نظام الحكم في تونس أخطبوط يفتك بأهلها
2016/09/26م
المقالات
2,082 زيارة
نظام الحكم في تونس أخطبوط يفتك بأهلها
في خريف عام 1993 زرت الأستاذ الشاعر صاحب البيت المعمور يوسف إبراهيم أدام الله بقاءه وحفظه، وفي شتاء 1994 نشرت مجلة الوعي في عددها 82 قصيدته المعبرة (تونس الخضراء). واليوم وبعد أن زرت أهلي في تونس والتقيت بأناس كثر وتحدثت مع عدد من حَمَلَة الدعوة إلى الإسلام، أحببت أن أجيب على قول الشاعر في البيت السابع من قصيدته تلك حين يقول:
يا تونسُ الخضراءُ يا درباً إلى غرناطةٍ، أين انتهى الرّوادُ؟
أعداء الله الحاقدون على الإسلام والمسلمين، يصرحون بين الآونة والأخرى وكلما كانت هناك مناسبة، عبر ما يسمونه تضليلاً (منظمات حقوق الإنسان، والعفو الدولية) يصرحون في تقاريرهم أن الحكومة التونسية، حكومة بوليس حولت البلد بأكمله إلى دولة شرطة!
والحَـقُّ أَبْلَـجُ لا خَفَـاءَ بِـهِ مُذْ كانَ يُبْصِرُ نُورَهُ الأَعْمَى
والحق ما شهد به الأعداء.
النظام الحاكم في تونس الآن جيء به في تشرين الثاني نوفمبر عام 1987 فيما يشبه الحركة المسرحية (التي نُحِّيَ فيها بورقيبة)، وتعهد سحقَ كل شيء يمت بصلة إلى الإسلام، وإعلانَ حربٍ على كل عمل أو تصرف أو أخلاق أو أذواق لها علاقة بالقرآن والسنة. هذا السلوك وذاك التوجه العدائي ما هو إلا استئنافٌ لمسيرة سلفه بورقيبة في محو هوية تونس الإسلامية، وتركيزِ مفاهيم العلمانية، وربطِ تونس بفرنسا والدول الغربية الكافرة، وغرسِ فكرة الفردية الأنانية والديمقراطية الزائفة، وجعلِ هوية البلد الذي فيه مدينة القيروان، وأَكْرِمْ بها وبعقبة ابن نافع فاتحاً ومؤسِساً، وفيه جامع الزيتونة الذي كان منارة عالم الإسلام عبر قرون، جَعَلاَ هوية البلد مائعة هي أقرب إلى الجاهلية الأولى منها إلى الإسلام: دينِ الأمة ودين الشعب والدين الحق الذي شَرَّف الله به أمة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، قلما تجد نظيراً له في البلاد الإسلامية رغم تخبط الجميع في أنظمة الطاغوت المقيت. ولكن هذا الاستئناف لتلك المسيرة جاء بشكل إجرامي هتك كل ستر كان بورقيبة يلوذ به، لقد غير وسائل وأساليب حتى تكشفت أنيابه التي نهشت عباد الله المستضعفين الذين لا جُرْمَ لهم سوى أن قالوا ربنا الله! هذه السنوات الإحدى عشرة أمضاها – لا أمضى سواها إن شاء الله – في الحكم بصورة إجرامية بشعة يشيب لسماع ذكرها الولدان، إذ رغم أجواء الفساد والمنكر الصريح التي أوجدها فإنه ويعمل على دعم أسسها وتركيز أواصرها ما يعجز المرء عن وصفه. ذلك هو الجو الذي يعيشه أهلنا في تونس: رعبٌ وإرهاب وظلم، تجويعٌ وتخويف وتجسس… وتلك الأعداد الهائلة من الشباب التي يجندها نظام الكفر في صفوف الشرطة أو جهاز المخابرات الداخلية، والمخبرين، أو يلجئها إلى الانتساب إلى حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي يستلهم مبادئه ونظرياته الفاشلة من أقوال (السيد الرئيس) نفسه. كل ذلك وذلك الذي لم يُذكر كان ضغثاً على إبالة… اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا… فانعدام الأجواء الإسلامية صاحبه سوء هذا المناخ الفاسد وغلاءُ أسعارٍ وبطالةٌٍ… ما جعل الشباب يفرون للمحافظة علـى دينهم وكرامتهم، فبقي البلد مرتعاً خصباً آمناً لأبناء هذا النظام المستبد، وللغربيين سياحة و(استثماراً) بل خراباً ونهباً لخيرات ذلك الشعب الذي غُلِب على أمره.
