إحكام السيطرة الأميركية على اليابان
2016/09/26م
المقالات
2,001 زيارة
إحكام السيطرة الأميركية على اليابان
بقلم: عبد الحكيم عبد الله
إن الشعب الياباني قد نشأ على التجارة والملاحة، وعاش في بلاد ضيقة تشكل قوساً من الجزر قرب الشاطئ الشرقي للقارة الآسيوية، ويتكون القوس من أربع جزر كبيرة، وكثير من الجزر الصغيرة، وهذه الجزر خالية تقريباً من المواد الأولية ومصادر الطاقة، لذلك فإن المواد الخام والبترول تشكل مصلحة حيوية لصناعات اليابان.
ومن أبرز سجايا هذا الشعب، سجية الشجاعة، وهي طبيعية وأصيلة فيه، وبسببها لمع بما يسمى بالنـزعة العسكرية، وهي التي تخيف جيرانه وترعب أميركا إذا ما كانت على أصولها وجذورها ونتائجها، ومن أهم صفاته العملية حسن التأتي للأمور، ولهذا اتَّسَمَ بالتواضع، والدهاء، وقلة العطاء، وعدم الوفاء بالمعاهدات والاتفاقيات الاضطرارية، والحركة الدؤوبة الهادفة، والعزلة الثقافية عن الثقافات الأخرى وعدم التأثر بها بسهولة ويكون التأثر بلسان الحال أو الإجبار.
والشعب الياباني شعب حيوي، وهو مهما صفد بالأغلال وكبل بالقيود، فإنه لا بد في يوم من الأيام أن يندفع كالإعصار ليبدد ويسحق هذه الأغلال والقيود والحواجز التي تعترض انطلاقه نحو التحرر والحياة والتأثير السياسي، فهو في الماضي قد ثار على النظام الأجنبي الاستعماري الذي سيطر على كيانه وبلاده ومقدراته، وأقام حكومة مركزية قوية في بلاده، وسحق كل أثر للهيمنة والسيطرة الأجنبية على حياته وبلاده، وأعاد السلطة الكاملة إلى الإمبراطور تحت شعار: (الولاء المطلق للإمبراطور) وبادر إلى الصناعة الحديثة على أسس تجارية وحربية عن طريق تعبئة القدرات المالية للدولة وتقوية جيشها تحت شعار: (إثراء الدولة وتقوية الجيش) وشعار: (التحضر والاستثارة) وعن طريق الاعتماد على رجال المال اليابانيين، وبهذا صار دولة تعد من الدول الكبرى بالرغم من صغر حجم بلاده.
وسياسة اليابان كانت قائمة على التوسع من أجل السيطرة على الشرق الأقصى، وهذه السياسة كانت تشكل خطراً حيوياً على مصالح الولايات المتحدة وعلى كيانها، لأن اليابان من ناحية استراتيجية يتحكم بالمتاريس الشرقية، ويعتبر على حدود الولايات المتحدة من ناحية المحيط الهادي، ولهذا عمدت الولايات المتحدة إبان الفترة المسماة بالعزلة الأميركية عن شؤون العالم القديم، وانحصار استعمارها وإرهابها وسيطرتها على العالم الجديد باستعمار الفلبين والجزر الواقعة على الطريق إليها لحماية نفسها من خطر اليابان.
