بقلم الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل شيخ
مفتي الديار السعودية، المتوفّى سنة 1389هـ
إنّ من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين منزلة ما نَزَلَ به الروحُ الأمينُ على قلب محمد ﷺ ليكون من المنذرين، بلسان عربيّ مبين، في الحُكْم به بين العالمين، والردّ إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضةً ومعاندةَ لقول الله عزّ وجلّ: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن من لم يُحَكَّموا النبي ﷺ فيما شجر بينهم، نفياً مؤكداً بتكرار أداة النفي وبالقَسَم، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ولم يكتف تعالى وتقدّس منهم بمجرد التحكيم للرسول ﷺ، حتى يُضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من الحرج في نفوسهم، بقوله جل شأنه: (ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ). والحرج: الضيق. بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك وسلامتها من القلق والاضطراب.
ولم يكتف تعالى أيضاً هنا بهذين الأمرين، حتى يضموا إليهما التسليم وهو كمال الانقياد لحكمه ﷺ، بحيث يتخلون ها هنا من أي تعلّق للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتمّ تسليم، ولهذا أكد ذلك بالمصدر المؤكد، وهو قوله جل شأنه: (تَسْلِيمًا) المبين أنه لا يُكْتفى ها هنا بالتسليم… بل لابد من التسليم المطلق.
وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً). كيف ذكر النكِرَة وهي قوله: (شَيْء) في سياق الشَرْطِ وهو قوله جل شأنه: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ) المفيد العموم، فيما يتصوّر التنازع فيه جنساً وقدراً، ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطاً في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله: (إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ). ثم قال جل أنه: (ذَلِكَ خَيْرٌ) فشيء يطلق الله عليه أنه خير، لا يتطرق إليه شر أبداً، بل هو خير محض عاجلاً وآجلاً.
ثم قال: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي: عاقبةً في الدنيا والآخرة، فيفيد أن الرد إلى غير الرسول ﷺ عند التنازع شر محض وأسوا عاقبة في الدنيا والآخرة.
عكس ما يقوله المنافقون: (إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا)، وقولهم: (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ولهذا رد الله عليهم قائلاً: (أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ). وعكس ما عليه القانونيين من حكمهم على القانون بحاجة إلى العالم (بل ضرورتهم) إلى التحاكم إليه وهذا سوء ظن صِرف بما جاء به الرسول ﷺ، ومحض استنقاص لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن هذا لازم لهم.
وتأمل أيضاً ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى: (فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) فإن اسم الموصول مع صلته من صيغ العموم عند الأصوليين وغيرهم، وذلك العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدر، فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير، وقد نفى الله الإيمان عن من أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول ﷺ من المنافقين، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا).
فإن قوله عزّ وجل: (يَزْعُمُونَ) تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي ﷺ مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحدّ. فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول ﷺ أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي ﷺ فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه. وذلك أنه من حق كل أحد أن يكون حاكماً بما جاء به النبي ﷺ فقد لا بخلافه. كما أن من حق كل أحد أن يحاكم إلى ما جاء به النبي ﷺ فمن حكم بخلافه أو حاكم إلى خلافه فقد طغى، وجاوز حدّه، حكماً أو تحكيماً، فصار بذلك طاغوتاً لتجاوزه حدّه.
وتأمل قوله عزّ وجل: (وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) تعرف منه معاندة القانونيين، وإرادتهم خلاف مراد الله منهم حول هذا الصدد، فالمراد منهم شرعاً والذي تعبدوا به هو: الكفر بالطاغوت لا تحكيمه، (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ).
ثم تأمل قوله: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ) كيف دلّ على أن ذلك ضلال، وهؤلاء القانونيين يرونه من الهدى، كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان، عكس ما يتصور القانونيون من بعدهم من الشيطان، وأنّ فيه مصلحة الإنسان، فتكون على زعمهم مرادات الشيطان هي صلاح الإنسان، ومراد الرحمن. وما بعث به سيد ولد عدنان معزولاً من هذا الوصف، ومُنحّى عن هذا الشأن. وقد قال تعالى منكراً على هذا الضرب من الناس، ومقرراً ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحاً أنه لا حُكم أحسن من حكمه: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) فتأمل هذه الآية الكريمة كيف دلت على أن قسمة الحكم ثنائية، وأنه ليس بعد حكم الله تعالى إلا حكم الجاهلية. الموضّح أن القانونيين في زمرة أهل الجاهلية، شاءوا أم أبو، بل هم أسوء منهم حالاً، وأكذب منهم مقالاً، ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد.
وأما القانونيون فمتناقضون، حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول ﷺ، ويناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، وقد قال تعالى في أمثال هؤلاء: (أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) ثم انظر كيف ردّت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حُسْن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم، قوله عزّ وجلّ: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: «ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعَدَلَ إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مُستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهواءهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم «جنكيز خان» الذي وضع لهم كتاباً مجموعاً من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها.
وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، فمن عل ذلك فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير. قال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) أي: يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون. (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي: ومن أعدل من الله في حكمه، لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن، وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء القادر على كل شيء، العادل في كل شيء» [انتهى قول الحافظ ابن كثير].
وقد قال عزّ شأنه قبل ذلك مخاطباً نبيه محمداً ﷺ: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ) وقال تعالى: (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) وقال تعالى مخيراً نبيه محمداً ﷺ، بين الحكم بين اليهود والإعراض عنهم إن جاءوه لذلك: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) والقسط هو: العدل. ولا عدل حقاً إلا حكم الله ورسوله، والحكم بخلافه هو الجور، والظلم والضلال والكفر، والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ)، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ)، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ).
فانظر كيف سجّل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر والظلم والفسوق، ومن الممتنع أن يسمّى الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ولا يكون كافراً، بل هو كافر مطلقاً، إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدل أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً إما كفراً اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة، أما الأول، وهو كفر الاعتقاد فهو أنواع: أحدها أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقيّة حكم الله ورسوله، وهو معنى ما روي عن ابن عباس، واختار ابن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم أن من جحداً أصلاً من أصول الدين أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفا مما جاء به الرسول ﷺ قطعياً، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة.
الثاني: أن لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله حقاً، لكن اعتقد أن حكم غير الرسول ﷺ أحسن من حكمه، وأتمّ وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقاً أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث، التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال، وهذا أيضاً لا ريب أنه كفر، لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان وصرف حثالة الأفكار، على حكم الحكيم الحميد.
وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث، فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله ﷺ، نصاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك، علم ذلك من علمه وجهله من جهله، وليس معنى ما ذكره العلماء من تغيّر الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه من قلّ نصيبهم أو عدم من معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية وتصوراتهم الخاطئة الوبية، ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها منقادة إليها، مهما أمكنهم فيحرفون لذلك الكلم عن مواضعه، وحينئذ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان مراد العلماء منه: ما كان مثسْتَصْحَبُه فيه الأصول الشرعية، والعللَ المرعيةً، والمصالحَ التي جِنسُها مرادٌ لله تعالى، ورسوله ﷺ، ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتهم، كائنةً ما كانت، والواقعُ أصدق شاهد.
الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافراً الكفر الناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله عزّ وجلّ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ونحوها من الآيات الكريمة، الدالة على تفرد الربّ بالكمال. وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين، في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.
الرابع: أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله، فضلاً عن أن يعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله، فهذا كالذي قبله يَصْدُقُ عليه ما يصدُقُ عليه، لاعتقاد جواز ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه.
الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً، وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً، ومراجع ومستندات. فكما أنّ للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات، مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فلهذه المحاكم مراجع، هي: القانون الملفّق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأميركي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البِدْعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك.
فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار مهيأة مكملة، مفتوحةُ الأبواب، والناس إليها أسرابٌ إِثْرَ أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حُكْمَ السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم. فأيّ كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضةٍ للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة.
وذكْرُ أدلة جميع ما قدمنا على وجه البَسْط معلومةٌ معروفة، لا يحتمل ذِكرَها هذا الموضعُ، فيا معشر العقلاء! ويا جماعات الأذكياء وأولي النهى! كيف ترضون أن تجري عليكم أحكامُ أمثالكِم، وأفكارُ أشباهكم، أو من هم دونكم، ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطأهم أكثر من صوابهم بكثير، بل لا صواب في حكمهم إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله، نصاً أو استنباطاً، تَدَعونهم يحكمون في أنفسكم دمائكم وابشاركم، وأعراضكم وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقكم، ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله، الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وخضوعُ الناس ورضوخهم لحكم ربهم خضوع ورضوخ لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه، فكما لا يسجد الخلق إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه، ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا يرضخوا لا يخضعوا أو ينقادوا إلا لحكم الحكيم العليم الحميد، والرؤوف الرحيم، دون حكم المخلوق، الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة والظلمات، فيجب على العقلاء أن يربأوا بنفوسهم عنه، لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض، والأغلاط والأخطاء، فضلاً عن كونه كفراً بنص قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ).
السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر، والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم، وعاداتهم التي يسمونها «سلومهم»، يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به ويحصلون على التحاكم إليه عند النزاع، بقاءاً على أحكام الجاهلية، وإعراضاً ورغبةً عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما القسم الثاني من قسمي كُفْر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يخرج من الملة، فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عزّ وجل: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ) قد شَمَلَ ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية: «كفر دون كفر» وقوله أيضاً «ليس بالكفر الذي تذهبون إليه» اهـ. وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية، بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعتراف على نفسه بالخطأ، ومجانبة الهدى.
وهذا وإنْ لم يخرجه كفره من الملة، فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر، كالزنا وشرب الخمر، والسرقة واليمين الغموس، وغيرها، فإن معصية سماها الله في كتابه: كفراً، أعظم من معصية لم يسمها كفراً. نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقياداً ورضاءاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه c