تزكية النفس (إيجاد النفسية الإسلامية)
2016/09/26م
المقالات
3,514 زيارة
تزكية النفس
(إيجاد النفسية الإسلامية)
بقلم: المناضل علي بن الحاج
(فرّج الله عنه)
قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:165].
وقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا@وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس:-109].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بكل رقة وخشوع فيقول: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا ، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا» [رواه مسلم].
إن سرّ تفوّق السلف الصالح يرجع إلى أمور كثيرة من أهمّها على الإطلاق طهارة النفس وزكاتها.
قيل لحمدون القصار رحمه الله: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلّموا لعزّ الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمان، ونحن نتكلّم لعزّ النفوس وطلب الدنيا واعتقاد الخلائق. وكان السّلف وعّاظاً بلسان حالهم ونحن وعّاظ بلسان مقالنا.
قال لسان الدين بن الخطيب: “الواعظ يكون بلسانين، لسان حال ولسان مقال، وربما كان لسان الحال أبلغ وهو يسمع من القبور الموحشة والقصور الخالية، والعظام البالية…”؛ ولذلك قال بشر الحافي: “من الناس من تحيا القلوب بذكرهم، ومنهم من تموت القلوب برؤياهم”.
والسلف طلبوا العلم للعمل، ونحن طلبناه للرياسة والجدل، وصدق إبراهيم بن الأدهم إذ يقول: “اطلبوا العلم للعمل فإن أكثر الناس قد غلطوا حتى صار علمهم كالجبال وعملهم كالذّرّ”.
والسلف حققوا في أنفسهم الحقائق ونحن تعلّقنا بالاسم دون المسمّى. كما وصف ذلك أبو محمّد المرتعش: “ذهبتْ حقائق الأشياء وبقيت أسماؤها. فالأسماء موجودة والحقائق مفقودة والدّعاوي في السّرائر مكفوفة والألسنة بها فصيحة. وعن قريب تُفقَد هذه الألسنة وهذه الدعاوي فلا يوجد لسان ناطق ولا مدح صائب”.
أو كما قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: “ما كنت أظنّ أنّي أدرك زماناً يعود الإسلام فيه غريباً، ترغب إلى عالِم فتجده مفتوناً بالدنيا يحبّ الرياسة والتعظيم ويأكل الدنيا بعلمه ويقول أنا أولى بها من غيري، وإن ترغب إلى عابد فتجده مفتوناً جاهلاً في عبادته مخدوعاً لنفسه صعد إلى أعلى درجات العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف بأعلاها، فقد صارت العلماء والعبّاد سباعاً ضارية وذئاباً مختلسة”.
واعلموا جيّداً، جنود الإسلام، أنه لا نجاة لنا مما نحن فيه من أزمات وقلاقل وزلازل إلاّ بالإقبال على تزكية النفس، نعم تزكية النفس هي الطريق للنجاة، وهذه حقيقة أيضاً نصّ الله عز وجل عليها في كتابه ورسولُه صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة؛ وإليك بعض نُقولِ أهل العلم في وجوب طهارة النفس وإصلاح الباطن وتزكية الوجدان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ج19 ص273: “فإن السّلوك هو الطريق التي أمر الله بها ورسولُه من الاعتقادات والعبادات والأخلاق وهذا كله مبيّن في الكتاب والسنّة فإن هذا بمنـزلة الغذاء الذي لا بدّ منه” وقال: “فمسائل السّلوك من جنس مسائل العقائد كلها منصوصة في الكتاب والسّنّة”.
وقال في الفتاوى ج11/ ص381: “والأعمال الظاهرة لا تكون صالحة مقبولة إلا بتوسّط عمل القلب: فإن القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا خبث الملك خبثت جنوده، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله»؛ وكذلك أعمال القلب لا بد أن تؤثر في عمل الجسد”.
وقال في كتابه: التحفة العراقية في الأعمال القلبية ص40: “إن أصل الدّين في الحقيقة هو الأمور الباطنة من العلوم والأعمال، وإن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها”.
وقال أحمد بن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحِكم ص71: “إن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للمحرمات واتقاءه الشبهات بحسب صلاح قلبه وحركة قلبه، فإن كان قلبه سليماً ليس فيه إلا محبّة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات الجوارح كلها. وإن كان القلب فاسداً قد استولى عليه اتباع الهوى وطلب ما يحبه ولو كرهه الله فسدت حركات الجوارح كلها وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب”.
