فبهداهم اقتده: سلمان الفارسي (رضي الله عنه)
2009/06/28م
المقالات
2,127 زيارة
فبهداهم اقتده:
سلمان الفارسي (رضي الله عنه)
قصة سلمان الفارسي، رضي الله عنه وأرضاه، يرويها بنفسه فيقول:
كنت فتًى فارسياً من أهل أصبهان، من قرية يقال لها: «جيَّان». وكان أبي دهقان القرية (رئيسها)، وأغنى أهلها غنًى وأعلاهم منـزلةً. وكنت أحب خلق الله إليه منذ ولدت، ثم مازال حبه لي يشتد ويزداد على الأيام حتى حبسني في البيت خشيةً عليّ كما تُحبس الفتيات. وقد اجتهدت في المجوسية حتى غدوت قيّم النار التي كنا نعبدها، وأنيط بي (أوكل بي) أمر إضرامها حتى لا تخبو ساعةً في ليل أو نهار. وكان لأبي ضيعة تدر علينا غلة كبيرة، وكان أبي يقوم عليها ويجني غلتها. وفي ذات مرة شغله عن الذهاب إلى القرية شاغل، فقال: يا بني إني قد شغلت عن الضيعة بما ترى، فاذهب إليها وتولَّ اليوم عني شأنها، فخرجت أقصد ضيعتنا. وفيما أنا في بعض الطريق، مررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم وهم يصلون، فلفت ذلك انتباهي.
لم أكن أعرف شيئاً من أمر النصارى أو أمر غيرهم من أصحاب الأديان لطول ما حجبني أبي عن الناس في بيتنا، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم لأنظر ما يصنعون. فلما تأملتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في دينهم وقلت: والله هذا خير من الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، ولم أذهب إلى ضيعة أبي. ثم إني سألتهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: في بلاد الشام. ولما أقبل الليل عدتُ إلى بيتنا فتلقَّاني أبي يسألني عما صنعت، فقلتُ: يا أبت إني مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم، وما زلت عندهم حتى غربت الشمس. فذعر أبي مما صنعت وقال: أي بني ليس لك في ذلك الدين خير… دينك ودين آبائك خير منه. قلت: كلا -والله- إن دينهم لخير من ديننا. فخاف أبي مما أقول، وخشي أن أرتد عن ديني، وحبسني بالبيت، ووضع قيداً في رجلي.
ولما أتيحت لي الفرصة بعثت إلى النصارى أقول لهم: إذا قدم عليكم ركب يريد الذهاب إلى بلاد الشام فأعلموني. فما هو إلا قليل حتى قدم عليهم ركب متجه إلى الشام، فأخبروني به، فاحتلتُ على قيدي حتى حللته، وخرجتُ معهم متخفياً حتى بلغنا بلاد الشام. فلما نزلنا فيها، قلت: من أفضل رجل من أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف راعي الكنيسة، فجئته فقلت: إني قد رغبت في النصرانية، وأحببت أن ألزمك وأخدمك وأتعلم منك وأصلي معك. فقال: ادخل، فدخلتُ عنده وجعلت أخدمه.
ثم ما لبثت أن عرفت أن الرجل رجل سوء، فقد كان يأمر أتباعه بالصدقة ويرغبهم بثوابها، فإذا أعطوه منها شيئاً لينفقه في سبيل الله، اكتنـزه لنفسه ولم يعطِ الفقراء والمساكين منه شيئاً، حتى جمع سبع قلال من الذهب. فأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته منه، ثم ما لبث أن مات فاجتمعت النصارى لدفنه، فقلت لهم: إن صاحبكم كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنـزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئاً. قالوا: من أين عرفت ذلك؟! قلت: أنا أدلكم على كنـزه. قالوا: نعم دلنا عليه، فأريتهم موضعه فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وفضةً، فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه، ثم صلبوه ورجموه بالحجارة.
ثم إنه لم يمضِ غير قليل حتى نصَّبوا رجلاً آخر مكانه، فلزمته، فما رأيت رجلاً أزهد منه في الدنيا، ولا أرغب منه في الآخرة، ولا أدأب منه على العبادة ليلاً ونهاراً، فأحببته حباً جماً، وأقمت معه زماناً، فلما حضرت الوفاة قلت له: يا فلان، إلى من توصي بي ومع من تنصحني أن أكون من بعدك؟ فقال: أي بني، لا أعلم أحداً على ما كنتُ عليه إلا رجلاً بالموصل هو فلان لم يحرِّف ولم يبدل فالحق به. فلما مات صاحبي لحقت بالرجل في الموصل، فلما قدمت عليه قصصت عليه خبري وقلت له: إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك وأخبرني أنك مستمسك بما كان عليه من الحق. فقال: أقم عندي. فأقمت عنده فوجدته على خير حال. ثم إنه لم يلبث أن مات، فلما حضرته الوفاة قلت له: يا فلان لقد جاءك من أمر الله ما ترى وأنت تعلم من أمري ما تعلم، فإلى من توصي بي؟ ومن تأمرني باللحاق به؟ فقال: أي بني، والله ما أعلم أن رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلاً بنصِّيبين وهو فلان فالحق به.