سيّدي الشّاعر؛ أما الرواد الذين تساءلت عنهم فهم بين سجين يستغيث الله، أو فارٍّ بجلده داخل البلد أو خارجه، أو تحت عيون وأضواء أجهزة (الأمن). لقد التقيت بالعديد منهم، هم على ثباتهم على المبدأ فكرةً وطريقة. ومع تلك العقلية النيّرة والنفسية الخيّرة، يحز بالنفس المؤمنة أن تراهم في معاناتهم تلك. وصدق الله العظيم القائل: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). هناك ترجف النفس المؤمنة لتلك الكلمة العميقة الإيحاء: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ).
يذكر أحدهم حادثة حصلت في إحدى قرى مدينة توزر في الجنوب، حين دخل القرية رجال باللباس المدني (مخابرات) معهم شاب مسلم مقيد اليدين، ليس عليه ملابس سوى البنطلون فقط، منهوك القوى شاحب الوجه، غائر العينين… عليه آثار الضرب والتعذيب! كل ذلك ليدلهم على كتب كان يخفيها في بيته، مثل وثيقة فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها.
شباب من حزب التحرير فشلت (المخابرات) في إقناعهم بالتخلي عن أفكار الإسلام التي تبناها الحزب، فجعلوا يضيقون عليهم الخناق: حرباً يشنونها على الأرزاق والعلاقات العامة مع الناس. فبعد أن يُمضي الشاب مدة عقوبة الحبس فضلاً عن الأحكام بالخطية يريد هذا النظام اليائس أن يدفعوا له غرامة! عقوبة عمل سياسي لم يتعدّ اللسان: غرامة؟ إنها حركة اليائس، هذا النظام الذي يستمد قوته من دعم الغرب له يفشل فيصبح بشعاً مجرماً لا يعرف ماذا ولا كيف يتصرف مع خصمه الإسلام. يلاحقونهم خارج نطاق القضاء والمحاكم. يطلبون إلى الشباب أن لا يلتقي بعضهم ببعض، أن لا يغادر أحدهم المدينة التي يقطن فيها، أي دائرة البلدية التابع لها، ناهيك عن دائرة المحافظة. يفرض على الشاب إحضار دفتر على حسابه ويرفق معه وثائق تتعلق بسجله المدني وهويته إلى دائرة (المخابرات) ثم يجب عليه أن يحضر إلى عندهم للتوقيع مرة كل أسبوع فإذا حصل وبَلَغَهم أن أحداً من الناس زار أحد الشباب في بيته فإنهم يحققون مع الشاب لمعرفة الخطب، ولماذا زاره هذا الزائر أو ذاك -يستثنى من ذلك أقاربه من العائلة- وعندما تُشْكِل عليهم الأمور يُحْضِرون الزائر نفسه ويعنّفونه أشد تعنيف كونه زار أحد شباب حزب التحرير.
