المسلمون والغرب (11) معنى تجديد الدين
2016/09/27م
المقالات
2,944 زيارة
المسلمون والغرب (11)
معنى تجديد الدين
بقلم : أحمد المحمود
إن المسلمين مأمورون بالقيام بأمر الله، والاستقامة على هذا الدين، والاستمساك بتعاليمه، وعدم الحيد، قيد شعرة، عن طريقته في الفهم والتطبيق. وقد أشرنا سابقاً إلى كثير من النصوص الشرعية التي تأمر بذلك. ولقد استقرّ عند المسلمين أنهم كلما أصابتهم داهية الانحطاط، وعاشوا في ضنكها؛ كانوا يعتبرون أن خلاصهم في دينهم. وهذا يبشّر بخير هذه الأمة عندما نرى أن رياحها تتفق مع سحائب الشرع الذي نظن كل الظن أنه يحمل للمسلمين صيّباً نافعاً.
نعم، إن تواجّه الأمة يتفق الآن تماماً مع توجيهات الشرع، وبالتحديد مع موضوع التجديد الذي ورد ذكره في أكثر من حديث شريف. وسنقتصر على رواية واحدة وهي رواية أبي داود في صحيحه بسند متصل إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث في هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها». أما الروايات الأخرى فلا تختلف إلا بلفظين من ألفاظ الحديث من غير أن يكون اختلاف في المعنى.
لقد انطلق الفقهاء من خلال هذا الحديث، على اختلاف رواياته، ليحددوا معنى التجديد، ويتناولوا كل ما يتعلق به من أبحاث. وهنا لا بد من لفت النظر إلى أن التجديد لا يفهم من حديث واحد، وإنما تتضافر الآيات والأحاديث مع بعضها، ويعضد بعضها البعض في المعنى. فحديث التجديد هذا يدل على أن خلاص الأمة هو في فهم الإسلام بشكل صحيح وإحسان تطبيقه. وليس هو الدليل الشرعي الوحيد في هذا المعنى، وإنما هناك الكثير. ونحن من هذا الحديث نستطيع أن نأخذ لفظ التجديد الوارد في الحديث شعاراً للمرحلة. أما كيف تتم عملية التجديد فإن النصوص الأخرى أتت لتحدد ذلك، وبتفاصيل كاملة، ولم تترك للمسلم إلا أن يحسن فهم الواقع، ويحسن فهم النصوص الشرعية المتعلقة بهذا الواقع، ويحسن التطبيق. ولذلك اتفق المسلمون قديماً وحديثاً على جلاء معنى التجديد. ولم يكن اتفاقهم اتفاق آراء شخصية، واجتهادات عقلية، وإنما كان اتفاقاً على فهم شرعي مصدره النصوص الشرعية. وعلى هذا فإن التجديد شرعي لفظاً ومعنىً.
فتجديد الشيء لغة كما جاء في لسان العرب معناه: تصييره جديداً. وجد الثوب أي صار جديداً. أما شرعاً فإن تجديد الدين يكون بإعادته جديداً، وبعثه وطرحه من جديد وبشكل يعيده إلى جدته. وإعادته جديداً كما بدأ يكون بطرح كل ما علق فيه مما ليس منه، وتنقيته من كل آثار الجاهلية. وإعادته جديداً كما بدأ يعني أن يقتصر فيه على الوحي، وتطبيقه بإحسان كما كان زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح المشهود لهم بالخير.
– لقد جاء في فيض القدير عن العلقمي في معنى التجديد: «إحياء ما اندرس من العمل من الكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما». وقال في مقام آخر: «يجدد ما اندرس من أحكام الشريعة، وما ذهب من معالم السنن، وما خفي من العلوم الظاهرة والباطنة».
– وقال «المناوي» في «فيض القدير»: «يجدد لها دينها أي يبين السنة من البدعة، ويكثر العلم وينصر أهله، ويكسر أهل البدعة ويذلهم».
– وقال «شمس الحق» في «عون المعبود شرح سنن أبي داود» في معنى التجديد: «إن المراد من التجديد إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة، والأمر بمقتضاهما، وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات».
– وقد ذكر السيوطي في جامعه الصغير: «المراد بتجديد الدين تجديد هدايته، وبيان حقيقته وأحقيته، ونفى ما يعرض لأهله من البدع والغلوّ فيه، أو الفتور في إقامته ومراعاة مصالح الخلق، وسنن الاجتماع والعمران في شريعته».