والولايات المتحدة كانت الخطر الجِدِّي على اليابان الذي يقف حاجزاً منيعاً أمام تطلعات اليابان، بل لم تكتف أميركا بتجريد اليابان من غنائمه وسحق نتائج سياساته وإنما كانت تعمد إلى التدخل في شؤونه الحيوية بل والمصيرية الداخلية والخارجية، متجاوزة بذلك القوانين التي تقيدها بعدم التدخل والتورط في مشاكل العالم القديم، فالولايات المتحدة هي التي جرت اليابان إلى مؤتمر واشنطن عام 1921 لتجريدها من غنائمها في الصين، كما جرتها للاعتراف باستقلال الصين ووحدة أراضيها، وحددت حجم الأسطول الياباني، وألغت حلف اليابان مع بريطانيا المعقود سنة 1902، ولهذا كانت العلاقة بينهما علاقة عداء، وهو عداء مستحكم، فالشعب الياباني يرى في أميركا خطراً حيوياً عليه وعلى مصالحه في الشرق الأقصى، ولهذا لم يتردد هذا الشعب في مهاجمة أميركا بعد أن سحق الإنجليز وأدواتهم في مسرح المحيط الهادي في أشد الحروب تدميراً، ومع أن أميركا كانت على علم بنية اليابان بضرب أسطولها في ميناء بيرل هاربر، إلا أنها لم تقم بإنذاره ليتجنب الكارثة بهدف اتخاذ هذا العمل ذريعة لخداع الشعب الأميركي لتزجه في أتون هذه الحرب استجابة لمصالح الرأسماليين الأميركان، الذين يريدون استغلال دماء هذا الشعب للانطلاق نحو استغلال العالم ومص دمائه ونهب كنوزه وثرواته، مع أن هذا الشعب كان ينادي بالانعزال وعدم التورط بهذه الحرب وغيرها من مشاكل العالم القديم، ولكن الساسة الأميركان والمخابرات الأميركية بوصفهم إجراء عند الرأسماليين قاموا بتحقيق أملهم ونجحوا في خداع وتضليل الشعب الأميركي، فأعلنت أميركا الحرب على اليابان، وجعلت شعبها موضع الاختبار العملي للأسلحة النووية، بكل وقاحة وصلافة، وبكل وحشية وإرهاب، وبدون احترام للأعراف الدولية في الحروب، ولهذا ليس غريباً على أحد أعضاء الكونغرس الأميركي القول: “ليبارك الله ترومان، لأنه أسقط عليهم اثنتين منها (من القنابل النووية) وكان ينبغي له أن يسقط أربعاً”.
واليابان قد حكمها العسكريون والأباطرة لقرون عديدة، ولهذا تبنت أميركا سياسة احتواء الخطر المتوقع على مصالحها إذا ما تم القضاء على الإمبراطور إبان الحرب، ولذلك شددت على عدم استهدافه بالقتل بالرغم من إدراكها لقوته وعمق تأثيره وسيطرته على الشعب الياباني، وأميركا أبقت على الإمبراطور ليكون الأداة التي بواسطتها يتم تمرير وفرض السياسات الأميركية على اليابان، وللحيلولة دون حصول فراغ داخل اليابان لا يمكنها من ملئه والسيطرة عليه. ومن هنا فالتشديد على عدم قتله لم يكن جهلاً منها بحقيقته، إنما كان عن وعي دقيق، وخصوصاً أنها مشهورة بعدم الخشية من الأفكار السياسية ومن القوى السياسية مهما كانت مثيرة ومخيفة، لأنها تتقن فن التعامل مع الأفكار السياسية ومع القوى التي تحملها. وعليه فما حصل مع الإمبراطور هو تفريغه من عناصر قوته، وأبقت عليه كإطار فارغ من القوة ليكون عامل وحدة للعشب الياباني، ولتتمكن عن طريقه من فرض سياساتها على اليابان، فهي قد أبقت على الإمبراطور ونظامه شكلاً، وقامت باحتواء مضمونه واثاره الخطرة على مصالحها عن طريق تجريده من جميع الصلاحيات والسلطات التي كانت بيديه، وبهذا يكون قد فقد القدرة على التأثير، وأضحى أداة لخدمة المصالح الأميركية في اليابان وما حولها. ومنذ أن هَزَمَتْ أميركا اليابان في الحرب العالمية الثانية واليابان خاضع للهيمنة والسيطرة والاستعمار والإرهاب الأميركي، فأميركا هي التي تعيّن رئيس الوزراء والوزراء الذين يحكمون اليابان بالنظام الغربي الذي تريده أميركا، وبالدستور الذي صنعته وصاغته بشكله وجوهره الذي يضمن بقاء السطوة الأميركية على اليابان.
