تاج الفروض: الخلافة
2016/09/27م
المقالات
2,831 زيارة
تاج الفروض: الخلافة
بقلم: محمد الشويكي
لا يختلف اثنان من أهل العلم والتقوى في فرضية العمل لإقامة الخلافة واستئناف الحياة الإسلامية على جميع المسلمين، لا فرق بين مجتهد منهم ومقلد فكلهم أمام هذا التكليف سواء، والأدلة على ذلك كثيرة: منها: قوله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) وقوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ).
فخطاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم خطاب لجميع أمته، كما تقرر في أصول الفقه، وبذلك يجب على جميع المسلمين أن يُحكّموا كتاب الله تعالى في جميع شؤون حياتهم، ولا يتم ذلك إلا بتنصيب خليفة لهم من أنفسهم ينوب عنهم في تسيير هذه الشؤون بشرع الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، عملاً بالقاعدة الشرعية (مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
ومن الأدلة أيضاً: قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح من رواية مسلم: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».
فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم في عنق كل مسلم بيعة لخليفة، لأن البيعة لا تكون إلا لخليفة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وانه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم».
إذن فوجوب البيعة مقترن بوجود خليفة، وما لا يتم الواجب (وهو البيعة) إلا به (وهو الخليفة) فهو واجب.
ومن الأدلة أيضاً: تقديم الصحابة رضي الله عنهم العمل بالاشتغال بتنصيب خليفة يستأنف الحياة الإسلامية التي بدأها النبي صلى الله عليه وسلم على كل شيء، وذلك يوم السقيفة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم دون إنكار أحد منهم على ذلك، فكان إجماعاً، وهو حجة كالكتاب والسنة.
وعلى ما تقدم نستطيع أن نقول بأنه لا عذر لأحد من الأمة في تخلفه وقعوده عن العمل لإيجاد الخلافة الإسلامية التي تستأنف الحياة الإسلامية إلا بدليل شرعي، لأن الأدلة التي ذكرناها عامة تشمل جميع المسلمين، ومطلقة غير مقيدة.
ثم إضافة لما سبق من الأدلة، فإن فرض استئناف الحياة الإسلامية بتنصيب خليفة ليس فرضاً موسعاً أو على التراخي كفرض الحجج مثلاً، بل هو فرض مضيق ومؤقت بمدة محددة وعلى الفور، كفرض الصوم في رمضان، وقد دل على ذلك إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم طعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله، عنه فقد روى ابن حِبّان في صحيحة والطبري في تاريخه وابن سعد في طبقاته الكبرى: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم طعن، جعل الخلافة شورى في الستة المبشرين بالجنة، وأجّلهم ثلاثة أيام، ووضع عليهم خمسين رجلاً وأمرهم أن يضربوا أعناق الستة إن لم يستقيموا. وفي رواية أخرى “أن يضربوا المخالف منهم” وقال: “ولا يأتينّ اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم” وقد حصل هذا والصحابة رضي الله عنهم متوافرون ولم يثبت عن أحد منهم إنكار لذلك.
ويأتي تطبيق عمر لهذا الفرض وموافقة الصحابة له في هذه الكيفية من أجل عدم فوات أداء الفروض وعدم تعطيلها، كإقامة الحدود وبعث الجنود، وللحفاظ على دار الإسلام من أن تصبح دار كفر بعد استئناف الحياة الإسلامية فيها. كيف لا يكون هذا هدفهم وهم قد سمعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدوداً فلا تنتهكوها».
ومن المعلوم أنه لا يجوز تأخير الفرض المضيق عن وقته إلا بعذر شرعي كمرض ونحوه، فتأخير الصلاة عن وقتها من غير عذر معصية، وتأخير صوم رمضان عن وقته من غير عذر معصية، وتأخير الجهاد إذا نزل العدو بلاد المسلمين أو اغتصبها معصية، وكذلك تأخير تاج الفروض وحافظها عن وقته (وهو ثلاثة أيام) من غير عذر معصية.