– أما المودودي فيذكر: «إن التجديد لا يكون عبارة التماس الوسائل لمسالمة الجاهلية، ولا هو عبارة عن إعمال خلط جديد من الإسلام والجاهلية، بل التجديد في حقيقته هو تنقية الإسلام من كل جزء من أجزاء الجاهلية، ثم العمل على إحيائه خالصاً محضاً على قدر الإمكان». ويقول عن المجدد: «ومن هنا يكون المجدد أبعد ما يكون من مصالحة الجاهلية، ولا يكاد يصير على أن يرى أثراً من آثارها في أي جزء من الإسلام مهما كان تافهاً» أي صغيراً.
– ويقول القرضاوي في معنى التجديد: «إن التجديد لشيء ما، هو محاولة العودة به إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر بحيث يبدوا مع قدمه بأنه جديد؛ وذلك بتقوية ما وهي منه، وترميم ما بلى، ورتق ما انفتق، حتى يعود أقرب ما يكون إلى صورته الأولى». ويضيف: «التجديد ليس معناه تغيير طبيعة القديم، أو الاستعاضة عنه بشيء آخر مستحدث مبتكر، فهذا ليس من التجديد في شيء». ويقول أيضاً: «ولا يعني تجديده إظهار طبعة جديدة منه، بل يعني العودة به إلى حيث كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم بإحسان».
ذكرنا بعض النصوص لأصحابها التي تبين التجديد على سبيل المثال لا الحصر، لنبين فقط وجود اتفاق في القديم والحديث على معناه. وإن كنت أرى أن المحدثين هم أجود في التعبير وأصدق لأنهم يعيشون واقعاً يحتاج إلى التجديد بينما السابقون كانوا يتصورون واقعاً يراد تجديده من غير أن يعيشوه.
وبالمختصر المفيد، فإن أقوال الأقدمين والمحدثين في التجديد تحمل معاني:
– تطهير الإسلام من أدناس الجاهلية وجلاء ديباجته حتى يشرق كالشمس ليس دمنها غمام.
– إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما.
– إماتة ما ظهر من البدع والمحدثات.
– العودة إلى ما كان عليه يوم نشأ وظهر.
– تنقية الإسلام من كل جزء من أجزاء الجاهلية.
– العمل على إحيائه خالصاً محضاً على قدر الإمكان.
– العودة به إلى حيث كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومن تبعهم بإحسان».
إن هذه المعاني المتفق عليها للتجديد هي مجملة، وهي تحتاج إلى تبني الأفكار والآراء والأحكام الشرعية التفصيلية اللازمة في عملية التجديد، وتبني الطريقة الشرعية التي تخرجها من إجمال صادق إلى تفصيل مبين يترجم ترجمة صادقة ما يرضي الله ورسوله وعباده المؤمنين، وينقل المسلمين إلى العيش في مجتمع إسلامي تماماً كالمجتمع الذي أوجده الرسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته، وحافظ عليه التابعون وتابعوهم بإحسان. مجتمع إسلامي ينقي القائمون عليه الإسلام ويحيون شعائره وأحكامه، ويميتون البدع والمحدثات، ويعيدون الإسلام على مسرح العلاقات الدولية، مجتمع إسلامي تكون دولته هي الدولة الأولى لما في ذلك من نشر للإسلام، الدين الحق، ومحوٍ لمنكر: الهوى والشهوات المتمثل بالمبدأ الرأسمالي النتن الذي يقف وراءه إبليس وأعوانه من شياطين الجن والأنس.
وقبل الخوض بشكل جدي، مبني على أصول شرعية منضبطة في موضوع التجديد لا بد من التعريج على أكثر من نقطة يجب أن تكون من المسلمات المتفق عليها بين المسلمين.
-
إن عملية التجديد لا تعني تبديلاً ولا تغييراً:
إن عملية التجديد، يجب أن ينتبه إلى أنها عبارة عن عملية إرجاع القديم جديداً كما كان يوم بدأ. فيحافظ على عقيدة الإسلام نقية صافية كما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم. فينقي كل ما علق بها من أتربة وينفض عنها الغبار، ويزال عنها كل ما طرأ عليها من عوامل التغشية، وأبهم الكثير من دقائقها، فتعرض تماماً كما كانت زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يوم لم يكن المسلمون قد تأثَّروا لا بفلسفة يونانية، ولا فلسفة هندية، ولا حتى بالفكر الغربي الرأسمالي الذي يحاول اليوم أن يؤثر على الفكر الإسلامي ويبعده عن نقائه وصفائه، ويحتويه ويجعله تابعاً له ولا يخرج عن إطاره.