فهو من الناحية العسكرية، يعتبر محمية أميركية، لأن مسؤولية الدفاع عنه مسؤولية أميركية، وهذه المسؤولية وإن جرى عليها تغيير إلا أن هذا التغيير حتى هذه اللحظة، ما زال لصالح أميركا، وما زال أمان اليابان مربوطاً بيد أميركا، وما حصل من خروج عن الدستور الذي فرضته أميركا ما هو إلا بترتيب وأوامر من أميركا، فهي التي قامت بإجبار اليابان إبان الحرب الكورية على إنشاء قوة عسكرية يابانية لحماية القواعد العسكرية الأميركية، وهي التي أجبرتها على »معاهدة الأمن« ثم تحولت إلى معاهدة للتعاون والأمن المشترك، ثم فرضت عليها إبان عهد ناكاسوني رئيس وزراء اليابان الربط بين المصير الأميركي والمصير الياباني ليكون الشعب الياباني أكياس الرمال التي تحمي المصالح الأميركية وتدافع عنها في الشرق الأقصى، وقد اتخذت أميركا من اليابان فترة حرب فيتنام الأداة التي تخدمها في هذه الحرب، وهي التي أجبرتها أن تكون جزيرتها مستباحة لقواعدها البحرية ولحاملات طائراتها ولسلاحها النووي، في حين أنها قبل ذلك فرضت على اليابان عدم حيازة أو تصنيع أو إدخال أسلحة نووية داخل أراضيها، وأميركا لم تكتف بهذا الإذلال والاستعباد للعشب الياباني حتى ألزمته بدفع الأموال مقابل هيمنتها وغطرستها على بلاده، ومقابل مصالح الولايات المتحدة الخاصة أو الاستعمارية، كالمساهمة في مبادرة الدفاع الإستراتيجية الأميركية، وفي تمويل حرب الخليج الثانية.
وأميركا تقدر أحوال القوى السياسية وما يطرأ عليها من تغيير وتبديل، سلباً أو إيجاباً على مصالحها، تقديراً يستند إلى الحقائق والمفاهيم والقواعد الصلبة الخاصة بهذه القوى -الأحزاب والشعوب والدول-، وهذا التقدير لا يعتمد ولا يتأثر باستطلاعات الرأي العام أو بنتائج الاختبارات التي تعتمد على ما يسمى بالقياس، لأنها تعي أن هذه الوسائل لا تتسم بالمصداقية ولا بالشمول ولا بالدقة، وإنما تتسم بالتعميم الخاطئ، وتعتمد على سوء الفهم، لذلك تستغلها للتضليل والخداع ولا تتأثر بها، وعليه فإن أميركا حين تقوم بعملية التقدير تأخذ بعين الاعتبار الأخطار المتوقعة على مصالحها قبل وقوعها، لترسم سياساتها الوقائية لجعل هذه الأخطار أداة لمصلحتها، ومن أجل هذا تبنت أميركا إحياء (النـزعة العسكرية) لدى الشعب الياباني من أجل جعلها تحت السيطرة الأميركية، ولتتحكم بمسارها والأساس الذي تقوم عليه، وخصوصاً أن أميركا تقدر إحساس الشعب الياباني بالمهانة والذل والتبعية بسبب السطوة الأميركية عليه، وتدرك أن هذا الإحساس على وشك التبلور إلى فكرة (تحرير اليابان) من السيطرة الأميركية العسكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية، ثم إلى أعمال هادفة تؤدي إلى رفع هذه السيطرة وتحقيق الاستقلال الحقيقي في اليابان والذي من نتائجه: إزالة القواعد العسكرية الأميركية من اليابان، ونبذ الدستور نبذاً كلياً، وعودة السلطة الكاملة للإمبراطور والعسكر، واستغلال المفاعلات النووية لصنع الأسلحة النووية، وإعادة صياغة المناهج الثقافية والتاريخية في الجامعات والمعاهد والمدارس صياغة لا تتأثر بالثقافة الغربية الأميركية، وإبعاد السياسيين الذين يدورون بالفلك الأميركي عن التأثير في الشارع الياباني، ونبذ كل المعاهدات والاتفاقيات مع أميركا، وإقامة الصناعة اليابانية على أساس تجاري وحربي، والتخلص من الاستثمارات الأجنبية والشركات، وربط عملتها بالذهب والفضة، والتخلص من السيطرة الأميركية على اقتصاد اليابان عن طريق الانفكاك من المنظمات الاقتصادية الإقليمية والاستعمارية، وقيامها بحملات همس سياسية نحو الصين وروسيا لتطمئن قلوبهم وتعقد الاتفاقيات السرية معهم للتخلص من السيطرة الأميركية وللتعاون فيما بينهم وسد احتياجات بعضهم البعض، والكف عن الاشتغال بالناحية الاقتصادية البحتة وتوجيه طاقات شعبها نحو الناحية السياسية ومنها الاقتصادية، ونحو ذلك من السياسات والأعمال التي تؤدي إلى تحقيق الاستقلال بالفعل لليابان.
وهذا إن حصل فإنه يشكل خطراً حقيقياً على مصالح أميركا في اليابان وما حولها، ولهذا رسمت أميركا سياساتها الشاملة لدرء مثل هذه الأخطار عن مصالحها ومنها إحياء (النـزعة العسكرية) لليابان بالنوع والصفة والأثر الخادم لها ولمصالحها في الشرق الأقصى ومن أجل إحكام سطوتها على اليابان، وخصوصاً أن أميركا تتقن فن المناورة السياسية سواء الفكرية أم العملية، المبدئية وغير المبدئية. ففكرة النزعة العسكرية اليابانية يمكن تغيير جوهرها وأهدافها، ويمكن استغلالها من قبل أميركا على أوسع نطاق، فعن طريقها يمكن إذكاء روح الخوف لدى جيران اليابان -كالصين وروسيا- وبالتالي الحيلولة دون سعيهم لتبديد توازن القوى المرسوم والمحدد من قبل أميركا لفرض وديمومة سيطرتها، وإن حدث خلل في هذا الميزان فإن أميركا ستعتمد على اليابان في الدفاع عن مصالحها في المنطقة، فتكون صفة هذه النزعة، صفة دفاعية بحتة ولا تعتمد على الهجوم والتوسع، وتعتمد على السلاح الدفاعي التقليدي الذي يستخدم لمصلحة أميركا، ويمكن استغلال الطاقات والقدرات الخلاقة للشعب الياباني عن طريق نقل التكنولوجيا العسكرية اليابانية إلى الولايات المتحدة، وعن طريق إحياء هذه النزعة وجعلها ضمن السيطرة الأميركية يمكن احتواء الأخطار الناجمة عن فكرة تحرير اليابان وما سبقها من إحساس بالتبعية وما سيتبعها من أعمال مادية تهدد مصالح الولايات المتحدة، وخصوصاً أن المنطقة في الشرق الأقصى منطقة حيوية لأميركا حتى قبل أن تضرب من قبل اليابان في الحرب العالمية الثانية، وبعد أن ضربت فيه صار الشرق الأقصى أكثر حيوية لأميركا وحيويته تفوق حيوية الشرق الأوسط بكثير، ولهذا تريد أميركا إحكام سطوتها على اليابان عن طريق إدخالها في عضوية مجلس الأمن لتبقى ضمن السيطرة ولا تنفك عنها إلا إذا انهارت هيئة الأمم أو زجت أميركا بحرب كونية أو إقليمية تضعف من سيطرتها الدولية والعالمية.