فلما غُيِّب الرجل في لحده لحقتُ بصاحب نصيبين وأخبرته خبري وما أمرني به صاحبي، فقال لي: أقم عندنا. فأقمت عنده فوجدته على ما كان عليه صاحباه من الخير، فوالله ما لبث أن نزل به الموتُ، فلما حضرته الوفاة قلت له: لقد عرفت من أمري ما عرفت فإلى من توصي بي؟ فقال: أي بني والله إني ما أعلم أحداً بقي على أمرنا إلا رجلاً بعمورية هو فلان، فالحق به، فلحقت به وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمتُ عند رجل كان -والله- على هدي أصحابه، وقد اكتسبت وأنا عنده بقرات وغنيمة.
ثم ما لبث أن نزل به ما نزل بأصحابه من أمر الله، فلما حضرته الوفاة قلت له: إنك تعلم من أمري ما تعلم، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني أن أفعل؟ فقال: يا بني -والله- ما أعلم أن هناك أحداً من الناس بقي على ظهر الأرض مستمسكاً بما كنا عليه… ولكنه قد أظل زمان يخرج فيه بأرض العرب نبيٌ يبعث بدين إبراهيم ثم يهاجر من أرضه إلى أرض ذات نخل بين حرَّتين (الحرة: أرض ذات حجارة سود نخرة)، وله علامات لا تخفى، فهو يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. ثم وافاه الأجل فمكثت بعده بعمورية زمناً إلى أن مر بها نفر من تجار العرب من قبيلة “كلب”. فقلتُ لهم: إن حملتموني معكم إلى أرض العرب أعطيتكم بقراتي هذه وغنيمتي، فقالوا: نعم نحملك، فأعطيتهم إياها وحملوني معهم حتى إذا بلغنا وادي القرى غدروا بي وباعوني لرجل من اليهود، فالتحقت بخدمته، ثم ما لبث أن زاره ابن عم له من بني قريظة فاشتراني منه، ونقلني معه إلى يثرب فرأيتُ النخل الذي ذكره لي صاحبي بعمورية، وعرفت المدينة بالوصف الذي نعتها به، فأقمت بها معه. وكان النبي حينئذ يدعو قومه في مكة، لكنني لم أسمع له بذكر لانشغالي بما يوجبه علي الرق.
ثم ما لبث أن هاجر الرسول إلى يثرب، فوالله إني لفي رأس نخلة لسيدي أعمل فيها بعض العمل، وسيدي جالس تحتها، إذ أقبل عليه ابن عم له وقال له: قاتل الله بني “قيلة” (الأوس والخزرج)، والله إنهم الآن لمجتمعون بقباء، على رجل قدم عليهم اليوم من مكة يزعم أنه نبي. فما إن سمعت مقالته حتى مسني ما يشبه الحمى واضطربت اضطراباً شديداً حتى خشيت أن أسقط على سيدي، وبادرت إلى النـزول عن النخلة، وجعلت أقول للرجل: ماذا تقول؟! أعد علي الخبر… فغضب سيدي ولكمني لكمة شديدة وقال لي: ما لك ولهذا؟! عد إلى ما كنت فيه من عملك.
ولما كان المساء أخذت شيئاً من تمر كنت جمعته، وتوجهت إلى حيث ينـزل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فدخلت عليه، وقلت: إنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم. ثم قربته إليه، فقال لأصحابه: (كلوا…) وأمسك يده فلم يأكل. فقلتُ في نفسي: هذه واحدة. ثم انصرفت وأخذت أجمع بعض التمر، فلما تحول الرسول من قباء إلى المدينة جئته فقلت له: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها. فأكل منها وأمر أصحابه فأكلوا معه. فقلت في نفسي: هذه الثانية… ثم جئت رسول الله وهو ببقيع الغرقد حيث كان يواري أحد أصحابه، فرأيته جالساً وعليه شملتان، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره لعلي أرى الخاتم الذي وصفه لي صاحبي في عمورية. فلما رآني النبي أنظر إلى ظهره عرف غرضي فألقى رداءه عن ظهره، فنظرتُ فرأيت الخاتم، فعرفته فانكببت عليه أقبله وأبكي. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ما خبرك؟!) فقصصت عليه قصتي، فأعجب بها، وسره أن يسمعها أصحابه مني، فأسمعتهم إياها، فعجبوا منها أشد العجب، وسروا بها أعظم السرور.
فسلام على سلمان الفارسي يوم قام يبحث عن الحق في كل مكان، وسلام على سلمان الفارسي يوم عرف الحق فآمن به أوثق الإيمان وسلام عليه يوم مات ويوم يبعث حياً.
2009-06-28