الـمَـوْتُ (2)
2016/09/27م
المقالات
2,135 زيارة
الـمَـوْتُ (2)
بقلم: ك. ش.
وأوصى صلى الله عليه وسلم بالانصار خيرا فقَالَ: «اما بعد يا معشر المهاجرين، إنكم قد اصبحتم تزيدون، وأصبحت الأنصار لا تزيد، على هيئتها التي هي عليها اليوم، والأنصار عيبتي التي أويت إليها، فأكرموُاْ كريمهم، وتجاوزوُاْ عَن مسيئهم».
ثمّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «إن عبدا مِن عباد اللـه خيره اللـه بين أن يؤتيه مِن زهرة الدُّنْيَا مَا شاء، وبين مَا عند اللـه، فاختار مَا عند اللـه»، فبكى أبو بكر ثمّ قَالَ: فديناك بأنفسنا وبآبائنا وأمهاتنا وأبنائنا يا رَسولَ اللـه.
فتعجب النّاس من فعل أبي بكر وقوله، وقَالَ بعضهم: انظروُاْ إِلَى هذَا الشيخ، يخبر رَسولُ اللـه عَن عبد يُخَيَّر، ويقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، وقَالَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم رادّا على أبي بكر: «على رسلك يا أبا بكر، انظروُا هذِهِ الابواب اللافظة فِي المسجد فسدوها، إلاّ مَا كانَ مِن بيت أبي بكر فإن أمنّ النّاس عليّ فِي صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلاً مِن العباد لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صحبة وإخاء ايمان حَتَّى يجمع اللـه بيننا عنده».
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي اللـه عنها: (رأيت رسول اللـه صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قَدَحٌ فيه ماء، فيدخل يده في القدح ثمّ يمسح وجهه بالماء ثمّ يقول: «لا إله إلا اللـه، إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرات الموت»، ثمّ نصب إصبعه وجعل يقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، ثمّ أشخص بصره بسقف البيت وقال، اللهم الرفيق الأعلى فقبض ومالت يده في الماء).
ولما احتُضِر أبو بكر الصديق رضي الله عنه جاءت عائشة فتمثلت بهذا البيت:
لَعَـمْـرُكَ مَا يُـغْـني الثَراءُ عَن الفتى
إِذَا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدرُ
فكشف أبو بكر عَن وجهه وقَالَ: (ليس كذلك يا بنية، ولكن قولي (وجاءت سكرة الْمَوْتِ بالحق ذَلِكَ مَا كنت مِنه تحيد) انظروا ثوبي هذين، فاغسلوهما وكفنوني فيهما، فإن الحي احوج إِلَى الجديد مِن الميت).
ولـمـا قَـالَـت عـائـشـة رضي اللـه عنها عند موته تمدحه:
وأبيض يَستسقى الغَمامُ بوجهِه
ربيعُ اليتامى عصـمـةٌ للأرامـلِ
قَالَ أبو بكر: ذاك رَسـولُ اللـه صلى الله عليه وسلم، ثمّ دخل عَلَيْهِ الصحابة وقد رقّوُا لما يجده مِن أثر السـم فقَالَوُا لَهُ: ألا ندعـو لك طبيبنا ينظر إليك؟ فقَالَ أبو بكر: قد نظر الي طبيبي وقَالَ: إني فعال لما أريد، ودخل عَلَيْهِ سلمان الفارسي رضي الله عنه يعوده فقَالَ: يا أبا بكر أَوْصِنا، فقَالَ الصديق: إنّ اللـه فاتح عليكم الدُّنْيَا فلا تأخذنّ مِنها إلاّ بلاغك، واعلم أن مَن صـلى الصبح فهُوَ فِي ذمة اللـه فلا تخفرن اللـه فِي ذمته فيكبك فِي النار على وجهك.
ولما ثقل أبو بكر رضي الله عنه أرسل إِلَى عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فأوصاه بوصية عظيمة قَالَ فيها: (إنّي اوصيك بوصية، إن أنت قبلت عني: إنّ للـه عز وجل حقا بالليل لا يقبله بالنهار، وإنّ للـه حقا بالنهار لا يقبله بالليل، وإنّه لا يقبل النافلة حَتَّى تؤدى الفريضـة، وإنّما ثقلت موازين مَن ثقلت موازينه فِي الآخِرَةِ باتباعهم الحق فِي الدُّنْيَا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلا، وإنّما خَفَّتْ موازينُ مَن خفت موازينه فِي الآخِرَةِ باتباعهم الباطل، وخفته عليهم فِي الدُّنْيَا، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفا.