وأميركا تدرك الخشية لدى اليابان من الحرب العالمية الثالثة، وان اليابان لا يريد أن يكون كبش الفداء، ولا أن يكون مسرحه المسرح الذي يشعل نار هذه الحرب المتوقعة بل يريد أن يستثمرها للخروج عن السيطرة الأميركية والعودة إلى سابق عزه ومجده وقوته، وأميركا تدرك ذلك تمام الإدراك لذلك فهي لن تزج بحرب كبرى إلا جبراً عنها، واليابان يدرك خطورة دخوله في هيئة الأمم، وان هذا الدخول يهدف إلى تعزيز السيطرة الأميركية الدولية والعالمية وإضفاء الشرعية عليها ولتضليل الشعب الياباني وغيره بوهم أن اليابان عملاق سياسي كما تم خداع العالم بوهم أن اليابان عملاق اقتصادي، ليبقى الشعب الياباني يستند في عظمته وقوته على أسس رملية وعلى مضامين فارغة من العظمة والقوة. وأميركا قد رسمت سياساتها وباشرت بتنفيذ قسم منها وتعمد إلى تهيئة الظروف للقسم الآخر لصياغة اليابان الصياغة الأميركية التي تضمن إبقاء الهيمنة والاستغلال والسيطرة على اليابان ودرء الأخطار المحدقة بها، ولهذا سعت أميركا لجعل اليابان يتسلح بالأسلحة الدفاعية التقليدية فقط وبالتدريج، وقد أشار إلى ذلك كاسبر واينبرغر في إحدى جولاته في منطقة المحيط الهادي عندما صرح بأن الولايات المتحدة لا تستطيع بمفردها مواجهة الأزمات التي قد تحدث في المنطقة وركز على أن اليابان يجب أن تزيد من قدراتها العسكرية لحماية أراضيها.
واليابان من ناحية سياسية تابعة للقيادة السياسية الغربية بفكرتها السياسية وتدور بفلك الولايات المتحدة بقواها السياسية الذاتية، فالولايات المتحدة تستند إلى أفكارها السياسية كالرأسمالية والديمقراطية والتعددية والمعارضة والحرية السياسية لجعل اليابان تابعة لها، وهي تناور بأفكارها بمحتوى وأبعاد مختلفة، فهي بالنسبة لليابان تهدف إلى التحكم بالسياسيين الذين يحكمون اليابان أو الذين يشكلون المعارضة، وتهدف إلى غزو اليابان ثقافياً، عن طريق إجبار اليابان للتحرك نحو السياسة التي تريدها، ومن يفكر من الساسة ورجال الأعمال والمال بالتمرد وعدم الإذعان فإن الأزمات والمصائب والفضائح تنهال عليهم، لكي يلجأوا إما إلى الانتحار وإما إلى القبول ليبقوا دمى بيد أميركا ولا يخرجوا عن فلكها، ولهذا فرضت أميركا على اليابان النظام الديمقراطي في الحكم شكلاً، ولكن بجوهر وآثار مختلفة عن الديمقراطية وسائر أفكارها سواء في أميركا أم في غيرها من دول العالم، وأميركا هي التي قامت بدمج الحزب الديمقراطي والحزب اللبرالي عام 1955م، ومكنته بعد دمجه من حكم اليابان لفترات طويلة، وهي تسيطر على أحزاب المعارضة كالحزب الاشتراكي الديمقراطي وأحزاب الائتلاف، ومكنت بعض أحزاب المعارضة من حكم اليابان لفترات قصيرة من تاريخ اليابان الأسود، وعليه فالقرار السياسي في اليابان هو قرار أميركي فكرة وسياسة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن قادة الأحزاب في معظمهم من خريجي الجامعات اليابانية الكبرى (وخصوصاً جامعة طوكيو) وهذه الجامعات تعتمد في الثقافة على الثقافة الغربية وفي الأبحاث على الأبحاث الغربية في الاقتصاد والسياسة والتاريخ.
