صفات رجال الدولة الإسلامية (2)
1998/12/26م
المقالات
1,949 زيارة
تعاطفاً مع الأخ علي بن حاج، فرج الله عنه، نقتبس من بعض ما كتب في سجنه في عام 86 وما بعده تحت عنوان «أزهار الأحكام في صفات رجال دولة الإسلام»، وقد كتبها جواباً على استفسار من أحد إخوانه السجناء عن مواصفات رجال الدولة المسلمة، واستجابة لطلبه «أحب أن أكتب بعض ما تجمع في ذهني عن رجال دولة الإسلام، غير أنني آثرت أن أتحدث عن صفات الرجال الذين قامت على كاهلهم دولة الإسلام الأولى في المدينة، وآثرت أن أتحدث عن ذلك من خلال جملة من النقاط على غير ترتيب ريثما تحل الفرصه للتوسع في ذلك وترتيب ما يجب ترتيبه والله الموفق».
وبهذه الوقفة المخالفة لما يتطلبه الواقع والنظرة التحليلية التي تقتضي ترك الجيش وعدم إنفاذه لما يداهم المدينة من أخطار يذكر التاريخ كما في الكامل لابن الأثير «كان خروج أسامة في ذلك الوقت من أكبر المصالح والحالة تلك فصاروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أرعبوا منهم وقالوا ما خرج هؤلاء من قوم إلا وهم في منعة شديدة، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه» ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه: »والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله » ومن هذه القصة ندرك أن قوة الإيمان والثقة بالله خير ما ينصر به الحق وتقام دولة الإسلام لا بالتحليلات التي تتعلق بالأسباب وتنسى المولى تعالى الذي لا تحمه الأسباب في نصرة أوليائه. ولذلك لما كتب الأمراء إلى أبي بكر وعمر يعلمونهما بما وقع من الأمر العظيم وما يقابلونه من خطر داهم وعدد لا قبل لهم به كتب إليهم الصديق قائلاً: «أن اجتمعوا وكونوا جنداً واحداً وألقوا جنود المشركين فأنتم أنصار الله والله ناصر من نصره وخاذل من كفره ولن يؤتى مثلكم عن قلة ولكن من تلقاء الذنوب فاحترسوا منها» هذا هو الإيمان الحق جعل أهل الإسلام أعزة بدينهم فمتى ظهر في الأمة أمثال هؤلاء الرجال فأبشر بقيام دولة الإسلام العظيمة. لأن دولة المبادئ لا يقيمها إلا أهل المبادئ. وإنك لا تجني من الشوك العنب!
-
زهدهم في الحياة الدنيا: ومن صفاتهم أنهم كانوا ينظرون إلى أن الحياة الدنيا متاع ومتاع قليل وأن ما عند الله خير وأبقى وأن الدار الآخرة هي الحيوان ولذلك كانوا ينظرون إلى أبهة الملوك كأنها أوراق الخريف المبعثرة لأنهم قرأوا قول الحق تبارك وتعالى: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) و قرأوا قوله تعالى في شأنهم: (وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) فنبذوا الدنيا كما نبذها رسولهم صلى الله عليه وسلم عندما عرضت عليه في مقابل السكوت عن الدعوة إلى الله تعالى. تروي كتب السيرة أن أحد المشركين قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم، ودينهم. وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل يا أبا الوليد أسمع»! قال: «يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت إنما تريد ملكاً ملكناك علينا» سمع رسول الله هذا العرض السخي ورده كله جملة واحدة أي رد الدنيا كلها صلى الله عليه وسلم ولذلك اقتدى به أصحابه رضوان الله عليهم. واسمع إلى هذه القصة التي رواها الطبري في تاريخه في شأن زهد عمر بن الخطاب في متاع الحياة الدنيا «هيأوا الهرمزان في هيئة فألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب ووضعوا على رأسه تاجاً يدعى الأذين مكللاً بالياقوت، وعليه حليته كيما يراه عمر والمسلمون في هيئته، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر في منزله فلم يجدوه فسألوا عنه فقيل جلس في المسجد لوفد، قدموا عليه من الكوفة، وانطلقوا يطلبونه في المسجد فلم يروه فلما انصرفوا مروا بغلمان من أهل المدينة يلعبون فقالوا لهم: تريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم في المسجد متوسداً برنسه وكان عمر قد جلس لوفد أهل الكوفة في برنس فلما فرغ من كلامهم ارتفعوا عنه وأخلوه، نزع برنسه ثم توسد فنام، فانطلقوا ومعهم النظارة حتى إذا رأوه جلسوا دونه وليس في المسجد نائم ولا يقظان غيره والدرة في يده معلقة فقال الهرمزان: أين عمر؟ فقالوا: هو ذا الوفد (يشيرون إلى الناس أن يسكتوا عنه) وأصفى الهرمزان إلى الوفد فقال، أين حرسه وحجابه عنه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب وكاتب ولا ديوان؟ قال فينبغي له أن يكون نبياً: فقالوا: بل يعمل عمل الأنبياء، وكثر الناس فاستيقظ عمر بالجلبة فاستوى جالساً ثم نظر إلى الهرمزان فقال: الهرمزان؟! قالوا نعم فتأمله وتأمل ما عليه وقال أعوذ بالله من النار وأستعين بالله، وقال: الحمد لله الذي أذل هذا وأشياعه، يا معشر المسلمين تمسكوا بهذا الدين واهتدوا بهدي نبيكم ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غرارة. فقال الوفد: هذا ملك الأهواز فكلمه فقال: لا حتى لا يبقى عليه من حليته شيء فرمى عنه بكل شيء عليه إلا شيئاً يستره وألبسوه ثوباً صفيقاً فكلمه» هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجال الدولة الإسلامية وكان باستطاعتهم التنعم بمسكن بهي ومشرب مريء وعيش هنيء ومطعم شهي وملبس وضيء ولكن خافوا إن فعلوا ذلك وأطلقوا أيديهم في النعيم وارتعوا في الملذات يكونون قد خانوا خيرة إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان إلى الدار الآخرة ولم ينعموا بثمار غرسهم والتحقوا بربهم جياع البطون حفاة الأقدام عراة الأجساد أو يكونوا قد وصلوا إلى المناصب العالية على جسر من متاعب إخوانهم وتضحياتهم الجسمية حتى مهدوا لهم الطريق للوصول ولكن الرجال لم يفعلوا ذلك عندما وصلوا إلى المناصب العالية وظلوا على زهدهم في الحياة الدنيا وأحبوا الالتحاق بإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان ولم يأخذوا من حطام الدنيا ما يرون أخذه خيانة لإخوانهم. فهذا هزار بن صخرة يصف علي بن أبي طالب في خلافته «ليستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل وظلمته كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يقلب كفه ويخاطب نفسه يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا إذا أتيناه ويأتينا إذا دعوناه يعظم أهل الدين ويحب المساكين لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه قد أرخى الليل سجوفه وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وكأني أسمعه وهو يقول يا دنيا أبي تعرضت أم لي تشوفت هيهات هيهات غري غيري قد بنتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك فعسرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير آه! من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق» هكذا كان خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم ورجال الدولة الإسلامية التي دوخت الدنيا.
ولا بأس أن أزيد أمثلة حية من تاريخ جيل الصحابة في الزهد في الحياة الدنيا في سبيل عقائدهم ومبادئهم. لما هاجر صهيب الرومي رضي الله عنه اعترضته في الطريق جماعة من كفار قريش وقالوا له: «أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا وتريد أن تخرج بمالك ونفسك فقال لهم بكل بساطة لأنه ليس من عبدة الدرهم والدينار: «أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم قال: فإني قد جعلت لكم مالي، فتركوه وترك لهم حطام الدنيا الزائل في سبيل عقيدته الحقة.