ألـم تـر أنّ اللـه أنـزل آيـة الـرجـاء عند آية الشـدة، وآية الشـدة عنـد آية الرجاء، وذكر آية الرحمة وآية العذاب ليكون العبد راغباً راهباً لا يلقي بيديه إِلَى التهلكة، ولا يتمَنى على اللـه غير الحق.
فإن أنت حفظت وصيتي هذِهِ، فلا يكونن غائب أحب إليك مِن الْمَوْتِ، ولا بدّ لك مِنه، وإن أنت ضيعت وصيتي هذِهِ فلا يكونَنَّ غائب ابغض إليك مِن الْمَوْتِ، ولا بدّ لك مِنه ولست تعجزه) وكان آخر مَا قَالَه قبل خروج روحه رضي الله عنه: (ربّ توفني مسلما وألحقني بالصالحين).
أما عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنه فقد خرج قبل موته بأربعة أيام يطوف فِي السوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة فقَالَ: يا أمير الْمُؤْمِنِينَ، أعدني على المغيرة بن شعبة، فإن علي خراجا كثيرا، فقَالَ عمر: وكم خراجك؟ قَالَ: درهمان فِي كل يوم، فقَالَ عمر: وأَيْشٍ صِنَاعَتُكَ؟ فقَالَ أبو لؤلؤة: نجار، نقاش، حداد، فقَالَ عمر: فما أرى خَراجَك بكثيرٍ علىَ مَا تصنعُ مِن الأعمال، قد بلغني انك تقول لو أردت أن اعمل رحا تطحن بالريح فعلت، قَالَ: نعم، فقَالَ عمر: فاعمل لي رحا، فقَالَ الكافر: لئن سلمت لأعملنَّ لك رحاً يتحدثُ بها مَن بالمشرق والمغربِ، ثمّ انصرفَ عنه فقَالَ عمر: لقد توعدني العبد آنفا.
ثمّ انصرف عمر إِلَى مَنزله، فلما كانَ مِن الغد جاءه كعب الاحبار فقَالَ لَهُ: يا أمير الْمُؤْمِنِينَ: اعهد، فإنك ميت فِي ثلاثة أيام، فقَالَ عمر: وما يدريك؟ فقَالَ كعب: أجده فِي التوراة، فقَالَ عمر: ءآللـه إنك لتجد عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ فِي التوراة؟ فقَالَ كعب: اللهم لا، ولكني اجد صفتك وحليتك، وأنه قد فنى اجلك، فلما كانَ مِن الغد جاءه كعب فقَالَ: يا أمير الْمُؤْمِنِينَ ذَهَبَ يوم وبقي يومان، ثمّ جاءه مِن غد الغد فقَالَ: ذَهَبَ يومان وبقي يوم وليلة، وهي تلك الليلة إِلَى صبحتها، فلما كانَ الصبح خرج عمر إِلَى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالا فإِذَا استوت جاء هُوَ فكبر، ودخل أبو لؤلؤة عَلَيْهِ لعنة اللـه فِي النّاس، وفي يده خنجر لَهُ رأسان نصابه فِي وسطه فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته، وهيَ التي قتلتهُ، وطار العلج لا يمر على أحد يمينا أَوْ شمالا إلاّ طعنه حَتَّى طعن ثلاثة عشر رجلاً فمات مِنهم تسعة، فلما رأى ذَلِكَ رجل مِن المسلمين طرح عَلَيْهِ برنسا فلما ظن العلج أنّه مأخوذ نحر نفسه.
