كلمة الوعي: التحرك التركي ضد سوريا
2016/09/26م
المقالات, كلمات الأعداد
2,339 زيارة
اجتمع مجلس الأمن القومي التركي في 30/9، بحضور القادة العسكريين، وعلى جدول أعماله بحث دعم سوريا لحزب العمال الكردستاني، وتبنّي استراتيجية مضادة تتضمن خيارات عسكرية. وقد ذكرت الصحف التركية أن “سلسلة عقوبات اقتصادية وسياسية وعسكرية، يُحتمل فرضها على سورية، بحثت أثناء اجتماع مجلس الأمن القومي”. وقد صرّح رئيس أركان الجيش التركي الجنرال حسين كيفريك أوغلو عقب الاجتماع “بأن علاقات تركيا مع سوريا هي حالة حرب غير معلنة” وبذلك انفتحت حملة إعلامية قاسية ضد سوريا تَسابَقَ فيها المسؤولون الأتراك، ورافقتها إجراءات عسكرية على الحدود التركية السورية. ففي افتتاح الدورة البرلمانية لمجلس النواب التركي في 1/10 قال رئيس الجمهورية ديميريل: “نحتفظ لأنفسنا بحق الرد على سوريا” وزاد: “إن صبرنا يوشك أن ينفد” ولاقت هاتان الجملتان تصفيقاً حاداً من المجتمعين. وقبْلَ خطاب ديميريل، قال رئيس الوزراء يلماز: “إن كل التدابير اللازمة ستتخذ إزاء سوريا إذا دعت الحاجة”. أما وزير الدفاع سيزغين فنفى تعزيز الحشود العسكرية على الحدود مع سوريا، وقال إن بلاده “تسعى من خلال الوسائل الدبلوماسية إلى ثني سوريا عن دعم الإرهاب”، ولكنه عاد وصرّح لتلفزيون (أي. تي. في) يوم 7/10 “أنه يتوقع نصراً سريعاً للقوات التركية إذا ما نشبت الحرب”، وتوقع إنهاء أية مواجهة خلال أربع وعشرين ساعة. وشاركت الصحف التركية في هذه الحملة المسعورة على سوريا بالحديث عن الحشود العسكرية، وإلغاء إجازات العسكريين في المناطق المحاذية للحدود مع سوريا، وبأخبار الطلعات الجوية المتواصلة، وذِكْر سيناريوهات الحرب، ما أوجد انطباعاً بأن الأعمال العسكرية ستنشب بين يوم وآخر؛ فماذا كان الرد السوري؟
جاء الرد من دمشق مساء 3/10 على لسان مصدر مسؤول دعا إلى “معالجة المسائل التي تثير قلق البلدين بالطرق الدبلوماسية”، وألحّت سوريا على تركيا بـِ “اعتماد الحوار الودي انطلاقاً من سياسة حسن الجوار”، وأكدت “رفضها الحازم لسياسات المجابهة والتهديد من أي جهة أتت”، ولم تقم سوريا بأي إجراء عسكري، فهي لم تحرك قواتها باتجاه الحدود مع تركيا، ولم ترفع حالة التأهب في القوات المسلحة، وإن كانت استدعت بعض الاحتياط.
وقد سارع الرئيس المصري إلى التوجه إلى السعودية وانتقل منها إلى دمشق، ثم قام بزيارة إلى تركيا من أجل احتواء الموقف، ووَقْفِ التصعيد، ووَضْعِ آلية لاستئناف الحوار بين البلدين. وقد أيّدت أميركا وساطة حسني مبارك على لسان جيمس فولي مساعد الناطق باسم الخارجية الأميركية حيث قال: “إن الولايات المتحدة تدعم وساطة الرئيس المصري… نحن ندعم جهوده لحل الوضع بطريقة دبلوماسية”. كما أن وزير الدفاع الأميركي صرّح في مؤتمر صحفي في البحرين أن الولايات المتحدة تتطلع بصدق إلى عدم حصول أي مواجهة بسبب الأزمة بين سوريا وتركيا، لافتاً أن واشنطن تؤيد جهود الرئيس حسني مبارك لتسوية الأزمة. وقد قام وزير خارجية إيران بزيارة دمشق وأنقرة للتوسط، ولإشعار تركيا أنها لن تتخلى عن سوريا. أما دول أوروبا فلم يصدر عنها موقف مميز لانشغالها بمشكلة إقليم كوسوفو، إلاّ ما صدر عن وزير خارجية فرنسا من أن دوافع تركيا (غامضة).