أمام كل هذا، وغيرُه أكثر، وبعد فصلهم وتسريحهم من أعمالهم حال كونهم عاملين بالدولة ودوائرها، فإن التضييق يشتد على الشباب إذا حصل واجتمعوا ولو في طريق عام، ولو للسلام والتحية، وقتها يجن جنون هؤلاء الذين أعلنوها حرباً على الله ورسوله، فيصبح الشاب مطالباً بالتوقيع في ذلك الدفتر مرتين في الأسبوع الواحد وأحياناً أكثر. يلجأ الشباب والحال هذه إلى السعي والبحث عن عمل حر في القطاع الخاص، فيجد ما يجد من المصاعب والعوائق، وتستمر مع ذلك المخابرات في مطاردتهم وإثارة الأجواء ضدهم. وقد رسم الشاعر: بكر محمد علي البلوي (الأردن) لوحةً صوّر فيها هذه الحال حين قال:
طـافت بنا مِحـنٌ حلّتْ بأجوانـا
وألهبتْ في صـمـيم القلبِ نيرانا
والنصـــرُ فارَقنا في كل مُعْتَركٍ
وغيهـبٌ من ظلامِ الغرب غطّـانا
غياهبٌ حَجَـبَتْ عنّا الضياءَ وقد
وقفتُ أَرْقُـبُ هذا الليـلَ حيـرانا
وكنت أسـأله والهَمُّ يُرهِقُـني
ماذا أرى، ما الذي يَجري بأجـوانا؟
ما لي أرى مِحَناً تزدادُ وطـأتَها
ما لي أرى جِذْرَها بالحقـدِ ملآنــا؟
قل بربِّـكَ فالأوهامُ تعصف بي
ولا أُطـيـقُ لـها يا ليلُ كتمانـــا
فأعرضَ الليلُ لم يخبِر بأجـوبـةٍ
وزادنـي من عـذاب القلـب ألوانـا
فسرتُ يوماً إلى التاريخِ أطلبــه
حتـى يُـبينَ ليَ الأحـداثَ تـبيـانـا
حتى يصاحبني التاريخ في سفرٍ
لِما مـضـى فـأرى أسـرار ما كـانـا
“هذه الأبيات هي مطلع قصيدة نشرتها (الوعي) في العدد (64) الصادر في صفر 1413- آب 1992″.
فذلك إذا أردتَ منتهى الرواد، ويبقى أن ألواح سفينة الدعوة إلى استئناف الحياة والحياة الإسلامية ودُسُرَها عظيمةٌ متينة، والناس هناك متعطشون تواقون إلى عودة الإسلام، وحَمَلَةُ الدعوة أكثر ممن ذكرتُ، وهم ولله الحمد أقوى من أن تجرفهم ريح ضعيفة، بل وحتى ريحٌ عنيفة.
وشوكة نظام الطاغوت في تونس كما في إندونيسيا أو في تركيا إنما هي بحبل من الناس، أما حبل الله سبحانه فمقطوع عنهم، وهو متربص بهم الدوائر. وقد قضى جل شأنه: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، (يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) وماذا عليكم يا حَمَلَة الدعوة في ولاية تونس وسائر الولايات في العالم الإسلامي، إذا كنتم بشهادة حبيبكم صلى الله عليه وآله وسلم خلاصة البشر فعن سعد بن أبي وقاص قال: «قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإذا كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رِقَّـة خُفّف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة» [رواه الإمام أحمد].
ليس القصد من وراء هذه الكلمة التشهير بنظام الحكم في تونس، فإنه يعلم ذلك من نفسه فيشيد حصون محصنة كي لا تطاله يد الغضب، غضب الرعية. وأيضاً فجميع البلاد الإسلامية تعاني، وإن بدرجات متفاوتة، من تسلّط أنظمة الكفر عليها بعد أن هدموا الخلافة، وفقد المسلمون الراعي الذي يرعاهم ويحميهم. وحقّ للمسلمين أن يبكوا خلافتهم بكاء الموتور، ورحم الله شوقي وهو يقول في رثاء الخلافة عند سقوطها:
ضـجّــتْ عـلـيـكِ مـآذنٌ ومـنـابــرٌ
وبكـتْ علـيـكِ مـمـالكٌ ونـواحِ
الـهـنـدُ والـهـةٌ ومـصــرُ حـزيـنـةٌ
تبـكـي علـيـكِ بمـدمـعٍ سَـحّـاحِ
والشامُ تسألُ والعراقُ وفارسٌ
أَمَحا من الأرضِ الخلافةَ ماحِ؟