واليابان من ناحية اقتصادية تعتبر مصنعاً من مصانع الولايات المتحدة، وهي تسير وفق النظام الرأسمالي في الاقتصاد، وبشكل مقنن وخاضع للسيطرة الأميركية الاقتصادية العالمية، والصناعات اليابانية لا تستند إلى الأسس الحربية وإنما إلى الأسس التجارية، والتكنولوجيا الاستهلاكية، وأميركا تستهلك الكثير من المنتجات اليابانية وتدفع لها الدولارات الورقية، ولكي تعالج أميركا خطر استغلال اليابان لهذه الأوراق عن طريق تحويلها إلى ذهب وفضة وعن طريق استثمارها داخل الولايات المتحدة، عمدت أميركا إلى سياسة التلاعب برفع الدولار أو خفضه مقابل الين الياباني لخدمة مصالحها وبهدف إضعاف الاقتصاد الياباني وثماره، وقامت بإحداث هزات في الأسواق المالية، وأجبرت اليابان على تقديم المساعدات الاقتصادية لجيرانها وللدول التابعة لها وعلى زيادة هذه المساعدات لهذه الدول وللمؤسسات الدولية لكي تستثمر أموال اليابان لمصالحها الدولية والعالمية وتعزيز نفوذها، وفي نفس الوقت لا تمكن اليابان من جعل اقتصادها في المستقبل يستند إلى قوة فعلية. ومع أن اقتصاد اليابان أقوى من اقتصاد ما سميّ بالنمور -الورقية- الآسيوية إلا أن اقتصادها قابل للانهيار، وهي ليست من ناحية اقتصادية نمراً حقيقياً وإنما هي تلبس جلد النمر، وأميركا يمكنها بسهولة ويسر جعلها تنزع هذا اللباس ولكنها في المستقبل المنظور لا تفكر بتقويض الاقتصاد الياباني، فهي تريد استغلال هذا الاقتصاد لخدمة مصالحها العالمية، وتريد استغلال طاقات وقدرات وأموال الشعب الياباني لخدمة مصالح الرأسماليين الأميركيين ولتعزيز وتطوير القوة الأميركية محلياً وعالمياً، وتريد الإبقاء على اليابان كمصنع من مصانع الولايات المتحدة يعمل أبناؤها فيه لخدمة أميركا ومصالحها العالمية ولدرء الأخطار عن مصالحها في اليابان والشرق الأقصى، وهي بهذه الأهداف تشغل الشعب الياباني بالاقتصاد وترهاته عن السياسة، وتوجه همه للناحية الاقتصادية لصرف إحساسه وتحويل نشاطه عن الناحية السياسية التي تؤدي إلى تحرير اليابان بالفعل وتجعله قوة كبرى، سياسية وعسكرية واقتصادية. وعليه فاندفاع اليابان نحو الاقتصاد يبقى عليه ضمن السيطرة والاستعمار والإرهاب الأميركي، ويظل الشعب الياباني متأخراً من ناحية سياسية.
والولايات المتحدة هي وراء الأوهام والخزعبلات والأفكار المضلة، كفكرة أن اليابان عملاق رغم أنفه، وأنه أنجز الأمور العظيمة بفضل الإذلال والهيمنة الأميركية، وانه معجزة اقتصادية، وقوة اقتصادية عالمية، ويمكن أن يكون أقوى قوة اقتصادية في العالم بل وحتى أنه قوة عالمية، والولايات المتحدة وراء اصطناع أجواء الجفاء والتوترات في العلاقات التجارية بينها وبين اليابان، وهي التي تبرز الخطر الوهمي الزائف عليها من رجحان كفة الميزان التجاري لصالح اليابان، والأهداف الأميركية من نشر هذه الترهات واصطناع الأزمات وإبراز الأخطار الفارغة عديدة وأهمها:
أولاً: نفخ اليابان كبالون فارغ من مفاهيم القوة، ليشعر شعبها بالعظمة الزائفة، ليبقى تحت الهيمنة الأميركية، وليندفع بكل قوة لخدمة أميركا في مصنعها، ولتدرأ الأخطار عن استعمارها لليابان وللشرق الأقصى، وعلى رأس هذه الأخطار، خطر إحساس الشعب الياباني بعمق مرارة الواقع السياسي الذي يحيا فيه بوصفه عبداً من عبيد الولايات المتحدة، وأنه واقع ضمن السيطرة السياسية الأميركية، وبلاده محمية لها وقاعدة من قواعدها، فالولايات المتحدة تريد خداع وتضليل الشعب الياباني في صعيد المعركة بينه وبينها، عن طريق إبراز الناحية الاقتصادية والخطر الاقتصادي لتكون المعركة معركة اقتصاد، مع أن حقيقة المعركة هي معركة سياسية تتصل بالاستقلال والتحرير الحقيقي لليابان من التبعية والغطرسة والسيطرة الأميركية على اليابان، فالخطر على اليابان هو خطر الاستعمار والإرهاب الأميركي عليه، هذا هو صعيد المعركة، والولايات المتحدة تدرك آثار اندفاع اليابان نحو الاقتصاد من أنها إيجابية وخادمة لها لأنها تعي حقيقة الميزان التجاري في العلاقة التجارية بأنه لا علاقة ولا تأثير ولا قيمة له في قوة اقتصاد الدولة سواء أكانت كفته راجحة لصالحها أم لا، وهي تدرك أن النظرة الاقتصادية هي جزء لا يتجزأ من النظرة السياسية، وان القوة الاقتصادية الفعلية هي جزء لا يتجزأ من القوة السياسية، وعليه فرجحان كفة الميزان التجاري لصالح السعودية أو اليابان أو غيرها من دول العالم في العلاقة التجارية مع أميركا لا يعني البتة أن هذه الدول أقوى اقتصادياً من أميركا أو يمكن أن تصبح قوة اقتصادية عالمية، ونحو ذلك من الخيالات.