ومن منا يجهل قصة أبي طلحة الذي تصدق ببستانه لأنه وهو يصلي دخل بستانه طائر شغله عن صلاته وهو لا يريد أن يشغله عن صلاته أمر من أمور الحياة الدنيا. ولا أريد أن أطيل في ذكر الأمثلة الرائعة في زهد الصحابة في زهرة الحياة الدنيا أما (مسلمو) اليوم فقد شغلتهم هذه الدنيا عن كل أمر يتعلق بالدين وأصبحوا عبيداً لها والعياذ بالله. ولقد تعلمنا من السيرة النبوية أن الصحابة عندما مالت قلوب بعضهم إلى الحياة الدنيا انهزموا كما هو الشأن في غزوة أحد لقوله تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ) فرجال الدولة الإسلامية ينبغي أن يكونوا قدوة في الزهد في الحياة الدنيا وخاصة بعد وصولهم إلى المناصب العليا.
-
حب الاستشهاد والجهاد في سبيل العقيدة:
من خصال جيل الصحابة أنهم ضربوا أروع الأمثلة في التضحية في سبيل عقيدتهم ولم تقم لهم تلك الدولة العظيمة في التاريخ إلا على جسر من التضحيات التي يحار فيها العقل. لقد تكبدوا في سبيل الدين الشدائد وتجرعوا كؤوس العلقم مترعة وراحوا يتنافسون على الموت في سبيل عقائدهم تنافساً عجيباً غريباً فريداً لأنهم أحبوا العقائد فوق الحياة ذاتها فبذلوا أنفسهم في سبيل حياة عقائدهم، فمنحهم الله وهو أكرم الأكرمين الحياة الحقة الخالدة عنده وفي جواره جزاء صدق نياتهم. قال تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فكانت الشهادة قنطرة إلى تلك الحياة الكريمة الحقة، وهزموا الجيوش المدربة ذات الكفاءة العالية، لأنهم كانوا يحرصون على الموت، وغيرهم يحرص على الحياة، وكان أحدهم من شدة شوقه إلى النعيم المقيم لا يبالي أوقع عليه الموت أم على الموت وقع، فاستهانوا بالمخاوف والأخطار. ولما علم الله تعالى صدقهم في سبيله وفي سبيل إعلاء كلمته أذل لهم البحر فعندما حالت دجلة دون المسلمين جمع سعد بن أبي وقاص الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم، فقالوا جميعاً: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل. فندب الناس إلى العبور، وأذن لهم في الاقتحام وقال قولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه حسبنا الله ونعم الوكيل، والله، لينصرن الله وليه وليظهرن دينه وليهزمن عدوه ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وتلاحق الناس في دجلة وهم يتحدثون كما يتحدثون في البر فلما رآهم الفرس يطفون على وجه الماء قالوا: «ديوانه ديوانه» يقولون مجانين مجانين ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنساً بل تقاتلون جناً. وكان منظراً غريباً، وكان الذي يساير سعد بن أبي وقاص في الماء سلمان الفارسي، فجعل سعد يقول: إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات فقال سلمان: إن الإسلام جديد ذللت لهم والله البحور كما ذللت لهم البر، أما والذي نفس سلمان بيده ليخرجن منه أفواجاً كما دخلوا. فخرجوا منه كما قال سلمان لم يغرق منهم أحد ولم يفقدوا شيئاً. (البداية والنهاية لابن كثير). وهذا عقبة بن نافع أراد أن يتخذ مدينة في إفريقيا يكون بها عسكر المسلمين وأهلهم وأموالهم ليأمنوا من ثورة تكون من أهل البلاد، فقصد موضع القيروان وكانت رحلة مشتبكة، بها من أنواع الحيوان من السباع والحيات، وغير ذلك فدعا الله وكان مستجاب الدعوة ثم نادى أيتها الحيات والسباع إنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ارحلوا عنا فإنا نازلون، ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه، فنظر الناس ذلك اليوم إلى الدواب تحمل أولادها وتنتقل، فرآه قبيلة من البربر فأسلموا». ولا بأس أن أذكر أمثلة من جسارة المسلمين على الموت في سبيل الله فهاكها.
-
عندما قال عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض» فيرمي عمير بن الحمام الأنصاري ثمرات كان يأكلهن ويقول «لئن أنا حييت حتى آكل ثمراتي هذه إنها لحياة طويلة وقاتلهم حتى قتل.
