حلقات في الفكر السـياسـي (1)
1999/05/25م
المقالات
1,932 زيارة
المواضيع التي نود تقديمها في هذه الحلقات، هي مواضيع أساسيه في الفكر الإنسـانـي، من مثل الدين والـمـجـتـمـع والدولة والدار والجـمـاعـة وغيـرهـا، وهي من ثوابت الفكر الإنسـاني وجوهره، وهي ركائز حقيقية تحدد وجهه نظر الجماعات البشرية عن الحياة، أي هي من الأمور التي لا غناء عنها لعاقل، ولا يستغني عنها إلا غافل، ولا يفرط فيها إلا جاهل، فمنـزلتها من الإنسان كمنـزلة الروح من الحياة، وحاجته إليها كحاجته للهواء والغذاء.
وسنحاول تقديمها ـ إن شاء الله ـ باعتبارها من الفكر السياسي، لكونها مواضيع عمليه، تمس حياة الناس، وتتعلق بمصالحهم الحياتية، وترتبط بشؤونهم الدنيوية. وذلك بخلاف المواضيع الجدلية أو الفلسفية أو النظرية التي قد تحلق بعيداً عن الواقع، ويغلب عليها الناحية النظرية البحتة؛ وقد توغل في الفروض المنطقية الموصلة إلى الخيال فتنأى بنفسها عن وقائع الحياة المحسوسة، وعن الحوادث اليومية الجارية.
على أن ما نريد تناوله في هذه الحلقات من موضوعات قد سبق وأن تناولتها الأقلام وأشبعتها بحثاً، وتحدث فيها العلماء وأسهبوا في شرحها، وما زال الناس يتداولونها ويتبادلون معارفهم بشأنها، ولكن الجديد في تناول هذه الموضوعات هنا أمران : ـ
الأول: ـ حصر تناولها وعرضها من زاوية الفكر السياسي .
الثاني: ـ ربطـهـا بمـا هـو مـوجـود عـنـد غـيـرنـا مـن الأمـم الأخـرى عنـهـا لـتـوخي الـحـقـيـقـة واحـتـضـانـهـا.
ولنبدأ في هذه الحلقة بالموضوع الأول وهو «الدين». فما المقصود بالدين ؟ وما هي الناحية السياسية فيه ؟ وكيف نعتبره من الفكر السياسي ؟ وما هي علاقة الدين بالسياسة وبالحياة وبالدولة ؟ وهل التدين والعبادة شيء وما سواه من الدين شيء آخر ؟ وللإجابة على هذه التساؤلات نقول وبالله التوفيق:
الدين هو ما أنزله الله سبحانه من شرائع أو أوامر ونواه على رسله ليبلغوها للبشر ويعملوا بها، وهذه الشرائع أو الأوامر والنواهي لا تخرج عن أحد أمرين وهما: إما أن تكون من العقائد، وإما أن تكـون من الأحكـام، فإن كانـت من العقائد فمحلها التصديق وتتعلق بالإيمان، وإن كانت من الأحكام فمحلها الأفعال وتتعلق بالعمل. وبمعنى مبسـط يمـكـن القـول بأن الديـن هو عقائد وأحكام فالعقائد يطلب فيها الإيمان والأحكام يطلب فيها العمل. والإسلام، وهو آخر دين أنزله الله سبحانه على البشر، هو كغيره من الأديان عقائد وأحكام. فعقائده الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله سبحانه، ويجب في هذه العقائد الإيمان، وأحكامه هي المعالجات التي جاءت لأفعال العباد المختلفة كالعبادات والمعاملات والعقوبات والأنظمة المختلفة.
وبعد مجيء الإسلام لا تقبل عقائد أو أحكام إلا منه لقوله عز وجل: ( إن الدين عند الله الإسلام) ولقوله سبحانه: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) ولقوله: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه). فالدين منذ نزل الوحي على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الإسلام ولا دين شرعا غير دين الإسلام، أي لا عقائد ولا أحكام غير عقائد وأحكام الإسلام، وأتباع الأديان السابقة مأمورون باتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وترك أديانهم. ولا يصح أن يقال عن صلاتهم أو صيامهم إنها عبادة لله، ولا يصح أن يطلق على أماكن عبادتهم أنها دور عبادة لله، لأنه لا عبادة بعد نزول الوحي على خاتم الأنبياء والمرسلين، إلا ما جاء به الرسول الخاتم، ولأن دور عبادتهم لا يعبد فيها الله.
والتمييز بين الاعتقاد والتصديق، وكذلك بين الاعتقاد والأحكام ضروري لمعرفة الأدلة التي يستدل بها على العقائد والأحكام. فالاعتقاد هو التصديق الجازم، ويجب أن يكون دليله قطعياً لكي يحصل منه الجزم، ولذلك كانت أدلة العقائد قطعية الثبوت قطعية الدلالة. أما إن كان الدليل غير قطعي فلا يجب اعتقاده. أما الأحكام الشرعية فيؤخذ فيها بغلبة الظن، ولهذا لا يشترط أن يكون دليلها قطعياً.