وقال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: ج2/ ص179: “وليست الحقيقة خارجة عن الشريعة بل الشريعة طافحة بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال والعزوم والنيات وغير ذلك مما ذكرناه من أعمال القلوب، فمعرفة أحكام الظواهر معرفة لِجِلِّ الشرع، ومعرفة أحكام البواطن معرفة لِدِقِّ الشريعة، ولا ينكر شيئاً منها إلا كافر أو فاجر”.
وقال ابن القيِّم في زاد المهاجر إلى ربّه ص9: “فأخبر سبحانه أن البرّ هو الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه أصول الإيمان الخمسة التي لا قوام للإيمان إلا بها… وأنها الشرائع الظاهرة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنفقات الواجبة، وأنها الأعمال القلبية التي هي حقائقه من الصّبر والوفاء بالعهد فتناولت هذه الخصال جميع أقسام الدين”.
ومن هنا وجّه البيهقي قول الشافعي “إن حديث الأعمال بالنية ثلث العلم” فقال: بأن كسب العبد بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وهي أرجحها لأنها تكون عبادة بانفرادها وغيرها يحتاج إليها، ومن ثَمَّ ورد: “نية المرء خير من عمله…”.
ولذلك قال عبد الله بن أبي حمزة: “وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغلٌ إلا أن يعلّم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلاّ. فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك”.
قال ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر ص197: “رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السّلف الصالحين، فأمّا مجرد العلم بالحلال فليس له كبير عمل في رقة القلب، وإنما ترق القلوب بذكر رقائق الأحاديث، وأخبار السلف الصالحين لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها.
وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوْقٍ لأني وجدت جمهور المحدثين وطلاَب الحديث همة أحدهم في الحديث التالي وتكثير الأجزاء، وجمهور الفقهاء في علوم الجدل وما يغلب به الخصم.
وكيف يرق القلب مع هذه الأشياء؟ وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه. لا لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمِهِ هَدْيُهُ وسمتُه. فافهم هذا وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السّلف والزُّهّاد في الدنيا ليكون سبباً لرقة قلبك”.
قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص133: “ومن ذلك أنهم جعلوا النظر جل اشتغالهم ولم يمزجوه بما يرقق القلوب من قراءة القرآن وسماع الحديث وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومعلوم أن القلوب لا تخشع بتكرار إزالة النجاسة والماء المتغير. وهي محتاجة إلى التذكار والمواعظ لتنهض لطلب الآخرة، ومسائل الخلاف وإن كانت من علم الشرع إلا أنها لا تنهض بكل المطلوب، ومن لم يطلع على أسرار سير السلف وحال الذي تمذهب له لم يمكنهم سلوك طريقهم وينبغي أن يعلم أن الطبع لصّ، فإذا ترك مع أهل هذا الزمان سرق من طبائعهم فصار مثلهم، فإذا نظر في سير القدماء زاحمهم وتأدب بأخلاقهم، وقد كان بعض السلف يقول: حديث يرق له قلبي أحبّ إليّ من مائة قضية من قضايا شريح. وإنما قال هذا لأن رقة القلب مقصودة ولها أسباب… إن المجادلة إنما وضعت ليستبين الصواب وقد كان مقصود السلف المناصحة بالحق”.
وقال أيضاً ص142: “ومن تلبيسه عليهم (الفقهاء) أن يحسِّن لهم ازدراء الوعّاظ وبمنعهم من الحضور عندهم، فيقولون: من هؤلاء، هؤلاء قُصّاص. ومراد الشيطان أن لا يحضروا في موضع يلين فيه القلب ويخشع. والقُصّاص لا يُذمّون من حيث هذا الاسم لأن الله عز وجل قال: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وقال: (فَاقْصُصْ الْقَصَصَ)، وإنما ذم القُصّاص لأن الغالب منهم الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد. ثم غالبهم يخلط فيما يورده، وربما اعتمد على ما أكثره محال، فأما إذا كان القصص صدقاً ويوجب وعظاً فهو ممدوح، وقد كان احمد بن حنبل يقول: ما أحوج النّاس إلى قاصٍّ صَدوق”. وقال أيضاً: “كان الوعّاظ في قديم الزمان علماء فقهاء، وقد حضر مجلس عيد بن عمير عبد الله ابن عمر رضي الله عنه، وكان عمر بن عبد العزيز يحضر مجلس القاص. ثم خست هذه الصّناعة فتعرّض لها الجهّال فبعد عن الحضور عندهم المبرّزون من الناس وتعلق بهم العوام والنساء فلم يتشاغلوا بالعلم، وأقبلوا على القصص وما يعجب الجهلة وتنوعت البدع في هذا الفن”.