وكذلك يجب المحافظة على التوجه الذي يمليه الحق، وهو السير في هذه الحياة بحسب أوامر الله ونواهيه، أي عبادة الله في كل صغيرة وكبيرة تماماً كما كان حين نزل. وعبادة الله تعني الرجوع إليه سبحانه في كل ما أمر. ومعلوم أن الشرع الإسلامي شامل لأنظمة الحياة جميعها، فلم يترك أمراً من أمور الدنيا والآخرة يهم الإنسان إلا وتكلم فيه. والعبادة الصحيحة تتطلب أن لا يقام بأي عمل إلا بدليل شرعي منضبط يؤدي إلى طاعة الله وحده، وإتباع رسوله وحده. وهذا ما يجب أن نحافظ عليه، لا أن يأتي آتٍ ليحل ما كان حراماً، أو يحرم ما كان حلالاً، تحت أي حجة. وما كان هذا الأمر مسموحاً به للخلفاء الراشدين المهديين، ولا الأئمة المجتهدين، ولن يكون مسموحاً به لأي أحد.
والعبادة الحقة تتطلب أن يكون للفقه أصول منضبطة تتناسب تماماً مع أفكار العقيدة الإسلامية. فالقول مثلاً: (حيثما يكن الشرع تكن المصلحة) أمر يتناسب أو يتوافق مع العقيدة التي تعتبر أن الله وحده هو المشرع، العليم، الخبير، بينما القول (حيثما تكن المصلحة فثم شرع الله) أمر لا يتناسب أو يتوافق مع العقيدة لأنها تتعارض مع الشرع الذي يعتبر أن الخلق والأمر لله وحده. ومثل هذا القول إذا اعتمد عليه قائلوه كقاعدة تضبط فهمهم في عملية التجديد فإن العملية تصبح تغييراً للدين وتبديلاً، وإن الأحكام الفرعية التي ستتأثر بهذه القاعدة ستتعارض مع الأحكام الشرعية الواضحة والقطعية.
وكذلك فإن قاعدة ( لا يُنكَر تغيّر الأحكام بتغير الزمان والمكان) ليست قاعدة شرعية، فإنها تتعارض مع الإيمان بأن حلال الله ورسوله حلال إلى قيام الساعة وحرام الله ورسوله حرام إلى قيام الساعة. وسينشأ من خلال هذه القاعدة التي تتعارض مع العقيدة الإسلامية، والأدلة الشرعية، أحكام جديدة غير قائمة على أدلة شرعية، وسيتم اعتبار الأحكام الشرعي أحكاماً قديمة مضى وقتها وذهبت فائدتها. وفي هذا كذلك تبديل للدين وتغيير له، وإطلاق لفظ التجديد عليه يكون من باب التلبيس والتدليس. وفيه خروج بعملية التجديد عن شرعيتها.
-
إن عملية التجديد يجب أن تكون شرعية:
إن ما يجب لفت النظر إليه بقوة هو أن الإسلام هو ذلك الدين الإلهي الذي يملك خاصيّة أساسية لا يمكن أن تتغير، وإذا تغيرت تغير الدين معها، ودخل التلاعب عليه، وهو أنه إلهي وشرعه شامل لكل شؤون الحياة. والعقل فيه له دوران:
العقل حَكَمٌ في الإيمان بالله، وأن محمداً رسول الله، والقرآن كلام الله. فالعقل هو المرجع في هذه الأمور يحكم على صحتها، ولا يجوز الإيمان بهذه الأمور الثلاثة بعيداً عن العقل. وبعد أن يحكم العقل بصحتها ينتقل إلى الإيمان بباقي الأركان عن طريق الإيمان بما ورد في النصوص الشرعية القطعية. والعقل ينحصر عمله هنا بالفهم وليس بالحكم. فهو لا يستطيع أن يحكم على وجود الملائكة، والكتب السماوية ما عدا القرآن، والرسل عليهم السلام ما عدا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، واليوم الآخر. ولكنه يؤمن بها لأنها ذكرت في القرآن.