-
لما طعن جبار بن سلمى عامر بن فهيرة يوم بئر معونة فأنفذه قال عامر «فزت ورب الكعبة» وهي الكلمة نفسها التي قالها علي رضي الله عنه عندما طعنه عبد الرحمن بن ملجم.
-
وأحد الصحابة أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم من الغنائم فقال له يا رسول الله «ما من أجل هذا اتبعتك وإنما اتبعتك على أن أرمي ههنا بسهم –ويشير إلى حلقه فأموت فأدخل الجنة» فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن تصدق الله يصدقك»، وتأتي غزوة أحد فإذا هو مجندل في دمائه والسهم في حلقه فقال عليه الصلاة والسلام: «أما هذا فقد صدق الله فصدقه”.
-
وهذا عمرو بن الجموح وهو شديد العرج والله يقول: (وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) يريد أن يشهد الحرب فيمنعه بنوه فيصل خبره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول له: «أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد»، فيقول: والله إني لأرجو أن استشهد فأطأ بعرجتي هذه الجنة.
-
وجاء رجل إلى أبي عبيدة يوم اليرموك فقال: إني تهيأت لأمري فهل من حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم تقرئه عني السلام وتقول: يا رسول الله، إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً.
-
ولقد كان الأطفال الصغار الذين عرفوا حب اللهو يتسابقون للشهادة فهذا عمير بن أبي وقاص يتوارى في الصفوف لئلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم فيرده لصغره ويراه أخوه الأكبر سعد بن أبي وقاص فيقول: ما لك يا أخي لأي شيء تتوارى؟ فيقول أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني صغير وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة ولكن ما هي إلا لحظات حتى يبصره الرسول صلى الله عليه وسلم فيرده فإذا بالولد يبكي ويرق له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الرقيق فيأذن له ويعلق له أخوه الأكبر السيف فإذا محمله أكبر من جسمه فيعقد فيه عقدة فيقاتل ويقتل شهيداً. وهذا رافع بن خديج وهو دون الخامسة عشرة يتطاول من شدة الشوق ليظن الناس أنه كبير قد بلغ سن القتال ويرده الرسول صلى الله عليه وسلم فيشفع له الوالد ويقبله الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرى ذلك سمرة بن جندب من أترابه فيقول كيف تردني يا رسول الله لقد أجزت رافعاً لو صارعته لصرعته فيأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمصارعة فيصرع سمرة رافعاً فيسمح لهما بالدخول في صف المجاهدين.
هذه قطرة من بحر وغيض من فيض. تلك دلالة قاطعة على أن رجال الدولة الأولى لم يكن يهمهم متاع الحياة الدنيا ولا الضنّ بأنفسهم في سبيل ما يعتقدون، في الوقت الذي نجد فيه الحاكم الخائن السادات يتعاقد مع إسرائيل على غلق المساجد وإبطال فريضة الجهاد الإسلامي.
وقبل أن اختم الكلام في هذه الصفة أود أن أشير إلى النقاط التالية.
-
إن النصر الذي حققه المسلمون الأوائل حققوه وهم من أفقر الناس وعدوهم أغنى، سواء كانوا كفار قريش أو الفرس أو الروم. ففي غزوة بدر قال عليه الصلاة والسلام: «اللهم إنهم جياع فأطعمهم وعراة فاكسهم وحفاة فاحملهم».
وفي غزوة أخرى عن جابر بن عبدالله قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ثلاثمائة راكب وأميرنا أبو عبيدة عامر بن الجراح نرصد عيرا لقريش فأقمنا بالساحل نصف شهر وأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فسمي جيش الخبط إلى أن قال وكان أبو عبيدة يعطينا ثمرة ثمرة قال فقلت كيف تصنعون بها؟ قال نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل.
هكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قامت على يدهم دولة الإسلام العظيمة فقراء فقراً مدقعاً لا يجدون ما يكسون به أجسامهم، وما يشبعون به بطونهم، ولكنهم رغم ذلك كله دانت لهم الأرض، وفتحت لهم الخزائن فما غيرت من معدنهم النفيس شيئاً، وكان أعداؤهم يتعجبون من حالتهم وفقرهم وملابسهم الرثة المهلهلة.