وقال علاّمة الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله في مجالس التذكير ص105:
والعناية الشرعية مُوجهة كلها إلى إصلاح النفوس إمّا مباشرة وإما بواسطة، فما من شيء ممّا شرعه الله تعالى لعباده من الحق والخير والعدل والإحسان إلا وهو راجع عليها بالصّلاح، وما من شيء نهى الله عنه من الباطل والشر والظلم إلا وهو عائد عليها بالفساد. فتكميل النفس الإنسانية هو أعظم المقصود من إنزال الكتب وإرسال الرّسل وشرع الشرائع.
وقال في ص110: “الأعمال قسمان أعمال الجوارح وأعمال القلوب وهذه أصل أعمال الجوارح”.
قال أبو الحسن النّدوي في كتابه: ربّانية لا رهبانية ص10:
“وجدنا القرآن ينوّه بشعبة من شعب الدين ومهمّة من مهمّات النبوّة يعبّر عنها بلفظ (التزكية)” وقال: “فالتزكية والإحسان وفقه الباطن حقائق شرعية علمية ومفاهيم دينية ثابتة من الكتاب والسنّة يقرّ بها المسلمون جميعاً” وقال: “التزكية… روح الشريعة ولبّ لباب الدين وحاجة الحياة، فلا كمال للدين ولا صلاح للحياة الاجتماعية، ولا لذة – بالمعنى الحقيقي – في الحياة الفردية إلا بتحقيق هذه الشعبة من الحياة”.
وقال أيضاً في كتابه: الإسلام من جديد ص450:
“وكل ما نعاني من فساد الأوضاع، مرده إلى فساد هذه النفوس وهيمنة هذه العقلية الخاضعة للمادة، الخادمة المستأثرة، الأنانية”.
هذا هو الدواء أيها الإخوان، فلا تخدعوا أنفسكم. وكلما جرّدتم النظر، ونزلتم إلى أعماق الحقائق، فإنكم ستجدون أن أصل البلاء هو شيء واحد (هو عبادة النفس)؛ فإذا لم تتغير هذه النفوس التي تعبد المادة، فلن تتغير هذه الأوضاع أبداً.
وقال في ص153: “وما دروْا أن المجتمع فاسد لفساد الضمائر والقلوب وما لم تصلح فلا يؤمَل الصلاح”، هذا أيها الإخوان قول مجرّب خبير لا قول منطوٍ على نفسه. قول رجل تهيأ له بحمد الله من الدراسة العميقة الشيء الكثير.
وقال: “فإن المسألة، مسألة النفوس، وما دمنا مُعْرِضين عن هذه الحقيقة فسوف نبقى نعاني مشكلة بعد مشكلة”.
وقال مرشد الإخوان الأول رحمه الله رحمة واسعة في حديث الثلاثاء حسن البنا ص337 “إن أساس المشاكل في الحياة هي النفوس قبل الظروف… وكم تعقدت ظروف أمام تلك المشاكل من المخلصين، ولكن ذللوها بتسامحهم، وكم كانت الحلول واضحة لكن فساد الضمائر وخبث الطوايا واعوجاج النفوس جعلت تلك الحلول الواضحة معقدة”.
وقال المفكر الإسلامي الكبير سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال القرآن ج1 ص458: “فالمعركة الحربية هي الحركة الإسلامية، ليست معركة أسلحة وخيل ورجال وعدة وعتاد وتدبير حربي فحسب… فهذه المعركة الجزئية ليست منعزلة عن الحركة الكبرى في عالم الضمير وعالم التنظيم الاجتماعي للجماعة المسلمة… إنها ذات ارتباط وثيق بصفاء ذلك الضمير وخلوصه، وتجرّده وتحرّره من الإرهاق والقيود التي تطمس على شفافية وتقعد به دون الفرار إلى الله!”
وقال أيضاً: “والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب والالتجاء إلى الله والالتصاق بركنه الركين. والتطهر من الذنوب إذن والالتصاق بالله والرجوع إلى كنفه من عدة النصر”.
وقال أيضاً: “ولا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، ما لم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني في الانتصار على النفس والغلبة على الهوى والفوز على الشهوة، وتقرير الحق الذي أراده الله عز وجل في حياة الناس، ليكون كل نصر نصراً لله ولمنهج الله. وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله، وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية” .
2016-09-26