الخلافة خيال عند الإعلاميين العرب حقيقة عند ساسة الغرب
2008/08/27م
المقالات
2,038 زيارة
الخلافة
خيال عند الإعلاميين العرب حقيقة عند ساسة الغرب
لقد تعودنا منذ فترة على سماع نفس التعليقات المتكررة والمستهجنة لفكرة الخلافة من قبل القنوات الفضائية المختصة في البرامج الحوارية. حيث يقوم منشطو الحوار بمقاطعة المداخل بمجرد ذكره للخلافة، ثم يعقبون عليه بشيء من التهكم والسخرية، معتبرين أن الفكرة في حد ذاتها وهم وخيال وحلم يحلم به كل من انسلخ عن الواقع وحلق بخياله في سماء الأوهام. نعم بهذا الشكل وبهذا الأسلوب وبهذا الغمز المبطن يستهزئ منشطو الحوارات من فكرة الخلافة ومن الداعين لها. ونحن وإن كنا ندرك حقيقة هذه الوسائل الإعلامية والدور الذي تقوم به والجهات التي تمولها وتقف وراءها، فإننا في الوقت نفسه ندرك كذلك خلفية هذه البرامج الحوارية وأبعاد خطتها المعتمدة.
إن هذه الخطة تحمل في طياتها أكثر من دهاء. فهي من ناحية أولى تحدث تشوشاً في الأفكار والمفاهيم فتلتبس القضايا على العامة فلا يدرون أين الحق وأين الباطل. ومن ناحية ثانية هي متنفس للشعوب الغاضبة بحيث تمكنهم في ساعة الغليان من التعبير عما يجيش في صدورهم من حقد وكراهية للأنظمة العميلة. ومن ناحية ثالثة هي مرآة تعكس ما يرغب في معرفته المسؤولون والمتابعون لحركة الشعوب من خلال تلك المداخلات والمشاركات لأخذ التدابير اللازمة في ذلك. وبمعنى آخر هي عملية جس لنبض الأمة واستكشاف درجة الوعي الفكري والسياسي فيها. فإن كانت المداخلات تتجه بشكل عام في نفس اتجاه الأنظمة فذاك يعني أن الأمة لازالت آمالها معلقة بحكامها، وهذا يفيد أن هذه الأنظمة لازالت في حالة من الأمان. أما إن كانت المداخلات تتجه بشكل واضح نحو الحل الجذري لقضية الأمة، وهذا يفيد أن هناك خطر بديل آخر يلوح في الأفق. ولذلك كانت التدابير والتعليمات تقتضي محاصرة هذا الفكر والتعتيم عليه إعلامياً. ومن هنا نفهم لماذا يقوم هؤلاء المنشطون بصد المداخل ومقاطعته عن مواصلة الكلام، ثم إقفال الخط عليه بمجرد ذكره لهذا البديل، وذلك لكي لا يصل كلامه وفكره ورأيه للمشاهد.
فلو كانت هذه البرامج بالفعل هي برامج جدية وهادفة إلى خير الأمة، وتبحث عن الرأي الصواب والحل الأنجع لما كانت لتتعامل مع المداخلات والمشاركات بمعيارين مختلفين، بحيث تعطي المجال الأوسع للمداخلات التي لا قيمة لها، وتضيق المجال وتغلق الخط في وجه من يحاول أن يعالج المسألة من جذورها. وللتحقق مما نقول يكفي أن تتابعوا بانتباه وتدبر تلك البرامج الحوارية. وانتبهوا جيداً للكيفية التي يتعامل بها المنشطون مع المداخلين. فسترون بأنفسكم كيف تجري عمليات تهميش القضايا وتشتيت الأفكار. وسترون كذلك كيف يسمح للغاضبين والمتشنجين أن يعبروا عن غضبهم وكيف يحرم الآخرون من تقديم حلولهم. فمثلاً لما تكون هناك هجمة شرسة من قبل يهود على الشعب المسلم الأسير في فلسطين، وتصل الأخبار والصور عبر البث الحي أو المنقول إلى الناس، وترى الأمة تلك المشاهد المرعبة لحالات القتل والدمار؛ تطل علينا في حينها وسائل الإعلام بتلك المنابر المفتوحة ليتصل المشاهدون بالقناة، ويعبّروا