ذكر ابن كثير في البداية أن الفرس والروم «كانوا يسخرون من سلاحهم ونبالهم وثيابهم ويضحكون قال أبو وائل أحد الذين شهدوا القادسية كان الفرس يقولون للمسلمين لا يد لكم ولا قوة ولا سلاح ما جاء بكم؟ ارجعوا! قلنا ما نحن براجعين! فكانوا يضحكون من نبلنا ويقولون دوك دوك وشبهونا بالمغازل وكان سعد قد بعث طائفة من أصحابه إلى كسرى يدعونه إلى الله قبل الواقعة فاستأذنوا على كسرى فأذن لهم، وخرج أهل البلد ينظرون إلى أشكالهم وأرديتهم على عواتقهم وسياطهم بأيديهم والنعال في أرجلهم وخيولهم الضعيفة وخبطها الأرض بأرجلها وجعلوا يتعجبون منها غاية العجب كيف مثل هؤلاء يقهرون جيوشهم مع كثرة عددها وعدتها».
-
لا شك أن أية دولة لكي تتغلب على غيرها تحتاج إلى عدة عسكرية قوية وعدد لا يستهان به من الجيوش المدربة أحسن تدريب ولم كفاءة حربية عالية جداً فهل رجال الدولة الإسلامية الأولى كانوا يملكون ما عند الفرس والروم من عدة وعدد؟
والجواب لمن درس السيرة النبوية وتاريخ الإسلام يعرف أن جل المعارك الفاصلة التي خاضها المسلمون وانتصروا فيها كان عدوهم أكثر منهم عدة وعدداً وكفاءة حربية فما هو سر هذا التفوق الحربي الذي أدهش رجال التاريخ وقادة الحروب في القديم والحديث؟!! إنه التطوع في سبيل الله فلم يكن عندهم جيوش مرتزقة ذات تنظيم محكم تعبئها الدولة وتسهر على تجهيزها بالسلاح وتوفر لها الأقوات. إن الجيش الإسلامي الأول كان جيشاً من المتطوعة في سبيل الله يدفعهم حب الشهادة والشوق إلى الجنة فيجب نفسه بنفسه بل يصل به الحد إلى البكاء إذا لم يجد ما يحمله إلى الجهاد. كالذين قال الله فيهم: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) هذه الروح هي التي جعلتهم يحققون الانتصار الباهر على أقوى الجيوش في زمانهم. جاء في كتب السيرة «إن المسلمين بلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة آلاف من الروم ومائة ألف من المستعربة والمسلمون لا يزيدون على ثلاثة آلاف فلما بلغ المسلمين ذلك قالوا نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له، قال: فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة قال، فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة. ويوم أن قال رجل لخالد بن الوليد ما أكثر الروم وأقل المسلمين فقال خالد ويلك أتخوفني بالروم؟ إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال والله لوددت أن الأشقر برئ من توجعه وإنهم أضعفوا في العدد» هكذا كان الرجال الأوائل من جيل الصحابة لا يعيرون اهتماماً للعدد، لأنهم علموا أن الاهتمام بالعدد والكثرة أحياناً يكون سبباً في الهزيمة، كما وقع في غزوة حنين، ولذلك قال رتبيل ملك رخج وسجستان لرسل يزيد بن عبد الملك، وقد جاءوا إليه يطلبون الخراج: ما فعل قوم كانون يأتون خماص البطون سود الوجوه من الصلاة، نعالهم حوص»؟ قالوا انقرضوا، قال: أولئك أوفي منكم عهداً وأشد بأساً وإن كنتم أحسن منهم وجوهاً. ثم لم يعط أحداً من عمال بني أمية ولا عمال أبي مسلم على سجستان من تلك الإتاوة شيئاً. ولذلك أقر قادة الحروب أن النظام العسكري مهما كان متطوراً وقوياً ليس هو كل شيء، وأن التنظيمات العسكرية بلا روح معنوية قوية مصيرها الهزيمة، إنما الشأن الكبير في تحقيق النصر يرجع إلى تأثير الروح والمبدأ والغاية التي يقاتل لأجلها العساكر والجند، وتمكن ذلك من نفوسهم، لأن ذلك منبع القوة الخارقة، ومبعث الشجاعة الفذة، وإن نقص الكفاءة مع توفر تلك الروح القوية يحقق النصر، وإن الكفاءة العالية وفقدان تلك الروح المعنوية القوية التي تستهين بالموت في سبيل المبدأ العقيدة لا يحقق نصراً ولا يرفع راية. وإلا كيف انتصرت الدول الضعيفة على قوات الاستعمار مثلما حصل في الجزائر مع فرنسا الغاشمة. إنه الإيمان الحق المحرك للجهاد، وفقدان هذه الروح من الأجيال خسارة لا تقدر بثمن. وقد عمل النظام الفاجر المنحل على قتل هذه الروح في الشباب بشتى الوسائل المحرمة شرعاً، فتميع الشباب، وفقد روح المقاومة للباطل، وهذا الذي أضاع فلسطين العزيزة على المسلمين.