أما عمر رضي الله عنه فإنه لما وجد حرّ السلاح سقط وقَالَ: أفي النّاس عبد الرحمن بن عوف؟ قَالَوُاْ نعم يا أمير الْمُؤْمِنِينَ هُوَ ذا، فقَالَ لَهُ عمر: تقدم فصل بالناس، فصلى عبد الرحمن بالناس وعمر طريح بجانبه، وكان الذي يلي عمر قد رأى مَا حصل، أما الذين في نواحي المسجد فلا يدرون مَا الأمر، غير أنَّهم فقدوُاْ صوت عمر فظلوُاْ يقولون: سبحان اللـه سبحان اللـه، فصلى عبد الرحمن بن عوف فيهم صلاة خفيفة، ثمّ احتُمِل أمير الْمُؤْمِنِينَ فأدخِل داره وقَالَ: يا ابن العباس انظرْ مَن قَتَلَني، فَغابَ عبدُ اللـه ساعةً ثمّ رجع فقَالَ: غلام المغيرة بن شعبة، فقَالَ عمر: قاتله اللـه، لقد كنت امرت به معروفا، ثمّ قَالَ: الحمد للـه الَّذِي لَمْ يجعل منيتي بيد رجل مسلم سجد للـه سجدة واحدة. وكان النّاس يومئذ كأن لَمْ تصيبهم مصيبة مِن قبل، فقائل يقول لا بأس عَلَيْهِ وقائل يقول أخاف عَلَيْهِ، وجاؤوه بنبيذ فشرب مِنه فخرج مِن جوفه مشكلا، ثمّ أتي بلبن فشرب مِنه فخرج مِن جوفه فعرفوُاْ أنّه ميت.
وبدأ الـمـهـاجـرون والأنصـار يدخلون عَلَيْهِ ليسلموُاْ ويودعوُاْ فدخل عَلَيْهِ مِن بينهم كعب الاحبار فلما رآه عمـر تذكر مقولته الآنفة فأنشد عمر قائلا:
فأوعـدني كـعـبٌ ثلاثـاً أعـدها
ولا شك أن القول مَا قَالَ لي كعبُ
وما بي حذار الْمَوْتِ إني لميت
ولكـن حـذار الذنب يـتـبـعـه الذنبُ
وكان ممَّن دخل عَلَيْهِ شاب من المسلمين فقَالَ لَهُ: أبشر يا أمير الْمُؤْمِنِينَ ببشرى مِن اللـه عز وجل، قد كانَ لك صحبة مِن رَسولِ اللـه صلى الله عليه وسلم وقدم فِي الإسلام مَا قد علمت، ثمّ وليت فعدلت ثمّ شهادة، فقَالَ: أمير الْمُؤْمِنِينَ: وددت أنّ ذَلِكَ كان كفافاً لا لي ولا عليّ، فلما أدبر الرجل إِذَا إزاره يمس الأرض فقَالَ عمر: ردوُاْ علي الغلام، فقَالَ لَهُ: يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
ولما دخل عَلَيْهِ عَلِيّ بن أبي طالب رضي الله عنه رآه يبكي فقَالَ: مَا يبكيك يا أمير الْمُؤْمِنِينَ، فقَالَ عمر: ابكاني خبر السماء، أيُذْهَبُ بي إِلَى الجنَّة أم الي النَّار، فقَالَ علي: أبشر بالْجَنَّةِ، فإني سمعت رَسولَ اللـه صلى الله عليه وسلم يقول: «سيدا كهول أهل الجنَّة أبو بكر وعمر وأنعما» فقَالَ عمر: أشاهد أنت لـي يا عليّ بالجنّة؟ فقَالَ عليّ نعم، وأنت يا حسن فاشهد على أبيك أن رَسولَ اللـه صلى الله عليه وسلم قَالَ: إن عمر مِن أهل الجنَّة.