عن درجة غليان الدماء في عروقهم، ويبصقوا على الأنظمة المتخاذلة وعلى المغتصب الغاشم كما يقولون، وبهذا الشكل يكونون قد أخمدوا النيران التي في الصدور، وأنقذوا الأنظمة من ثورة محتملة. وكذلك الحال عندما تكون هناك هجمة من قبل الغرب على الإسلام ورسول الإسلام، تبادر تلك القنوات الفضائية بفتح هذا المجال لمتابعة ردات فعل المسلمين عن الحدث، ومن ثمة تبدأ المغالطات وتهميش الحدث بعرض جملة من الحلول السخيفة في محاولة لإقناعهم بفاعليتها وإيجابيتها، من مثل مقاطعة البضائع أو تشكيل لجان وفرق للحوار مع المسؤولين الغربيين أو مطالبتهم بتقديم اعتذارهم للأمة. ولما تحدث هزات في الأسواق المالية أو غلاء في المعيشة أو تحضير لمؤتمر أو اجتماع قمة عربية أو إسلامية أو انتخابات في بلد من البلدان، تقوم هذه الوسائل بأخذ ما يمكن أخذه من الآراء لجس نبض الأمة ومعرفة نسبة الوعي الفكري والسياسي فيها. فإذا كانت المداخلات تردد الشعارات والمصطلحات نفسها التي تستخدمها الأنظمة ووسائل إعلامها من مثل الهدنة والتطبيع والحوار مع العدو والديمقراطية والواقعية وما إلى ذلك تُرِِكَ المجال واسعا أمام المداخل ليكمل طرحه، حتى وإن كان طرحاً ساذجاً وسخيفاً، أما إذا كان المداخل من لون آخر، وانهال على أصل الفكرة يفككها ويبين فسادها وفساد الحلول الجزئية والترقيعية، وأعطى حله وعلاجه الشامل والكامل للقضية، وذكر دولة الخلافة، هنا يتمعر وجه مدير الحوار ويقاطعه، ثم يعقب عليه بتهكم بقوله مثلاً: «أليس لكم من حل إلا الخلافة» أو «أعطونا الحل الآني ودعونا من الحلول الوهمية» أو «أنتم لازلتم تسبحون في عالم الأحلام» أو «الخلافة حلم جميل ولكننا الآن على أرض الواقع ونعيش في القرن الحادي والعشرين» وهكذا كلما ذكرت الخلافة جاء تعليق المنشط عليها بكلام يفهم منه استهجانه للفكرة. والعجيب أننا لم نسمع في المقابل ولو تعليقاً واحداً من هذا العيار على وهم الديمقراطية التي لازال يحلم بها الكثيرون، ومنهم هؤلاء المنشطون.
إن فكرة الخلافة التي يتهكم عليها هؤلاء الذين نحسبهم منا وينتمون بهويتهم إلى هذه الأمة هي من صميم أفكار الإسلام وليست فكرة دخيلة عليه كالفكرة الرأسمالية والديمقراطية والاشتراكية. بل هي من أمهات أفكاره، وهي نظام حكمه. وقد وردت أحاديث كثيرة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تبين ذلك منها ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ». قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ». وما رواه أحمد عن حذيفة (رضي الله عنه) في حديث يبشر بعودة الخلافة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ سَكَتَ».
إذن من استهزأ بالخلافة أو تهكم عليها أو اعتبرها وهماً وخيالاً وحلماً لكأنما سفّه هذه الأحاديث واستنقص من شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، سواء أدرك ذلك أم لم يدركه، لأن فكرة الخلافة ونظام الخلافة ليس من اختلاق المتحدث ولم (يفبكرها) من عنده، بل أخذها كغيره من المسلمين من الإسلام ومن الأدلة الشرعية التي جاءت تبين ذلك. ولهذا كان الاعتراض على هذه الفكرة أو الاستنقاص منها جرم عظيم.