والحاصل أنه لم يثبت عن الشارع ما يدل على أن الاشتغال عنه بالعبادة النافلة يعتبر من الأعذار الشرعية، كالاشتغال بأداء مناسك العمرة أو بحفظ القرآن والسنن، أو ببناء المساجد وغير ذلك، كما لم يثبت أن الشرع اعتبر الاشتغال بالاجتهاد في طريقة إقامة تاج الفروض (الخلافة) عن التلبس بالعمل لإيجادها من الأعذار الشرعية كما يتوهم البعض، سيما إذا استغرقه الاجتهاد أكثر من ثلاثة أيام، لأنه ضيّق بهذه المدة كما دل عليه الإجماع آنفاً، بل على العكس فقد وجد من أهل العلم من سلفنا الصالح من قال بأن من بلغ رتبة الاجتهاد ولم يدر كيف يقوم بالفرض المضيق، فلا عذر له بالاجتهاد في كيفية أدائه إذا فات وقته، فعليه أن يقوم به ويقلد من سبقه إلى الاجتهاد في طريقة وكيفية أدائه ولو كان في نظره مخطئاً، كي لا يفوته الفرض ومن ثم يقع في المعصية.
قال إمام الحرمين في البرهان في أصول الفقه: “المجتهد في القبلة إذا كان من أهل الاجتهاد وضاق الوقت وخاف فوات الصلاة لو اشتغل بالاجتهاد، فله أن يقلد مجتهداً آخر”.
وقال في موضع آخر من نفس الكتاب: وكذلك المجتهد إذا استشعر الفوات لو اشتغل بالاجتهاد في الأحكام فله أن يقلد مجتهداً.
وذكر ابن السبكي في الإبهاج والآمدي في الإحكام المواضعَ التي يجوز للمجتهد تقليدُ غيره فيها، وذكروا منها: أنه يجوز ذلك -أي التقليد- بما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد.
وقال ابن دقيق العيد كما في البحر المحيط: وقيل إن ضاق الوقت عن الاجتهاد فله ذلك -أي أن يقلد- قال: وهذا قريب، لأن المكنة التي جعلناها سبباً لوجود الاجتهاد قد تعذرت لسبب ضيق الوقت.
بل هناك من العلماء من منع تقليد المجتهد للمجتهد في مثل هذه الحال وأوجب عليه أن يقوم بالفرض المؤقت أو المضيق كيفما كان حتى لا يفوت الوقت. قال أبو بكر بن الباقلاني في التلخيص: فإنا وإن منعناه من التقليد فيتعين عليه إقامة الفرض من غير اجتهاد على ما يتفق، ولا يجعل الاجتهاد شرطاً في إقامة فرض الوقت.
فواضح من كلام هؤلاء العلماء المجتهدين أنهم لم يجعلوا الاجتهاد في كيفية أداء الفرض رخصة في عدم الشروع بالفرض، بل لو ثبت ذلك لما خفي على مثلهم، وهم من هم في العلم والاجتهاد.
كما أن من المعلوم عند أهل العلم بالاجتهاد أنه إذا اجتهد أحد المجتهدين في حادثة وأعطى فيها حكماً، فقد سقط الفرض وهو الاجتهاد فيها عن باقي المجتهدين، على اعتبار أن الاجتهاد في المسائل العامة فرض على الكفاية لا فرض عين كما هو مقرر في الأصول، وهذا يعني أن الاشتغال بالاجتهاد في قضايا اجتهد فيها وأُعطي فيها حكم يعتبر نفلاً لا فرضاً على الكفاية، وهذا ليس معصية ولا إثم على تركه، بخلاف الفرض فإن تركه معصية دائمة.
وعليه فإن من يترك التلبس بالعمل لإقامة تاج الفروض (الخلافة) واستئناف الحياة الإسلامية بحجة الاشتغال بالاجتهاد في طريقة القيام بهذا الفرض، يكون قد ضيع هذا الفرض لأنه مضيق ومؤقت، ويكون قد فعل النافلة وترك الفرض، حيث أن هذه القضية وهي طريقة العمل لاستئناف حياة إسلامية وإيجاد الخلافة الإسلامية قد اجتهد فيها غيره كالشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله تعالى وأعطى فيها حكماً وكشف لنا عن دليلها، فإن الذي ينشغل بالاجتهاد في هذه الطريقة عن الشروع في العمل لإقامة هذا الفرض وقد سبقه إلى الاجتهاد فيها غيره وانتهى، كمن ينشغل بالاجتهاد في تعيين اتجاه القبلة عن الشروع في فرض مضيق كصلاة الجمعة، مع وجود من اجتهد في تعيينها وانتهى، فيكون بذلك قد ارتكب معصية بتركه لصلاة الجمعة أو الانشغال عنها.