وهناك عامل آخر من عوامل التفوق الحربي رغم قلة العدد والعدة يتمثل في نبل الهدف الذي من أجله كان الجهاد، فالمسلمون الأوائل ما رفعوا لواء الجهاد من أجل إذلال العباد، ولا من أجل تحقيق شهوات الدنيا، وإنما من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، ولذلك في غزوة بدر كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ربه قائلاً: «اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد» وهذا عقبة بن نافع يقف أمام البحر ويقول: «رباه رباه! والله ما خرجت بطراً ولا أشراً ما خرجت إلا جهاداً في سبيلك وإعلاء لكلمتك وابتغاء مرضاتك. رباه والله لو أعلم أن وراء هذا البحر من يكفر بك لخضت البحر فحاربته حتى يؤمن بك وحدك».
وقد سبق وأن ذكرت قصة ربعي بن عامر رضي الله عنه.
تلك بعض الصفات التي تجسدت في جيل الصحابة الذين أقاموا دولة إسلامية مهيبة الجانب، نشرت العدل، وقهرت الظلم وخلصت شعوباً كانت تحت سيطرة الطغاة وأنظمة الأرض الكافرة فدخل الناس في دين الله أفواجاً.
والحمد لله الذي بفضله وحده تتم الصالحات.
تنبيهات هامة:
التنبيه الأول: إن قيام الدولة الإسلامية من السهولة بمكان، بشرط أن تجد الرجال الذين يتصفون بالصفات السالفة الذكر، أما أصحاب الفكر المثبط الذين يقولون تحت وطأة الهزيمة النفسية أو تحت وقع الجبن الهالع (لا يمكن أن تقوم دولة الإسلام إلا بدراسات إستراتيجية هامة ويعقدون المؤتمرات والملتقيات لذلك ويكثرون من التأليف النظري الصرف) فهؤلاء هيهات أن تقوم على أيديهم دولة، أو ترتفع لهم راية، خاصة بعد أن رأيناهم قد أسرفوا في الحذر والحيطة، وانعكست أفكارهم على الشعوب الإسلامية فتقاعسوا عن واجبهم نحو دينهم.