ثم لماذا لم يوجه هؤلاء الإعلاميون، وهم أصحاب هذه الصناعة، انتقاداتهم إلى المفكرين والسياسيين وأصحاب القرار في العالم الغربي، ولم يتهكموا عليهم أو يسخروا منهم مثلما يفعلون مع أبناء الأمة حينما يسمعونهم يتحدثون عن الخلافة ويحذرون الشعوب والأمم من قرب شبحها. لماذا لم يسفهوهم ويقولوا لهم دعوكم من هذه الأوهام التافهة، ولا يليق بكم مثل هذا الكلام؟ إنهم في الحقيقة لا يستطيعون قول ذلك لسبب واحد، ألا وهو أن قادة العالم الغربي والمفكرين السياسيين والباحثين الاستراتيجيين لا ينظرون للعالم بأعين هؤلاء الذين يعيشون بعيداً عن حركة التاريخ. ولذا لا قيمة لهم ولا وزن لأرائهم وأقوالهم. لأن قادة الغرب هم الذين يقودون العالم اليوم ويترصدون حركة الشعوب والأمم ولا يغفلون شيئاً ولا يتجاهلون أي أمر. ولذا هم على نقيض هؤلاء الأتباع النائمين والغافلين، وهم في حالة قصوى من الفزع والخوف والحذر من عودة الخلافة إلى المحفل الدولي. وإليكم بعضاً من الصور والأمثلة التي تبين لكم الفارق بين الباحثين والإعلاميين العرب والساسة والقادة والمفكرين والباحثين الغربيين، وتفاوت نسبة الوعي والنضج الفكري والسياسي بينهما، واختلاف نظرتهما للواقع، واستقراء المؤشرات والتسطيح والتعمق في دراسة حركة الشعوب والأمم.
ففي مقال نشرته (سويس إنفو swissinfo بتاريخ 13/12/2006م نقلاً عن وكالة رويترز للأنباء- الرياض) لـ”إندرو هاموند” تحت عنوان: “خبراء: الخلافة الإسلامية حلم لا حقيقة” يقول: “شكلت إقامة خلافة أو إمبراطورية إسلامية جزءاً من رؤية تنظيم القاعدة للعالم.. وهي رؤية سببت فيما يبدو حالة من القلق لواشنطن. لكن خبراء [يقصد الخبراء العرب] يقولون إنها ستظل مجرد حلم للمتشددين”.. ثم ينقل لنا آراءهم في المسألة.
فالمحلل السعودي “فارس بن حزام” يقول : «القاعدة قد تستطيع إقامة دولة إسلامية في غرب العراق إذا لم يكن هناك جيش أميركي. لكن سيكون من الصعوبة بمكان بالنسبة لهم أن يخترقوا أي دولة أخرى حيث يوجد جيش وجهاز للدولة». ثم يضيف: «حلمهم الكبير هو إقامة دولة إسلامية، لكن ليس هناك ما يشير إلى أن هذا قد يحدث… ومن بين المشاكل التي سيواجهونها ذلك التنوع الهائل في الأنظمة الدينية والسياسية في الشرق الأوسط اليوم، وليس أقلها الخلاف بين السنة والشيعة الذين يدور بينهم جدل مرير بشأن الخلفاء الأربعة للرسول محمد».
وأما “مضاوي الرشيد” المتخصصة في العلوم الإنسانية والمقيمة في لندن فقد قالت «أستطيع أن أرى العالم العربي بأسره ينـزلق إلى العنف الطائفي؛ لهذا لا أرى إمكانية قيام هذه الخلافة». ومضت تقول: «اليوم في القرن الحادي والعشرين هذا حلم للنشطاء المسلمين». وأضافت «هذا مجرد جزء من حرب الشعارات (التي يشنها تنظيم القاعدة)».
ويقول المؤرخ اللبناني كمال صليبي: «إن المنطقة فشلت في التوحد تحت لواء القومية العربية بعد الحرب العالمية الثانية. وأضاف ” لم تنجح (فكرة التوحيد) مع القومية العربية، ونجاحها مع الوحدة الإسلامية أقل… احتمال أن تتخلى الدول عن سيادتها أصبح الآن أبعد من أي وقت مضى».
وأما أسعد أبو خليل، وهو لبناني يقوم بتدريس العلوم السياسية في جامعة ولاية كاليفورنيا، فإنه يقول: «بالنسبة لمعظم الأحزاب السياسية التي تتبع الإسلام السياسي، سواء من التيار السائد أم من التيار الأقل درجة منه، فإن حدود الدولة المعاصرة تم قبولها». وأضاف «ليس هناك أي مصداقية على الإطلاق لفكرة أن السعي إلى الخلافة هو الهدف الأكبر للحركة الإسلامية في المنطقة».