أمر آخَر لا بد من الانتباه إليه، وهو أنه عند تزاحم الفروض يقدَّم الأولى والأهم منها، مع العلم أن الأولوية والأهمية يقررها الشرع وليس الهوى ولا العقل. وقد تزاحمت الفروض يوماً مع هذا الفرض (وهو تنصيب الخليفة) وذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقدم الصحابة رضي الله عنهم حينها الاشتغال بتنصيب خليفة على إتمام بعث أسامة بن زيد، وهذا جهاد في سبيل الله، وعلى محاربة المرتدين، وعلى تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل قطعاً على أن الاشتغال بفرض الفروض وتاجها وحافظها أولى وأهم من غيره كما دل عليه إجماعهم الفعلي رضي الله عنهم.
فعلى فرض أن الاجتهاد في الطريقة بقي فرضاً لا نفلاً عند المكابرة والعناد، فإنه لا يمكن أن يُقدَّم على الاشتغال بحمل الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية لأنه ليس بأولى ولا بأهم من الجهاد في سبيل الله ومن الحفاظ على العقيدة الإسلامية، فقد قدم الصحابة رضي الله عنهم الاشتغال بهذا الفرض، الحافظ لكل الفروض، عليها وهي من أعظم الفروض التي فرضها الله عز وجل.
فإذا كان تقديم فروض الكفايات على فرض استئناف الحياة الإسلامية يعتبر معصية وإثماً، كما دلت الأدلة عليه آنفاً وخصوصاً أنه فرض مضيق، فمن باب أولى أن تقديم النوافل عليه أياً كان نوعها لا يجوز ويعتبر معصية وإثماً.
إلى ذلك فإن الشرع قد بين أن النافلة لا تساوي الفريضة، فكيف تقدم عليها؟ قال الله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ) وفي الحديث الصحيح من رواية البخاري: «وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه».
فإذا كان هذا حكم من ينشغل عن فرض الوقت ولو بفرض آخر أو بنافلة، فماذا يمكن أن يكون حكم من ينشغل عنه بالمباحات الدنيوية التي لا ثواب على فعلها، فهو بلا شك يعتبر آثماً وعاصياً لله تعالى. فكيف بمن من ينشغل عنه بالمحرمات، التي ظنوها من المباحات أو من الواجبات، كإقامة وإنشاء ما يسمى بالبنوك الإسلامية، أو ما يسمى باليانصيب (القمار) الخيري، وبيوت المال الوطنية، والشركات المساهمة، أو الانشغال بالصلح مع اليهود ويعتبرونه فرض الوقت، أو كالدعوة للوطنية والديمقراطية، ووحدة الأديان والموآخاة بين المسلم والكافر، وكإلغاء الجهاد عن طريق ما يسمى بمحاربة الإرهاب. وغير ذلك من الأمور التي ظنوها فرضاً وحاولوا إقناع الناس بذلك، وهي حرام ولا يجوز شرعاً الالتفات إليها فضلاً عن الاشتغال بها وترك فرض الوقت، فهو أشد حرمة وأعظم جرماً لأنه تضليل ما بعده تضليل.
إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد أمر بضرب أعناق الستة المبشرين بالجنة إن لم يخرجوا في اليوم الثالث من اجتماعهم ومشاورتهم، بخليفة منهم يرأس المسلمين، وهم قد انشغلوا بفرض الوقت هذا عن غيره، فماذا نقول للأمة الإسلامية اليوم وهي أقل فضلاً من المبشرين بالجنة، وقد مضى عليها أكثر من سبعين عاماً وهي لاهية بغير هذا الفرض ومنشغلة عنه بما هو أقل منه شأناً بل وبما هو حرام كما أسلفناه؟!
نقول: انه لابد لك أيتها الأمة أن تستفيقي من سباتك وان تخلصي نفسك من عذاب الله يوم القيامة، ومن الذلة والمسكنة في الدنيا التي نزلت بك بسبب غياب دولتك التي تستأنف الحياة الإسلامية في معترك الحياة، وأن تنفضي عنك غبار الجهل والتضليل، وأن تعملي مع العاملين لهذا الفرض الذي يقيم الفروض جميعاً، فيعلن الجهاد ويحرر العباد والبلاد من دنس أمريكا وحلفائها، ومن دنس اليهود ومن والاهم ومن دنس بريطانيا ومن والاها.
كما ويجب على الأمة أن لا تغتر بكل دعوة، وأن تتذكر ما رواه اسحق بن راهوية في مسنده: أن أم سلمة رضي الله عنها قالت لمن حضر عندها: كيف أنتم إذا كان داعيان داع إلى كتاب الله وداع إلى سلطان الله، فأيهما تجيبون قالوا: نجيب الداعي إلى كتاب الله، قالت: بل أجيبوا الداعي إلى سلطان الله فإن كتاب الله مع سلطان الله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)
2016-09-27