فها أنت تلمس أسلوب البطش والإرهاب علناً في شوارع مدن تونس وأنت تسير فيها، وقلما ترى امرأة تلبس اللباس الشرعي. وقد روى أحد سكان العاصمة تونس أن له أختاً متزوجة، ربّـةَ بيتٍ كانت تلبس الجلباب وتضع الخمار، فاستُدعيت لدائرة الشرطة، وأدخلوها منفردة على الضابط في مكتبه، ومن سؤاله لها تبين له أن المرأة من نفس البلدة التي يعود أصله إليها فنصحها أن لا تعود للباس الشرعي، فإن الضرر الذي ستجنيه على نفسها أعظم وأخطر من تقيدها بالشرع واعتذر منها ذلك أنه لا بد أن يصرخ في وجهها ويخاطبها بألفاظ بذيئة كي لا يتعرض هو نفسه للتحقيق حال انتباه أي عنصر شرطة على الطريقة الودية التي عاملها بها. أصحاب سيارات التكسي، ولا سيما كبار السن، يجعلونك تُؤخذ فزعاً إذا حصل وتحدثت إلى أحدهم ووثق بك، حينما يقص عليك بعض القصص والحوادث التي تحصل في أحياء العاصمة، من انتهاكات يومية لحرمات بيوتات المسلمين والتضييق على المشتبه بهم من طرف المخابرات والشرطة. لا عليك يا سيّدي، فأنت تبهت وأنت تحضر لصلاة وخطبة الجمعة في المدن وفي العاصمة، إنها سخرية حقيقية ربما لا تخطر بالبال، فالذي يتقدم إلى المنبر ليس فصيح اللسان، وليس عالم شريعة، ولا علاقة له بالخطابة. إنك لا تكاد تسمع طوال الخطبة سوى الإشادة بمكانة تونس بين الدّول، ومنجزات تونس داخلياً وخارجياً، وكأنه إنما يصف مجهولاً أو يتحدث إلى عميان. وتخلص الخطب في نهاية المطاف إلى الإشادة بمجهودات السيد الرئيس -وليّ النعمة – وسهره المستمر وعنايته الفائقة.
إن هذا النظام الذي كبّل أهلنا في تونس وقمعهم وألجم أفواه الأحرار منهم، غدا يبتدع أبشع طرق التضليل لأبناء الشعب في الداخل، ومضى في دقّ إسفين الإرهاب الحقيقي خارج البلاد عن طريق السفارات والقنصليات في الخارج، وهذا على نقيض المهمة التي تناط بأي سفارة غربية في بلادنا، بل هي تقوم بدور رهيب في محاولة ربط المهاجرين بحزب التجمع الحاكم، لا فرق بين طالب وعامل. وينفق النظام مبالغ طائلة من أموال الشعب التي تَسَلَّطَ عليها لإرسال من يقوم بتشجيع الانتساب إلى حزب التجمع وكسب الولاء للرئيس. ومهمة الموظف في القنصلية هي تتبّع أخبار المهاجرين وإحصاء أنفاسهم ورفع التقارير إلى أسياده. فتونس الخضراء أضحت تحت قبضة هذا وحفنة من أزلامه، تشكو حزينة بائسة، وهي أقرب لكونها طمرة من طمر الرومان. فقد دخل أحدهم جامع الزيتونة يوماً فرأى في ناحية منه شيخاً يلقي درساً في الفقه! يقول هذا الشاهد: إن الشيخ كان وكأنه يلقي محاضرة أمام طلاب وتلاميذ، بيد أنه وحده، يلقي درسه بلا حضور! ما خطْبُ ذلك الشيخ وما الذي حصل له حتى صار يلقي دروسه دون أن يكون هناك من كان فيما مضى من الزمن يستمع إليه ويتابعه. حسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها الإخوة الكرام، يا حَمَـلَة الدعوة، يا أمناء هذه الأمة، لقد شهدتْ هذه الأرض مفسدين كثُراً، وما نظام الحكم في تونس، وما العصابة المتحكمة في الجزائر، وما الفوضى وعدم الاستقرار في جميع أقاليم الصومال، وغيرها من بلاد الإسلام إلا أمثلة حية على تربص الدول الاستعمارية الكبرى التي لها مصالح ومطامع في بلادنا، وكيدها لهذه الأمة وحقدها عليها. وإنهم مع هذه الشرذمة من الأتباع والعملاء المتسلطين على رقاب العباد المبذرين لخيرات البلاد يستدرجهم الله سبحانه من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، ومهما طال ليلهم البهيم فإن فجر الإسلام قد بدا وأشرق نورُه في الأفق، وبكل تأكيد فإن الواقع الذي تتردى فيه الأمّـة اليوم، ويتخبط العالم بأسره في وحله، ليس واقعاً سرمدياً بل: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).