التنبيه الثاني: لا شك أن الكفاءة لا بد منها ولكنها لا تنفع وحدها، فلا بد من وجود قلوب عامرة بالإيمان، مستعدة للتضحية بالمال والنفس والنفيس في سبيل المبدأ والعقيدة، لأن الكفاءة وحدها قد توجد أناساً يضحون بالمبادئ في سبيل المناصب، فالذين يقولون إن دولة الإسلام تحتاج إلى العقل لا إلى العاطفة، والكفاءة لا إلى الحماسة، والدراسة لا إلى الاندفاع، قد تسببوا بهذا الأسلوب البارد في تثبيط جماهير الناس، فأحجموا حتى عن الأمر والنهي بدعوى أن ذلك من فأحجموا حتى عن الأمر والنهي بدعوى أن ذلك من العاطفة الهوجاء، أما أنا فأقول إن دولة الإسلام تحتاج إلى نوعين من الرجال رجل العقيدة الراسخة يجعل حياته فداء للإسلام ورجل علم وبصيرة. ويشترط في الثاني ما يشترط في الأول لأن العلم والبصيرة بدون إيمان فعال ويقين ثابت وتضحية في سبيل الله مجرد كفاءة علمية يصلح أن يعمل بها في مجتمع إسلامي كما يصلح أن يعمل بها في مجتمع جاهلي والواقع أكبر دليل على ما نقول. فقد وجدنا شباباً زادهم من العلم قليل ولكنهم يترجمونه إلى عمل وحركة ونشاط، ووجدنا علماء كباراً يحمل كل واحد منهم في رأسه دائرة معارف إسلامية ولكنه يجبن عن قول كلمة الحق، ويجعل من علمه وسيلة لتعريف الحق وتفريغ الفتاوى للظالمين فهل نفعتهم علومهم الشرعية مع خلو القلب من الإيمان الصادق؟!
التنبيه الثالث: هناك فروق جوهرية بين دولة الغرب الكافر ودولة الإسلام العظيمة.
-
الدول الغربية الكافرة تجعل عناصرها التي تقوم عليها الأرض والشعب والجيش والتشريع الأرضي، ولكن الدولة الإسلامية تجعل عنصرها الأساسي إنما هو العقيدة الإسلامية والتشريع الرباني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
-
الدول الغربية تعتمد اعتماداً كلياً على الأسباب والإمكانيات، والدولة الإسلامية تأخذ بالأسباب ولكن تعتمد على خالق الأسباب سبحانه وتعالى، وهذا هو السر في التفوق الحربي إنهم أخذوا بالأسباب، ولكن عندما داهمهم بالعدد والعدة العظيمة أبطل الله تعالى قوة أسباب خصمهم أمام قوة إيمانهم به عز و جل.
-
الدول الغربية المعارضة فيها للأشخاص والبرامج على حد سواء ولكن في دولة الإسلام المعارضة للأشخاص إذا انحرفوا عن المنهج المستقيم لأن المنهج من الله تبارك وتعالى.
-
الدولة الغربية تقوم على الديمقراطية وهي اختيار الشعب للنظام الذي يحكمه أما دولة الإسلام فالأمة تختار الحاكم الذي تتوفر فيه الشروط لتطبيق حكم الله تعالى، أما الحكم فلا خيار لها فيه فالسلطة للأمة والتشريع من الله.
-
الدول الغربية همها القشور والفجور والحرية المطلقة المفسدة للإنسان، ودولة الإسلام همها الجوهر والنظافة الظاهرية والباطنية والحرية في ضوابط الشرع.
-
الدول الغربية تحركها المنافع والمصالح والمادة، والدولة الإسلامية يحركها الإيمان بالغيب فيكثر فيها السخاء والتطوع والإيثار، ما يشكل الجانب الأساسي في التكافل الاجتماعي الواسع.
-
الدول الغربية تقوم على دراسات تؤمن فقط بقوة الأسباب وطبيعة الأشياء، والدولة الإسلامية تقوم على الأخذ بالأسباب دون الاعتماد الكلي عليها، ولذلك نجدها في كثير من الأحيان تتحدى فلسفة الأسباب ومنطق الأشياء.
-
الدول الغربية حامية للجاهلية بكل أنواعها تحت غطاء الحرية، والدولة الإسلامية حامية للإسلام القائم على الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح وهذا هو مبعث الصراع.
-
الدول الغربية دول جبانة، والدولة الإسلامية هداية وإرشاد.
تلك بعض الفروق الجوهرية بين دولة الغرب ومن مشى في ركبها، والدولة الإسلامية التي تنتظر أرضاً تقوم عليها. وصدق الله العظيم إذ يقول: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا).
وخير ما أقوله في ختام هذه المقالة التي كتبتها على عجل استجابة لطلبك قول القائل: إن السجن هو المكان الطبيعي لرجل حر في أمة مستعبدة.
1998-12-26