هذه هي أراء بعض الخبراء العرب حول إمكانية عودة الخلافة إلى المنطقة، وهي أراء تدل على السطحية في التفكير وعدم النضج السياسي وقصور النظر. وذلك واضح في عدة نقاط أثاروها:
أولها: قولهم إن ثمة مشكلة طائفية في المنطقة تتمثل في النـزاعات القائمة بين السنة والشيعة وهذه النـزاعات هي العائق الأكبر، حسب تخمينهم، أمام قيام الخلافة التي من المؤكد أنها سوف لن يرضى عنها الطرفان المتنازعان والمتناقضان في الرؤية والتصور لشكل الحكم. وهذا الكلام محض افتراء وكذب وإثارة للفتنة بين المسلمين، إذ التنوع في الأفكار كان موجوداً وسيبقى قائماً ما دام هناك أتباع لهذه المدارس الفكرية، ولكن هذا التنوع لا يمثل عائقاً أمام قيام الخلافة، وإنما العائق والعقبة أمام قيامها هم الحكام والأنظمة العميلة، كما أن سقوطها في الماضي كان على يد خونة العرب والترك.
ثانيها: قولهم بأن القومية العربية فشلت في تحقيق الوحدة العربية وبالتالي لن تنجح الفكرة الإسلامية في توحيد شعوب المنطقة. وهذا الرأي واضح فيه الخلط بين نقيضين وقياس المعدوم على المعلوم؛ لأن الفكر القومي هو الذي سبّب الفرقة بين المسلمين، وهو الذي أوجد النعرات والصراعات والحروب بينهم، وهو الذي قسّم الأمة إلى عرب وترك وكرد وفرس وبربر. أما الإسلام فإنه الفكر الوحيد الذي يقضي على هذه النعرات، ويصهر جميع الشعوب والقوميات في بوتقته، ويشكلهم جميعاً في قالب واحد ألا وهو الإسلام. هذا من ناحية التناقض بين الفكرتين. أما من حيث القياس، فإنهم ذهبوا في ذلك إلى قياس مشروع معدوم لم يتحقق ولن يتحقق، ألا وهو مشروع الوحدة العربية، على المشروع الإسلامي الذي وحد العالم الإسلامي سابقاً وبإمكانه أن يوحده مجدداً. فالعودة بالعالم الإسلامي إلى هذه الوحدة أقرب إلى التصور من إمكانية توحيده على أساس فكرة وهمية لم يتحقق لها النجاح كالوحدة العربية، مع أن الداعين لها لازالوا في الحكم.
ثالثها: مسألة السيادة والحدود، إذ يعتبرون أن الدول القائمة في المنطقة صارت لها سيادة واستقلال وأن الحدود الحالية أصبحت أمراً مقبولاً. فلا يمكن أن تفرط في هذه السيادة ولا يمكن أن تتخلى عن حدودها. وهنا نتساءل من الذي يتمسك بهذه السيادة المزعومة والحدود المصطنعة، أهي الأنظمة والبيادق الذين يحكموننا أم الأمة التي لا ترضى إلا بسيادة الإسلام وتسعى لإلغاء هذه الحدود لتتوحد في كيان واحد متمثل في دولة الخلافة؟ نظن أن الجواب واضح. إن الأمة هي التي تسعى اليوم لإبطال هذه السيادة الزائفة وكسر هذه الحدود المصطنعة التي أقامها الكافر المستعمر ليفصل الأمة عن بعضها.