إن المبرر الذي اتخذته تركيا لتصعيد هذه الحملة ضد سوريا، وهو دعم سوريا لحزب العمال الكردستاني، هو مبرر واهٍ، ولا يصلح لهذا التصعيد الشديد والمفاجئ، فتركيا تشكو منذ سنوات من دعم سوريا لأوجلان وحزبه، وجرى بحث هذا الأمر في اجتماعات المسؤولين من البلدين، وسبق أن قدّمت تركيا إلى سوريا في تموز الماضي وثيقة مبادئ حين قام معاون وزير الخارجية السوري بزيارة أنقرة، تضمنت احترام الحدود بين البلدين (أي تنازل سوريا عن لواء الإسكندرون)، ومنْع تسلل العناصر الإرهابية عبر الحدود، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وسبق أن أغلقت سوريا قاعدة تدريب حزب العمال في سهل البقاع اللبناني كما ذكر وزير خارجية لبنان. ويعترف المسؤولون الأتراك أن عناصر حزب العمال لا تدخل تركيا عبر الحدود مع سوريا ولكن عبر الحدود مع العراق، كما أن هناك دولاً كثيرة تقدم مساعدات لحزب العمال ومنها دول مجاورة لتركيا، ولكن تركيا لم تتخذ ضدهم هذه التهديدات. ولهذا فإن هذه الذريعة ليست إلا لكسب الرأي العام العالمي الذي يشجب الإرهاب، ولتغطية الأسباب الحقيقة لهذا التصعيد.
ولمعرفة حقيقة هذه الأسباب، لا بد من معرفة السياق الذي تم فيه التصعيد والأجواء التي رافقته. إن هذا التصعيد جاء بعد محطتين هامتين: أولاهما اتفاق المصالحة بين جلال الطالباني ومسعود البرزاني في واشنطن، والذي رعته أميركا وغابت عنه تركيا. والذي تضمن إحياء الإدارة الذاتية الكردية في شمال العراق، وتشكيل حكومة مؤقتة تشرف على انتخابات تشريعية في الصيف القادم. وقد أقلق هذا الاتفاق حكام تركيا، واعتبره نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أجاويد تسريعاً لعملية “تهدف إلى إدامة تقسيم العراق” إذ أشار الاتفاق وللمرة الأولى إلى “ضرورة ارتكاز وحدة البلاد إلى نظام اتحادي”، وهو ما تعتبره تركيا بداية تقسيم العراق، الذي تعارضه تركيا بشدة، لأن إنشاء كيان كردي في شمال العراق دعوة صريحة ومفتوحة إلى أكراد تركيا الذين يبلغ تعدادهم أكثر من عشرة ملايين نسمة، إلى إنشاء كيان ذاتي لهم، أو التحاقهم إلى الكيان الكردي في شمال العراق. وتوقع أجاويد أن تركيا قد تواجه معارضة كردية للعمليات التي تشنها عبر الحدود مع العراق ضد قواعد حزب العمال. ولهذا أدخلت تركيا قوات جديدة إلى شمال العراق تقدر بعشرة آلاف جندي لوأد الإدارة الذاتية الكردية أو للسيطرة عليها. وردّت تركيا على اتفاق المصالحة الكردية برفع علاقاتها الدبلوماسية مع العراق إلى مستوى السفراء، وطلبت من العراق تسمية سفير له في أنقرة. ولهذا كان الضغط على سوريا لتضييق الخناق على حركة حزب العمال، وقطع الإمدادات عنه.