ولما دخل عَلَيْهِ عبد اللـه بن عباس قَالَ لَهُ: أبشر يا أمير الْمُؤْمِنِينَ بالْجَنَّةِ، صاحبت رَسولَ اللـه، فأطلت صحبته، ووليت أمر الْمُؤْمِنِينَ فقويت وأديت الامانة، ومَصَّرَ اللـه بك الامصار، ودفع بك النفاق، وأفشى بك الرزق، فقَالَ عمر: أما تبشيرك لي بالْجَنَّةِ فواللـه الَّذِي لا إله إلاّ هُوَ، لو أنّ لي الدُّنْيَا وما فيها لافتديت به مِن هول مَا أمامي قبل أن أعلم الخبر، وأما قولك فِي إمرة الْمُؤْمِنِينَ، فواللـه لوددت أني خرجت مِنها كما دخلت فيها لا أجر ولا وزر، وأما مَا ذكرت مِن صحبة رَسولِ اللـه صلى الله عليه وسلم فذاك – أيّ فـذاكَ مَا أرجـوهُ. ثـمّ قَـالَ رضي الله عنه: أجلسوني، فلما جلس قَالَ لابن عباس رضي اللـه عنهما: أعد عليّ كلامك، فلما أعاده عَلَيْهِ قَالَ عمر: أتشهد بذلك عند اللـه يوم تلقاه، فقَالَ ابن عباس: نعم ففرح عمر بذلك.وهُوَ القائل رضي الله عنه: (لو نادى مناد فِي السماء: يا أيها النّاس إنكم داخلون الجنَّة كلكم إلاّ رجـلاً واحداً لخفت أن أكون أنا هُوَ، ولو نادى مناد: أيها النّاس، إنكم داخلون النَّار إلاّ رجلا واحدا لرجوت
أن أكون أنا هُوَ).
ولما حانت وفاته رضي الله عنه قال لابنه: يا بني إذا حضرتني الوفاة فاحرفني واجعل يدك اليمنى على جبيني ويدك اليسرى على ذَقَني، فإذا قبضت فأغمضني، واقصدوا في كفني فإنه إن يكن لي عند اللـه خيرا أبدلني خيرا منه، وإن كنت على غير ذلك سلبني فاسرع سلبي، ولا تخرجن معي امرأة ولا تزكوني بما ليس في، فإن اللـه هو أعلم بي، وإذا خرجتم بي فأسرعوا في المشي، فإنه إن يكن عند اللـه خير قدمتموني إلى ما هو خير لي، وإن كنت على غير ذلك كنتم قد القيتم عن رقابكم شرا تحملونه، ثمّ قال رضي الله عنه: ألصق خدي بالأرض، وكان رأسه في حجر عبد اللـه بن عمر، فوضع عبد اللـه رأس عمر على ساقه وقال: وما عليك إن كانَ فِي حجري أم على الأرض؟ فقَالَ عمر: ضع خدي على الأرض لا أم لك، ففعل عبد اللـه، فلما التصق خد عمر ولحيته بالارض قال رضي الله عنه: ويلك وويل أمك يا عمر إن لم يغفر اللـه لك يا عمر، ثمّ قبض رضي الله عنه.
أما ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه فإنه لما حصر في بيته، وكان صائما، أراد الإفطار فسأل محاصريه الماء العذب ليفطر فأبوا عليه وقالوا له: دونك ذلك الركي فافطر منه والركي ما تجمع فيه القمامة، فلم يفطر عثمان فذهبت امرأته نائلة بنت القرافصة لتبحث عن الماء، فوجدت أناسا سألتهم عن الماء العذب فأعطوها كوزا من ماء فجاءت عثمان وقد أذن الفجر بالطلوع فقالت له: هذا ماء عذب أتيتك به، فنظر رضي الله عنه فإذا الفجر قد طلع، فقال: إني أصبحت صائما، فقالت: ومن أين أكلت، ولم أر أحدا أتاك بطعام ولا شراب؟ فقال: إني رأيت رسول اللـه صلى الله عليه وسلم اطلع عَلَيّ من هذا السقف ومعه دلو من ماء فقال ياعثمان حصروك فقلت: نعم، قال: عطشوك؟ فقلت: نعم، فأدلى بالدلو وقال: اشرب يا عثمان فشربت حتى رويت، حتى إني لأجد برده بين ثديي وكتفي، ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: ازدد، فشربت حتى نهلت، ثمّ قال: أما إن القوم سينكرون عليك، فإن شئت قاتلتهم فظفرت ونصرت عليهم، وإن شئت تركتهم فأفطرت عندنا، فاخترت أن أفطر عنده.
ودخل عليه كثير بن الصلت فقال له: ما أراني يا كثير إلا مقتولا يومي هذا، فقال كثير: ينصرك اللـه على عدوك يا أمير المؤمنين، أوقت لك في هذا اليوم شيء أو قيل لك شيء؟ فقال عثمان: لا، ولكني سهرت في ليلتي هذه الماضية، فلما كان وقت السحر أغفيت إغفاءة فرأيت فيما يرى النائم رسول اللـه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، ورسول اللـه صلى الله عليه وسلم يقول لي: يا عثمان لا تحبسنا، فإنا ننتظرك، فقتل في يومه ذاك.