رابعها: قولهم بأن هذه الفكرة لا تزيد عن كونها حرب شعارات، وأن إمكانية تحقيق هذا المشروع في القرن الحادي والعشرين هو ضرب من ضروب الخيال، وهذا الرأي مستوحى من سياسة الشعارات التي تستخدمها الأنظمة لتستهوي بها العقول الساذجة، إذ الخلافة ليست شعاراً وإنما حقيقة. أما استهجانهم لقيامها في القرن الحادي والعشرين فهو استهجان يعكس حقيقتهم، أي يعكس الانهزامية واستحقار الذات. لأنهم يرون أنفسهم جزءاً من العالم الثالث المتخلف الذي لا يقوى على الصمود أمام دول العالم المتقدم الذي يملك القوة والتكنولوجيا والعلوم، وبحوزته القوة المادية والعسكرية, ولهذا هم في شك من نجاح هذا المشروع لاعتقادهم المبني على الظن بأن الدول الغربية وعلى رأسها أميركا سوف تتدخل بقواتها. وبالتالي ستحسم الأمر لصالحها ولن تسمح للمتطرفين أن يقيموا مشروعهم المتمثل في دولة الخلافة. هذا هو اعتقادهم وهذا هو وهمهم. وهنا لا نريد أن نتولى نحن الرد على هذا الاحتمال الذي يوحي بالسطحية وقصور النظر، وإنما سأترك الإجابة لقادة الغرب وساسته ومفكريه وخبرائه ليردوا عليهم ويعلموهم دراسة الواقع واستشراف المستقبل من خلال تنافس الأيديولوجيات وصراع الحضارات، كما توحي به مؤشرات الأحداث وليس كما يتوهمون هم.
ففي المنتدى الذي عقد في دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، تحت عنوان “الحرب على الإرهاب”، أكد الجنرال الأميركي “ويسلي كلارك” القائد السابق لقوات حلف شمالي الأطلسي “الناتو”، أن المعركة التي تقودها الولايات المتحدة ضد ما تسميه بـ”جماعات الإرهاب في العراق”، لن يتم حسمها من خلال المواجهات العسكرية. كما دعا في الجلسة العامة للمنتدى الاستراتيجي العربي، وفق ما نقلته CNN, إلى تطوير سياسة بلاده تجاه المنطقة، عبر الدفع باتجاه تطوير العملية التفاوضية مع دول الجوار. ثم وجه انتقاداته اللاذعة لأداء الجيش الأميركي بالعراق، كما أنه دعا إلى تغيير كامل في الاستراتيجية الأميركية تجاه العراق والمنطقة بشكل عام، مؤكدًا أن الحرب يجب أن تخاض على مستوى “الأفكار” بالدرجة الأولى. واختتم قائلاً: «إن الفوز لا يكون عبر فوهات البنادق، بل عبر كسب قلوب وعقول الناس». إلا أنه حذر في المقابل، من اعتماد “التنظيمات الجهادية” لأسلوب عمل جديد، يقوم على “اجتذاب الأميركيين إلى التدخل في نقاط ما، ثم ضربهم واستنـزافهم، وهدم المؤسسات القائمة، وإحلال الفوضى، كي يتمكنوا لاحقاً من ملء الفراغ الموجود بنظام الخلافة الذي يريدون فرضه”, على حد قوله. ( منقول مع بعض الاختصار عن – مفكرة الإسلام- بتاريخ : 18 من ذو القعدة1427هـ 8/12/2006م).
فهذا الجنرال الأمريكي صاحب الخبرة والتجربة والذي ينتمي إلى أقوى دولة حالياً، وبيده التكنولوجيا الحديثة والقوة العسكرية، وكان في السابق قائداً لحلف شمالي الأطلسي، يعترف بأن الفكر أقوى من الأسلحة والتقنية. بل ينصح بلده والعالم بأسره بعدم استعمال القوة المادية لأنها لا تحقق الأهداف، وإنما عليهم أن يتحولوا ومن الآن إلى المعركة الفكرية، ويتخلوا عن المعارك العسكرية. فهل هذا الرجل الذي يتحدث بهذا الكلام غبي وتلف عقله فعاد لا يدري ما يقول، أو أن خبراءنا هم الذين تلفت عقولهم فلا يدرون ما يفعلون أو ما يقولون؟