أما المحطة الثانية فهي الزيارة المشؤومة التي قام بها يلماز إلى الأردن وفلسطين، والتي كرَّست الحلف الأردني ـ التركي مع اليهود كنواة لمنظمة أمن إقليمي للشرق الأوسط، وهو ما سبق أن طرحته بريطانيا على لسان وزير خارجيتها السابق، من أجل حماية كيان اليهود في فلسطين وحماية عملائها من قِبَل دول المنطقة أنفسهم. وقد بدئ بتنفيذ هذا الحلف بالاتفاق العسكري بين حكام تركيا العسكريين وبين اليهود عام 96، وانضم إليه الأردن سراً، واتضح ذلك من مشاركة الأردن، ولو بصفة مراقب، في المناورات البحرية المشتركة بين اليهود والأتراك، في أوائل هذا العام، والإعلان عن مناورات أردنية ـ تركية في الأردن في الربيع القادم، وإصرار أميركا على دعوة الأردن للمشاركة معها ومع تركيا واليهود في مناورات الخريف القادم، حتى لا يساء تفسير هذه المناورات كما حصل في المناورات التي جرت أوائل العام الحالي. وقد أيّد الأمير حسن بناء نظام إقليمي أمني في المنطقة، وأيّد بشدة دور تركيا الجديد، وقال في مؤتمر لأساتذة جامعات من أميركا وأوروبا: “إن تركيا، وهي قوة إقليمية وعسكرية واقتصادية تضم 62 مليون نسمة يجب أن تقوم بدور فعال في الشرق الأوسط”. وقد بدأ الأردن وتركيا الترويج لهذا الحلف، ولكن دون إثارة أي ضجيج، خشية معارضته من قبل شعوب المنطقة وإسقاطه، كما أسقطت الأحلاف العسكرية التي رسمت للمنطقة في الخمسينيات. وتدرك دول التحالف أن الحلف لن يكون فاعلاً إلاّ إذا انضمت إليه سوريا، أو على الأقل توقفت عن معاداته، ولهذا كان هذا الضغط على سوريا من أجل منعها من مهاجمة الحلف، وقد استغلت تركيا ضعف الإدارة الأميركية، وانشغالها بفضائح رئيسها، وهو ما توقعته الإدارة الأميركية حين حذّرت أعداءها، أفرادا ودولاً، من القيام بأي عمل ضد مصالح أميركا في هذا الظرف.
أما الشأن الداخلي التركي فهو ليس غائباً عن هذا التصعيد، فالائتلاف الحاكم في حالة من الضعف الشديد، والجنرالات ـ وهم في غالبيتهم ماسون أو من يهود الدونما ـ لا يستطيعون تمرير مخططاتهم بسبب ضعف الحكومة وقوة الأحزاب المعارضة. والمفروض إجراء انتخابات مبكرة في نيسان القادم، ويحرص يلماز والجنرالات على إبعاد أو إضعاف الأحزاب المعارضة مثل حزب تانسو شيللر وحزب الفضيلة، لكي يتمكن الجنرالات من تنفيذ مشاريعهم بتعديل الدستور، وسحب البساط من تحت أرجل الأحزاب، فلا يتمكنون من عرقلة إجراءات الجنرالات. وهذه الأزمة تخدم الجنرالات في توحيد الأحزاب والقوات المسلحة في مواجهة (العدو الخارجي!)، كما صرّح بذلك وزير الخارجية التركي إسماعيل جيم ـ وهو مشهور أنه من يهود الدونما ـ لصحيفة ديلي نيوز التركية أن “تركيا أبدت تصميماً جديداً، والشيء الأهم هو أننا كأمة واحدة… البرلمان والحكومة والمعارضة وكل المؤسسات التركية تحدّت وقالت: كفى”. وقد أشار بعض المعلقين إلى أن الحملة كانت لتحقيق هذا الهدف بالتحديد. ولهذا فإن أي مكسب تناله الحكومة الحالية سوف توظفه لدى الناخبين الأتراك لكسب مزيد من المقاعد البرلمانية، وسيكون في صالح الجنرالات فيقوّي قبضتهم على الوضع.