أما بالنسبة للأصول والقواعد والضوابط الشرعية فهي ليست من صنع العقل، ولكن العقل يجتهد في معرفتها من الكتاب والسنة وما أرشدا إليه. وبما أن العقول تتمايز فإن الأصولي يجب أن يتميز بعقل يمكنه من عقل الأصول وضبطها، وكذلك المجتهد يجب أن يمتلك القدرة العقلية لفهم الواقع الذي يشكل مناط الحكم، ولفهم النصوص الشرعية التي يجب معالجة الواقع بها، ويجب أن يمتلك القدرة العقلية لاستنباط الحكم الشرعي…
إذاً، فالعقل حكَمٌ في الإيمان بالله ورسوله وكتابه، وتابع في باقي الإيمان والأصول والأحكام، وهذا ما يجب المحافظة عليه، وعدم الخروج عنه. فتحوّلُ المسلمين عن هذا، وإعطاء العقل مجالاً أكبر يحوّل الدين عن خاصيته الأساسية، وهو أنه إلهي، إلى دين عقلي يتدخل العقل في تشريعاته، ويصبح كغيره من التشريعات التي تتدخل الأهواء والشهوات في تشريعها.
-
السيادة العليا على النفوس والعقول هي المشرع:
يجب أن يستقرّ في خلد المسلمين أن السيادة العليا على النفوس والعقول هي للشرع. وأن محبة الله ودينِهِ يجب أن تتقدم على كل شيء: على محبة النفس وأهوائها، وعلى محبة الأهل، وعلى محبة الجماعة والحزب، وعلى محبة العالم أو الشيخ… أو أي أحد آخر. فمحبة الله هي أمر ثابت يدور حولها محبة كل شيء آخر. والولاء لله ولرسوله ودينه تقتضي من المسلم موالاة المؤمنين الصادقين المخلصين المتقيدين بأمر الله والبراء من كل ما سواهما أو يعارضهما. والكلام عن التجديد قد يطال بعض الرموز التي تجد من يواليها. وهذه الفئة هي على المحك. ويجب أن يبرز ولاؤها لله، وأن تُنصَحَ الجماعةُ إن أخطأت، أو يُترَك العالِم أو الشيخ الذي يثق به إن توالت أخطاؤه. فلا محاباة على حساب الشرع، فللحركة أو الحزب أو العالم أو الشيخ وزرهم إن أصروا على الخطأ. والعضو في الحركة، أو التابعُ للشيخ غير معذور على البقاء على موالاتهم، وإلا فإنه سيشاركهم في المعصية وسيبوء بالإثم وسيتبرأون من بعضهم يوم القيامة. وهذه الفئة يجب أن تتذكر أنها في البدء لم توالِ هذه الحركة أو تؤيد هذا العالم إلا محبة في دين الله، وهذه الفئة يجب أن لا تنسى أن الحركة مهما بلغ امتدادها، والعالم مهما بلغ شأنه، فاتهم ليسوا الهدف، وإنما الهدف هو مرضاة الله، وإنها لا تعمل لحزبها أو للعالم بل تعمل معهم لله. وهذه الفئة يجب أن لا تنقلب عندها المقاييس الشرعية، فلا تصبح أوامر هذه الحركة أو قول هذا العالم هو الثابت حتى ولو خالفت صريح الإسلام، وعليها أن لا تلجأ إلى تأويل الشرع ليتناسب مع قول الحركة أو العالم. وهذا أمر في غاية الانحراف في العمل الإسلامي، إن حصل. لذلك فإن من أراد الآخرة من أتباع ومتبوعين فإنهم يجب عليهم أن يسعَوا لها سعيها وهم مؤمنون، حتى يكون سعيهم مشكوراً.
وهنا ننتقل إلى نقطة هامة في هذا الموضوع وهي أن الحركة الإسلامية أو العلم الإسلامي يجب أن لا تأخذهم العزة برأيهم إذا تبين لهم الحق. فالحق أحق أن يتبع، ولا يُرضي الله إتّباع أوامره. والعمل في التجديد إن كان قائماً على الحق، فإن المسلمين كل المسلمين سينتفعون منه وإلا فإن الضرر كذلك سيكون عاماً على المسلمين.
(يتبع)
2016-09-27