ثانياً: إجبار اليابان لتندفع نحو سياسة اقتصاد السوق الحرة، لتحكم أميركا قبضتها على الاقتصاد الياباني.
ثالثاً: إجبار اليابان على استغلال أموالها لخدمة مصالح الهيمنة الأميركية دولياً وإقليمياً ومحلياً.
رابعاً: اتخاذ اليابان كنموذج خادع للعالم لتخدعه بهدف استغلاله وإحكام السيطرة عليه، وغزو الدول التي لم تتمكن من استعمارها كالصين وروسيا من أجل السيطرة عليها.
إن إنجازات اليابان في التكنولوجيا الاستهلاكية، وفي تصدير الكم الكبير من السلع الاستهلاكية، وتوفر السيولة النقدية الورقية بين يديه لا يدل على قوة اقتصاده من ناحية فعلية، ما دامت هذه الأمور تستند إلى أسس تجارية بحتة والى الدولارات الورقية، وما دامت ضمن السيطرة السياسية الأميركية، وتتصرف أميركا بأموال اليابان كما تريد وتشتهي ولديها القدرة على تبديد اقتصاده وسحقه، وما دامت ليست جزءاً وثمرة من القوة السياسية المؤثرة في كيان القوى السياسية، وما دامت لا تستند إلى المفاهيم والحقائق والقواعد الاقتصادية الراسخة والصلبة، وعليه فحتى يدرك عمق القوة الاقتصادية للدول فلا بد من إدراك نوع وصفة وأثر ما يصدّر وينتج من قبل هذه الدول، وعلاقة هذه الأمور بقوة الدولة واستقلالها، والأسس التي يقوم عليها اقتصاد الدول. وإذا نظرنا لليابان وفق النظرة الصحيحة نجد أنها ليست أكثر من مصنع من مصانع الولايات المتحدة الموجودة في العالم، ولا يمكن إقامة علاقات معها وتقديم المواد الخام والبترول إليها مقابل مصلحة حيوية لنا ما دامت اليابان تحت الهيمنة الأميركية، فعلى اليابان أن تعالج نفسها من خطر الفناء، ولا بد من مساعدتها في ذلك عن طريق لسان الحال وعن طريق الاتصالات السياسية حتى يتأتى إنقاذ اليابان وإقامة العلاقات معها وضمها للهيئة العالمية الجديدة، التي تعتمد على الأعراف العالمية، كمنع استخدام الأسلحة النووية في الحروب، ومنع التكتلات الدولية، ومنع الحروب الكونية، ومحاربة الاستعمار والإرهاب، ومقاومة هيئة الأمم الحالية وتقويضها، ونحو ذلك من الأعراف العالمية، وعليه فلا بد لليابان أن ترسم خططها لكي تتهيأ لتلعب دورها في هذا المسرح من العالم بعد أن تتمكن من تحرير كيانها من الاستعمار الأميركي .
2016-09-26