ولما قُتِلَ رضي الله عنه عنه فتشوا في خزانته فوجدوا حقة فيها ورقة مكتوب فيها: (هذه وصية عثمان، بسم اللـه الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا اللـه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنَّة حق، وأن النَّار حق، وأن اللـه يبعث من في القبور، ليوم لا ريب فيه إن اللـه لا يخلف الميعاد، عليها نحيا وعليها نموت، وعليها نبعث إن شاء اللـه).
وروي أنه لما كانت الليلة التي أصيب فيها عَلِيّ بن أبي طالب رضي الله عنه أتاه ابن السياج حين طلع الفجر يؤذنه بالصلاة وهُوَ مضطجع متثاقل، فعاد إليه الثانية وهُوَ كذلك، ثمّ عاد الثالثة فقام علي يمشي وهُوَ يقول:
شدّ حيازيمك للموتِ فإن الْمَوْتَ لاقيك
ولا تجزع مِن الْمَوْتِ وإن حــلّ بـنـاديــك
فلما بلغ الباب الصغير شد عَلَيْهِ عبد الرحمن بن ملجم فضربه فقَالَ علي: فزت ورب الكعبة، ولما حملوه قَالَ: مَا فُعل بضاربي؟ قَالَوُاْ: أخذناه، قَالَ: (أطعموه مِن طعامي، واسقوه مِن شرابي فإن انا عشت رأيت فيه رأيي، وإن أنا مت فاضربوه ضربة واحدة لا تزيدوه عليها.
ثمّ أوصـى الحسـن أن يغسله وقَالَ: لا تُغالِ فِي الكفن، فإني سمعت رَسولَ اللـه صلى الله عليه وسلم يقول: لا تغالوُا فِي الكفن فإنّه يسلب سلباً سريعاً، امشوُا بي المشيتين لا تسرعوُا بي، ولا تبطئوُا فإن كانَ خيرا عجلتموني إليه، وإن كانَ شرا ألقيتموني عَن أكتافكم).
ولما حضرت الوفاة معاذ بن جبل رضي الله عنه قَالَ: (انظروُاْ هل أصبحنا؟ فقيل: لَمْ نصبح، فظل يسألهم حَتَّى أتى الصبح فقيل لَهُ: قد أصبحنا، فقَالَ: أعوذ باللـه مِن ليلة صباحها إِلَى النار، ثمّ قَالَ: مرحبا بالْمَوْتِ زائر مغيب، وحبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنّى لَمْ اكن احب الدُّنْيَا وطول البقاء فيها لكريِ(10) الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لطول ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر).
ولما حـضـرت بلالاً رضي الله عنه الوفـاة قَالَت امرأته: واحزناه فقَالَ: (بل واطرباه، غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه).
أما أم المؤمنين عائشة رضي اللـه عنها فقد دخل عليها عبد اللـه بن عباس رضي الله عنه قبل موتها فأثنى عليها وقال: أبشري زوجة رسول اللـه، ولم ينكح بكرا غيرك، ونزل عذرك من السماء، فدخل عليها ابن الزبير رضي اللـه عنهما خلافه فقالت: أثنى علي عبد اللـه بن عباس ولم اكن احب أن اسمع احدا اليـوم يثني علي، لوددت اني كنت نسيا منسيا.
وقَالَ أبو مسـلم: جـئت أبا الدرداء رضي الله عنه وهُوَ يـجـود بنـفسه ويقول: (ألا رجل يعمل لـمـثـل مصـرعـي هذَا؟ ألا رجل يعمل لمثل يومي هذَا؟ ألا رجـل يعـمل لمثل ساعتي هذِهِ؟) ثمّ قُبض رحمه اللـه.
وبكى سلمان الفارسي عند موته، فقيل لَهُ مَا يبكيك؟ فقَالَ: (عهد إلينا رَسولُ اللـه صلى الله عليه وسلم أن يكون زاد أحدنا كزاد الراكب، وحولي هذِهِ الأزواد) وقيل: إنّما كانَ حوله إجانة وجفنة ومطهرة مَا قيمته بضعة عشر درهما.