ليس هذا تشهيراً بنظام الحكم فـي ولاية تونس بل هو توضيح لحامل الدعوة كي يدرك الأرض التي يقف عليها، وكما يقولون: ليس من سمع كمن رأى. ونحن حين نرى حال الأمة مع هؤلاء في المشرق والمغرب نذكر حال الرعية يوم كان لهذه الأمة راع. ففي زمن أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه جاءه أعرابي فقال:
يا عمرُ الخيرَ جُزيتَ الجنّـة
أُكْـسُ بُـنيّـاتي وأُمَّـهـنّـه
وكنْ لنا من الزمانِ جُـنّـهْ
أُقـســم بالله لتفعَـلَــنـّهْ
فقال عمر: إن لم أفعل يكون ماذا؟ فقال:
إذاً أبـا حـفـصٍ لأذهـبـنّـهْ
فقال عمر: وإذا ذهبت يكون ماذا؟ فقال الأعرابي:
يكونُ عنْ حالي لتُسـأَلَـنَّهْ
يومَ تكونُ الأعْطياتُ هنَّهْ
وموقفُ المسؤولِ بينهنَّهْ
إمّا إلى نارٍ وإمّا إلى جنَّـهْ
فبكى الفاروق رضي الله تعالى عنه حتى خضبت لحيته، وقال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره، وأنا والله لا أملك غيره!
أما هؤلاء حكامنا فهم دعاة لمصالح أسيادهم، ولا يُطلق على أحدهم وصف الراعي أو الحاكم إلا تجاوزاً لأنهم لا يفقهون السياسة، ولا دور لهم ولا وزن بين الكفار أسيادهم، وأخذوا على أنفسهم أن يركبوا بغالاً سعيهن ثقيل، وقد تأبى الأسود ورود ماء سبقتها إلى الولوغ فيه الكلاب، ولكنهم لا رجولة عندهم ولا نخوة. قد باعوا أنفسهم وذممهم بأبخس ثمن. وهذا وذاك نتيجة طبيعية أيضاً لإعراض الناس عن شرع الله وأخذ شريعة حامورابي والقبول بأنظمةٍ مِنْ وَضْعِ البشر، من ديمقراطية زائفة ورأسمالية خانقة. لقد آن لأمة جعلها الله خير أمة أخرجت للناس أن تنهض لتنفض غبار الذل والخنوع الذي طال ظله المقيت. واليوم يا حَمَـلَة الدعوة عَمَلٌ وكفاح، وغداً جزاء ونعيم، فبيعوا هذه بتلك، فمن يدري، وعمر الفساد قصير وحبله مقطوع، وما علينا جميعاً وما على أهلنا في تونس إلا الصبر والثبات على المبدأ. وإنا لندعو الله سبحانه أن يفرّج عن هذه الأمة ما أهمَّها وأغمَّها، والله سبحانه يعلم حال المحتاج دون سؤال ولكنه يحب من عبده الدعاء: (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ونسأله سبحانه أن يحيينا على سنته ويتوفانا على ملته، وأن يجعلنا من أنصار دعوته العاملين على إقامة دولته، وأن لا يحرمنا من إحدى الحسنيين.
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ* كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
وما نحن أمام شكوى الصحابة كما جاء في الحديث: «شكونا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ فقال: قد كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل بنصفين، فما يصده ذلك عن دينه، ويُمْشَط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب، فما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمنّ اللهُ هذا الأمر حتى يسير الراكب من المدينة إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه ولكنكم تستعجلون» [رواه الإمام أحمد] .
2016-09-26