وهذا رجل آخر من الساسة المعروفين وصديق لحكام العرب وهو “دونالد رامسفيلد” الوزير السابق للدفاع الأمريكي يقول في تعليق له حول مستقبل العراق، وكان ذلك في جامعة ” جون هوبكنـز” بتاريخ 5/12/2005 يقول: (ستكون العراق بمثابة القاعدة للخلافة الإسلامية الجديدة التي ستمتد لتشمل الشرق الأوسط، وتهدد الحكومات الشرعية في أوروبا وأفريقيا وآسيا، وهذا هو مخططهم، لقد صرحوا بذلك وسنقترف خطأ مروعاً إذا فشلنا في أن نستمع ونتعلم). انظر لهذه العبارة وتأمل فيها جيداً (سنقترف خطأً مروعاً إذا فشلنا في أن نستمع ونتعلم) فالرجل يحذر العالم تحذيراً شديداً من تجاهل هذا الأمر والغفلة عنه. ويعتبر أن أي استخفاف أو عدم الاستماع والتعلم سيؤدي بهم إلى اقتراف أعظم خطأ في التاريخ. فلماذا يا ترى هذا الوزير صاحب هذا المنصب المعلوم في حينه لم يسخر من هذه الفكرة ولم يستهجنها كما يستهجنها هؤلاء؟
وإذا كان ما سبق غير كاف ولا يعتبر استقراءً سليماً للواقع وأنهم، أي الخبراء والإعلاميين العرب أعلى درجة في استقراء حركة المجتمعات والشعوب ويفهمون مؤشرات التغيير أحسن منهم فنضيف إليكم التالي:
يقول الـ”د. أحمد القديدي” وهو تونسي مقيم في الخارج في مقال نشر له في صحيفة الشرق القطرية الصادرة يوم 17/5/2006م تحت عنوان “العلماء الأميركيون يتوقعون عودة الخلافة عام 2020م يقول «في الصفحة 83 من التقرير الخطير الصادر هذه الأيام عن مؤسسة “روبير لافون” للنشر الباريسية بعنوان: كيف ترى المخابرات الأميركية العالم عام 2020م؟ نقرأ الفقرة التالية: سوف يتمتع الإسلام السياسي من هنا إلى عام 2020 بانتشار واسع على الصعيد العالمي، ونتوقع أن ترتبط الحركات الإسلامية العرقية والوطنية ببعضها البعض، و تسعى ربما إلى تأسيس سلطة تتجاوز الحدود القومية». ويتابع فيقول: «هذا بالضبط ما يتوقعه علماء أميركيون وأشهرهم على الإطلاق عالم الاجتماع وأكبر خبراء استشراف المستقبل “ألفين توفلر” صاحب كتاب -صدمة المستقبل- و العالم “تيد غوردن” أكبر خبراء المشروع: ميلينيوم بروجكت الذي أنجزته منظمة الأمم المتحدة، و العالم “جيم ديوار” من مؤسسة راند كوربوريشن، والعالم “جاد ديفيس” المخطط لكل برامج شركة شل البترولية و غير هؤلاء من الأعلام الذين لا يشق لهم غبار في علوم استشراف المصير». ويضيف: «وبالطبع فان هذه الكوكبة من الأساتذة الجهابذة عملوا لمدة عامين لفائدة الوكالة المركزية للمخابرات بواشنطن، وخرجوا بتقرير خطير وأمين يرسم ملامح العالم بعد 15 سنة من اليوم، كما يرونه و من خلال المؤشرات التي بين أيديهم». انتهى كلامه.
ولا ندري لماذا هذه الجهود التي تهدر وهذه الأموال التي تنفق وهذه الأبحاث التي تنشر في شأن قضية وهمية يعتبرها البعض حلماً وخيالاً؟
أما جريدة “مليات” التركية فقد ذكرت في 13/12/2005م نقلاً عن صحيفة نيويورك تايمز أن «أصحاب الصلاحية في إدارة بوش باتوا يتداولون كلمة «الخلافة» في الآونة الأخيرة كالعلكة. لقد باتت إدارة بوش تستخدم وصف الخلافة قاصدةً به الإمبراطورية الإسلامية، التي كانت في القرن السابع تمتد من الشرق الأوسط وحتى آسيا الجنوبية، ومن شمال أفريقيا إلى إسبانيا…». وكتب المعلق الأميركي ” كارل فيك” في صحيفة الواشنطن بوست، في 14/1/2006م، تقريراً مطولاً ذكر فيه أن «إعادة إحياء الخلافة الإسلامية، الذي يهاجمه الرئيس الأميركي جورج بوش، يتردد في أوساط السواد الأعظم من المسلمين»، وذكر أن «المسلمين يعتبرون أنفسهم جزءاً من «الأمة» التي تشكل قلب الإسلام، كما ينظرون إلى الخليفة كشخص جدير بالاحترام». وأشار هذا المعلق إلى أن «حزب التحرير، الذي ينشط في عدد من البلدان عبر العالم، يصرح بأن هدفه هو إعادة الخلافة لسابق عهدها».