وبكى أبو هـريـرة رضي الله عنه قـبـل وفـاتـه فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي لبعد سفري وقلة زادي، أصبحت في صعود مهبطة على جنة ونار فلا أدري إلى أيهما يسلك بي(11).
وروى المزني قَالَ: دخلت على الشافعي فِي مرضه الَّذِي مات فيه فقلت لَهُ: كيف أصبحت؟ قَالَ: (أصبحت مِن الدُّنْيَا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولسوء عملي ملاقياً، ولكأس المنية شارباً، وعلى اللـه وارداً، ولا أدري أروحي تصير إِلَى الْجَنَّةِ فأهنئها، أم إِلَى النار فأعزيها) ثمّ أنشأ يقول:
ولمّا قسـا قلـبـِي وضـاقـتْ مذاهـبي
جعلتُ الرجا مِنِّي بعفوِكَ سُلَّما
تعـا ظــمـنــي ذنْــبِــي فلـمّـا قَــرَنْـــتُـــه
بعفوك ربِّي كانَ عفوُكَ أَعْـظَما
وما زلتَ ذا عفوٍ عَن الذنب لَمْ تزل
تـجــودُ وتـعـفـو مِــنـَّــةً وتَـكَــرُّما
ولما ثقل الحسن بن علي رضي الله عنه دخل عَلَيْهِ الحسين رضي الله عنه فقَالَ: يا أخي لأي شيء تجزع؟ تُقدم على رَسولِ اللـه صلى الله عليه وسلم وعلى عليّ بن أبي طالب وهما أبواك وعلى خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد وهما أماك وعلى حمزة وجعفر وهما عمّاك! فقَالَ الحسن: أقدم يا أخي على أمر لَمْ أقدم على مثله.
وروي أنه لما ثقل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه دعي لَهُ بطبيب فلما نظر إليه قَالَ: أرى أن الرجل قد سُقي السم ولا آمن عَلَيْهِ الْمَوْتَ، فرفع عمر بصره وقَالَ للطبيب: ولا تأمَن الْمَوْتَ أيضاً على مَن لَمْ يُسقَ السُّم! فقَالَ الطبيب: هل أحسست بذلك يا أمير الْمُؤْمِنِينَ؟ فقَالَ عمر: نعم قد عرفت ذَلِكَ حين وقع فِي بطني، فقَالَ الطبيب: فتعالج
يا أمير الْمُؤْمِنِينَ فإني أخاف أن تذْهَبَ نفسك، فقَالَ عمر: ربي خير مذهوب إليه، واللـه لو علمت أن شفائي عند شحمة أذني مَا رفعت يدي إِلَى أذني فتناولته، ولما حضرته الوفاة بكى فقيل لَهُ: مَا يبكيك يا أمير الْمُؤْمِنِينَ؟ أبشر فقد أحيا اللـه بك سننا وأظهر بك عدلا! فبكى ثمّ قَالَ: أليس أوقف فأُسْأَلُ عَن أمر هذَا الخلق، فواللـه لو عدلت فيهم لخفت على نفسي أن لا تقوم بحجتها بين يدي اللـه إلاّ أن يلقنها حجتها، فكيف بكثير مما ضيّعنا؟ وفاضت عيناه ثمّ قَالَ: أجلسوني! فأجلسوه فقَالَ: أنا الَّذِي أمرتَني فقصرتُ ونهيتَني فعصيتُ – قَالَها ثلاث مرات – ثمّ قَالَ: ولكن لا اله إلاّ اللـه ثمّ رفع رأسه فأحدَّ النظر فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ فقَالَ: إني لأرى خضرة، مَا هم بإنس ولا جنّ ثمّ قبض رحمه اللـه.
وحُكيَ عَن هارونَ الرشيدِ أنَّه انتقى أكفانَه بيدِه عندَ الْمَوْتِ، وكانَ ينظرُ إليها ويقولُ: (مَا أغْنَى عني مالِيَه * هلك عني سلطانيه).
وقيل فتح عبد اللـه بن المبارك عينيه عند الوفاة وضحك وقَالَ (لمثل هذَا فليعمل العاملون) ثمّ قبضت روحه.
