشريع الله، حين تسمح لعقولهم أن تضع قواعد عقلية غير شرعية، وطريقة تكفير عقلية غير شرعية لتلتقي في النهاية إلى ما يريدونه هم أن يكون لا إلى ما يريده الشرع أن يكون. لذلك كان القياس العقلي القائم على المصلحة رائدهم في كل بحث مع أن القياس العقلي هو أهم ما رفضه الشارع للمسلمين لما فيه من محاددة لله ومشاركة في التشريع، ولما فيه من مجانبة للصواب والحقن ولما فيه من اتباع للميول والهوى. أن بحثهم يقوم على تحكيم الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به، لأن الطاغوت هو التحاكم لغير ما أنزل الله، والذي اعتبره الشرع أنه من ضلالات الشيطان.
وفي نهاية هذا البحث الذي طال لابد من التعريج على بيان الفرق بين القياس العقلي والقياس الشرعي لنبيّن فساد القياس العقلي وأهمية اللجوء إلى القياس الشرعي لننجو وننجي أمتنا والناس أجمعين.
لقد جرى هؤلاء المسلمون على طريقة الترجيح العقلي للمصلحة في الحكم الشرعي نفسه، حيث راحوا يوازنون بين المصالح التي يؤمنها الحكم الشرعي، وبين المفاسد التي تترتب عليه بمنظور عقلي فإن غلبت عندهم المفاسد ترك الحكم الشرعي الذي هو حكم الله في المسألة وإلى حكم عقلي بديل عنه غلبت فيه المصالح. وإن غلبت المصالح في الحكم الشرعي عمل به لا لأن الله قد أمر به، بل لأن العقل وافق على اعتباره. وهذا مسلك خطير ولا يجوز السكوت عليه. لأنه يجعل القوامة للعقل والمصلحة على الشرع، ولأنه يعطي العقل دور الحكم على شرع الله، ولأنه يجعل العقل فوق الشرع. وهذا هو التشريع الوضعي بعينه. وهذا ما يفسِّر خروجهم بآراء تخالف الأحكام الشرعية، وخاصة في موضوعنا هذا. لذلك لا يمكن الخلاف في الرأي حول هل تجوز المشاركة في الحكم بغير ما أنزل الله أم لا؟ بل يكمن الخلاف في طريقة التفكير التي يتوصلون بواسطتها إلى الحكم غير الشرعي، إلى الحكم العقلي إلى الحكم بغير ما أنزل الله، إلى حكم الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به.
من هنا قولنا إن هذه الطريقة في الفهم تجافي الفهم الصحيح وتخالفه. ويدل واقعها على فسادها ولا تصلح للاعتماد عليها أو الأخذ بحسبها. ذلك أن تحديد المنافع أو المفاسد بشكل قطعي هو لله رب العالمين. وما يجلب لنا المنافع أو يدفع عنا المفاسد لا يعلمه إلا الله. لأن ذلك لو كان للإنسان لاعتبر مشرعاً. ولما كانت الحاجة إلى دين إلهي يدبّر للإنسان شؤون حياته، اعتبر الإسلام أنه يجب على المسلم أن يتقيد بشرع ربه. من هنا كان اعتبار ما طلب الشرع فعله فيه مصلحة لنا وما طلب تركه كان لنا مفسدة. ونحن كمسلمين لا نعرف أن هذا الشيء مصلحة أو مفسدة إلا بعد أن ينزل شرع فيه. ولكن قبل ذلك فليس في مقدورنا تحديد ذلك على سبيل القطع، بل على سبيل الظن وذلك لافتقاد العقل للمقياس الذي على أساسه يحدد الخير من الشر، والحسن من القبح.
والإنسان عندما يشرع سيجري على طريقة القياس العقلي الذي يقتضي الجمع بين الأمور المتشابهة وإعطائها أحكاماً متشابهة. ويقتضي كذلك التفريق بين الأمور المختلفة وإعطائها أحكاماً مختلفة. وعندما ننظر إلى الشريعة الإسلامية التي شرعها العليم الخبير نراها قد أعطت أحكاماً مختلفة لكثير من الأمور المتشابهة، وهذا بخلاف القياس العقلي. وكذلك نراها قد أعطت أحكاماً متشابهة لكثير من الأمور المختلفة، وهذا بخلاف القياس العقلي. وأعطت أحكاماً لا مجال للعقل فيها. وهذا وحده كافٍ لنقض هذه الطريقة المبتدعة التي أحدثها هؤلاء
1993-12-28