وفي 5/9/2006م عاد جورج بوش ليتحدث عن الخلافة فقال: «إنهم يسعون إلى إقامة دولتهم الفاضلة الخلافة الإسلامية، حيث يُحكم الجميع من خلال هذه الأيديولوجية البغيضة، ويشتمل نظام الخلافة على جميع الأراضي الإسلامية الحالية».
وفي 11/10/2006م أكد بوش 3 مرات أثناء مؤتمر صحفي مطول في البيت الأبيض أن وجود أميركا في العراق هو لمنع إقامة دولة الخلافة التي ستتمكن من بناء دولة قوية تهدد مصالح الغرب وتهدد أميركا في عقر دارها.
وأكد أن المتطرفين المسلمين يريدون نشر أيديولوجية الخلافة التي لا تعترف بالليبرالية ولا بالحريات؛ ولهذا يريدون لنا أن نرحل، ولكننا باقون حتى لا نندم، وليعلم الشعب الأميركي حينئذ أن وجودنا في العراق كان يستحق المغامرة والرهان. هؤلاء المتطرفون يريدون إرهاب العقلاء والمعتدلين وقلب أنظمة حكمهم وإقامة دولة الخلافة.
إن مغامرة الرحيل عن العراق خطرة جداً، إنها تعني التخلي عن جزء من المنطقة للمتطرفين والراديكاليين الذين سيمجدون النصر على الولايات المتحدة، وستمنحهم هذه المنطقة التي نخليها الفرصة للتآمر والتخطيط ومهاجمة أميركا واستغلال الموارد التي ستمكنهم من توسيع رقعة دولة الخلافة.
وفي خطاب لبوش بتاريخ 25/10/2006م قال :
إن الفشل في إقامة دولة في العراق سيمكّن “المتطرفين من استغلال البلاد لإقامة إمبراطورية متشددة من إسبانيا إلى إندونيسيا”.
وأما رئيس الوزراء الأسبق “توني بلير” فإنه قال في المؤتمر العام لحزب العمال بتاريخ 16/7/2005م حول تفجيرات لندن في 7/7/2005م: «إننا نجابه حركة تسعى إلى إزالة دولة إسرائيل، وإلى إخراج الغرب من العالم الإسلامي، وإلى إقامة دولة إسلامية واحدة تُحكِّم الشريعة في العالم الإسلامي عن طريق إقامة الخلافة لكل الأمة الإسلامية».
وقال وزير الداخلية البريطاني “تشارلز كلارك” في كلمة له في معهد هيرتيج في 6/10/2005م «لا يمكن أن تكون هناك مفاوضات حول إعادة دولة الخلافة، ولا مجال للنقاش حول تطبيق الشريعة الإسلامية».
وفي الحقيقة هناك عدة أبحاث ودراسات مطولة حول هذه القضية التي تؤكد على قرب انتصار الإسلام وقيام دولة الخلافة، لكننا نكتفي هنا بما نقلناه. المهم أن هؤلاء الذين يتحدثون بجد عن الخلافة ويرون عودتها ممكنة هم كفار، لكن رغم ذلك لم يتعاملوا مع فكرة الخلافة بالكيفية نفسها التي يتعامل بها هؤلاء الإعلاميون والمفكرون العرب، ولم يستخفوا بها ولم يعلقوا عليها بمثل أقوالهم.
أيها المسلمون
اعلموا أن الله لا يغير حالنا بحال أفضل إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا، هذا هو شرط الله علينا، فلا تتمسكوا بالأفكار الدخيلة التي غزت عقولكم، فهي سبب شقائكم وتعاستكم، فاجتهدوا لتتحرروا منها، وعودوا إلى الإسلام، ولا تتنكروا لأفكاره، فهو المخرج من هذا الذل، وهو العزة والسعادة في الدارين، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد 11]. فاتقوا الله وراقبوا أقوالكم وأفعالكم من قبل أن تحاسبوا. (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق 18].
2008-08-27