كما رُوِيَ عَن حذيفة أنّه لما حضرته الوفاة قَالَ: (حبيب جاء على فاقة، لا افلح مَن ندم، اللهم إن كنت تعلم أن الفقر احب إليّ مِن الغنى، والسقم احب إِلَى مِن الصحة، والْمَوْتَ احب إِلَى مِن العيش، فسهل علي الْمَوْتَ حَتَّى ألقاك).
هذِهِ مواقفهم، وهذِهِ محاسبتهم لانفسهم، عاشوا في رحاب اللـه تعالى، ساروا على منهجه، واتبعوا رسوله، وظلوا يحاسبون أنفسهم ويراقبونها على كل صغيرة وكبيرة، حتى إذا جاء الموت احدهم تخاله عاصيا لم يطع اللـه في حياته، وذلك من شدة خوفهم من اللـه تعالى وشدة رجائهم بمغفرته، هَكَذَا يجب أن يكون المؤمِن الحق، رقيبا حسيبا على نفسه، فيلحقها قبل أن يفوت العمر، فلا فائدة للندم، ولا قيمة للحسرة.
إنكم يا حملة الدعوة، فِي شغل عظيم، ففي الوقت الَّذِي انصرف فيه النّاس إِلَى دنياهم انشغلتم أنتم بأخـراكم، وفي الوقت الَّذِي قل فيه العاملون، أخذتم أنتم على عاتقكم عبء النبوة، فسرتم لتحقيق مَا لَمْ يحققه مِن البشر غيركم إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وأحـباؤه وإن كانَ صحابته قد فضلوُاْ بالصحبة عليكم، فإنكم قد فضلتم على غيركم بالعمل لاعادة الإسلام دين اللـه وخاتم الرسالات إِلَى الأرض، لترضوُا بذلك ربكم، وتتبعوُاْ فيه نبيكم.
فاهنأوا إخوة الإسلام والدعوة بما أنتم فيه، وكونوُا حقا قوامين على أنفسكم وعلى بعضكم بما تحملون بين جنباتكم مِن مَنهج عظيم، وإرادة جبارة، وصبر وتحمل ينوء بالجبال الراسيات.
لعمري إنها أمانة، فإن تعاهدناها وقمنا بها خير قيام، فعسى ان نكون مِن إخوان الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم الذين قَـالَ فيـهـم: «ليتني أرى إخواني وردوُا عليّ الحوض فأستقبلهم بالآنية فيها الشراب فأسقيهم مِن حوضي قبل أن يدخلوُا الجنَّة قَالَوُا»: أوَلسنا إخوانك؟ قَالَ:«لا، بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين آمنوُاْ بي ولم يروني، أنا لَهُم بالاشواق».
وعسى أن تكون كتلتكم من الذين قَالَ فيهم رَسولُ اللـه صلى الله عليه وسلم: يا حذيفة، إن فِي كل طائفة مِن أمتي قوما شُعْثاً غُبْراً إياي يريدون وإياي يتبعون، ويقيمون كتاب اللـه، أولئك مِني وأنا مِنهم وإن لَمْ يروني». وقوله صلى الله عليه وسلم: «أوحى اللـه إِلَى موسى بن عمران أنّ فِي أمّة محمد لرجالا يقومون على كل شرف وواد ينادون بشهادة أن لا إله إلاّ اللـه، جزاؤهم عَلَىَّ جزاء الأنبياء».
اللهم أنت تعلم اننا مَا قلنا هذا إلاّ تلبية لامرك وما تذاكرنا لقاك إلا خوفا مِنك وما دعوناك إلا رغبة برضاك، فاجعل ذَلِكَ فِي ميزاننا يوم توزن الأعمال، وثبتنا على دينك والعمل برسالة نبيك وحبيبك حَتَّى نلقاك، وأعنا على فتن الدُّنْيَا، ولا تبتلينا فتفضحنا وإن ابتليتنا فثبتنا. والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الطيبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الهوامش:
(10) أي لحفر الأنهار.
(11) أخـرجـه ابـن سـعـد عـن مـسـلـم بـن بـشـر وأبو نعيم في الحلية.
2016-09-27