أما دور إسرائيل في هذه التهديدات، فإن اليهود خططوا ويخططون لضرب سوريا وإضعافها وفرض شروط الصلح عليها، ولكنهم لم ينجحوا بسبب تدخل أميركا لمنع هذه الضربات العسكرية، باعتبار أن سوريا مصلحة حيوية لأميركا، ولم تسمح ولن تسمح بضربها ما دامت تسير معها. واليهود ينسقون مع جنرالات تركيا وبدعم من بريطانيا للقيام بهذه الضربة، ويتحينون الفرص لذلك، مع أنهم نأوا ظاهراً بأنفسهم عن هذه الأزمة الأخيرة. فنتنياهو صرّح بأن إسرائيل ليس لها أدنى علاقة بالنزاع الحالي بين تركيا وسوريا، وقال: “إن إسرائيل اتخذت خطوات لطمأنة سوريا أنها غير معنية في مثل هذا النـزاع” أما وزير دفاع العدو موردخاي فقد صرح بأن تحالف إسرائيل مع تركيا ليس موجهاً ضد سوريا، وأن الجيش الإسرائيلي سيقلل من كثافته على الحدود مع سوريا لإثبات حسن النية. حتى إن حسني مبارك قال في مقابلة صحفية مع (الحياة) عشية الذكرى الخامسة والعشرين لحرب أكتوبر: إنه لا يملك دليلاً قاطعاً على دور لإسرائيل في هذه الأزمة. ولكن إسرائيل تحرِّض تركيا على ضرب المراكز الاستراتيجية في سوريا من أجل إضعافها وإخضاعها لشروط الصلح.
والراجح لدينا أن الحرب بعيدة الاحتمال، فالوساطة المصرية يبدو أنها احتوت الأزمة، فقد أمهلت السلطات التركية سوريا 45 يوماً لمعالجة وضع أوجلان وحزبه كما ذكرت صحيفة (حريّت) بتاريخ 9/10، وإن كانت قنوات تلفزيونية تركية نقلت عن مصادر حكومية أن أجاويد وسيزغين اعترضا على تحديد موعد نهائي، وأقنعا زملاءهما بأن الوقت لم يحن بعد لاتخاذ هذه الخطوة. وكذلك ديميريل ألقى بثقله ضد المتشددين، مشيراً إلى أنه لا تزال هناك فرصة للدبلوماسية. وقد جاءت زيارة عمرو موسى الاثنين 12/10 إلى أنقرة، لتكون مناسبة، لإظهار هذا التراجع التركي عن سياسة التهديد. فبعد اجتماعه لمدة ساعة مع ديميريل صرّح هذا الأخير أن الوزير المصري نقل (رسالة ملموسة تستحق الاهتمام)، كما أعطى وزير الخارجية التركي انطباعاً إيجابياً عن زيارة موسى، فقال: إن تركيا “تنظر بشكل إيجابي إلى رسالة الرئيس السوري حافظ الأسد (التي حملها عمرو موسى)، لكنها ستنتظر تحوّل الأقوال إلى أفعال”. وأوضح جيم أن الرسالة تتضمن تأكيدات بأن سوريا ستعالج مخاوف تركيا، وقال إن تركيا “تسعى إلى السلام ولا تريد إلا إنهاء إرهاب الانفصاليين والدعم الذي يقدّم لهم” وأضاف: “إذا وجدنا أنه توقف واقتنعنا بأنه سيبقى هكذا، فإننا سنتطلع إلى تطوير علاقاتنا مع سوريا مثل علاقاتنا مع الجيران الآخرين” وفي سياق التهدئة هذه، نقلت صحيفة (ميلييت) في 12/10 عن يلماز قوله إن أوجلان لم يعد موجوداً في سوريا. وقد بدا عمرو موسى متفائلاً، واجتمع في طريق عودته إلى القاهرة مع فاروق الشرع في مطار دمشق، وقد وصف الشرع المحادثات بأنها (بداية جيدة) وأن هناك أملاً، وسيطمئن أكثر فيما إذا استؤنف الحوار بين الجانبين. وهكذا يبدو أن الأزمة قد طُوّقت، وأن المفاوضات السوريةـ التركية ستُستأنَف بعيداً عن التهديدات والضغوطات .
في 22 من جُمادى الآخرة 1419هـ.
13/10/1998م.
2016-09-26