هذا هو المقصود بالدين، أما الناحية السياسية فيه فمتعلقة برعاية شؤون الناس أي بجعله أساساً في الحكم بين الناس، وأساساً في تنفيذ الحكم، وبمعنى آخر جعل القانون والدستور والأنظمة مستمدة من الدين أو ما دل عليها بشكل من الأشكال. قال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) أي بكل ما أنزل الله من أحكام. وقال: (وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) أي احذرهم أن يفتنوك ويبعدوك عن عدم تحكيم الإسلام في أي جزء من شؤون حياتهم ولو كان يسيراً. ومثلاً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله» جعل العقيدة الإسلامية التي أساسها الشهادتان عقيدة سياسية، إذ ربطها بقتال الناس وربط حمل الدعوة إلى الناس بها. وهكذا فإننا نجد أن العقائد الإسلامية هي عقائد سياسية لأنها ربطت بأحكام شرعية انبثقت عنها وحافظت عليها، ونجد كذلك أن الأحكام الشرعية هي أحكام سياسية، لأنها تعالج شؤون الناس فترعاها، وتتناول مشاكلهم فتحلها، وهذه هي السياسة بعينها.
وبهذا يتبين أن الدين هو فكر سياسي، إذا طبق على أرض الواقع، وفكر كهنوتي إذا جمد تطبيقه وحصر في دور العبادة. فالدين باعتباره فكراً سياسياً جاء ليسيِّر الحياة بحسب أوامر الله ونواهيه، وربطه بالدولة أمر لا مفر منه حتى تنتظم الحياة وفق أحكام الدين.
بقيت نقطة واحدة: وهي هل التدين هو العبادة فقط وما سـوى العبـادات من الدين ليست من التدين ؟ وللإجابة على هذه النقطة ينبغي معرفة ما التدين، وما واقع علاقات الإنسان. فالتدين هو إحساس الإنسان بالعجز والنقص والاحتياج إلى الخالق المدبر. والعبادة هي أعلى مظاهر التقديس لهذا الخالق المدبر. ولكنها ليست هي التدين، بل التدين أشمل وأعم، وهو طاعة الله الخالق المدبر في كل ما يأمر به. أما علاقات الإنسان فهي ثلاث لا رابع لها: وهي علاقة الإنسان بخالقه وتشمل العقائد والعبادات، وعلاقة الإنسان بنفسه وتشمل الـمـطـعـومـات والـمـلـبـوسـات والأخلاق، وعـلاقـة الإنسـان بغيره وتشمل المعاملات والعقوبات. ولما كانت العبادات وهي جزء من علاقته بربه، وهي الجـزء الأبرز في طاعة الإنسـان لخالقه، وهي الأشـد تعبيراً عن سـائر العلاقات الأخرى، لما كانت كذلك ظن البعض بأن التدين يقتصر عليها وهذا ظن خاطئ لسببين: ـ
أولهما: أن الاعتقاد بوجود الله وبوحدانيته هو أساس الدين بما فيه العبادات وغيرها، ولولا الاعتقاد لما وجدت العبادات، ولا وجدت غيرها من أحكام الدين الأخرى، وبناءً عليه فأساس الدين وأساس التدين هو العقائد لا العبادات.
ثانيهما: إن الدين شامل للعلاقات الثلاث التي تربط الإنسان بخالقه وبنفسه وبغيره، فلا مجال لتقديم إحداها على الأخرى، ولا ذريعة لاعتبار العبادة فقط من التدين، وعدم اعتبار غيرها، لأن هذا تحكم لا أساس له، ولا يوجد دليل واحد يدل عليه لا من الكتاب ولا من السنة.
وأما بالنسبة للأديان الأخرى الموجودة اليوم كالنصرانية واليهودية والهندوسية والبوذية وغيرها فهي في حقيقتها كما هي عليه، وكما يطرحها أتباعها ليست أدياناً كما هو الحال مع الدين الإسلامي، لأنها وإن أطلق عليها أديان إلا أنها ليست كذلك، ويطلق عليها دين مجازاً، ولكن حقيقتها أنها ملل أو عقائد أو نحل، لأنها لا تشتمل على الأحكام التي تعالج جميع شؤون الحياة، فهي ناقصة وتقتصر في طرحها على العقـائـد والعبادات وعلى بعض الوصايا والأخلاق، ولذلك كان فصلها عن الحياة وعن الدولة وعن السياسة أمراً بدهياً، فعقائدها وعباداتها وأحكامها روحية صرفه وليست سياسية. بينما الإسلام عقائد وأحكام سياسية لرعاية جميع مصالح الناس، وتصريف جميع شؤونهم، لذلك كان من أفظع الأخطاء التي وقع فيها المسلمون هو قياس الإسلام على الأديان الأخرى، والقبول بفصله عن الحياة، بل كان المقتل الحقيقي الذي أصاب المسلمين، هو قبولهم بمجرد البحث في إمكانية فصل الإسلام عن الحياة وعن السياسة وعن الدولة.
وخلاصة القول، إن فكرة فصل الإسلام عن السياسة غريبة عن الإسلام، وما كان ينبغي أن تطرح، وطرحها جزء من الغزو الفكري الغربي، الذي غزانا به الفكر الرأسمالي الغربي، الذي حاول أن يسـوق فكـرة فصـل الدين عن الحياة بين المسلمين كجزء من الغزو الثقافي الذي فرضه على البلاد الإسلامية مقدمة لفرض سيطرته الكاملة على المسلمين وبلادهم، لذلك يجب الحذر منه ومقاومته ورفضه وعدم الانزلاق في مزالقه. ويبقى سؤال وهو: هل ما يطرح اليوم بشأن الثابت والمتغير، وأن العقائد والعبادات وبعض الأخلاق من الثوابت، وما عداها من الأحكام من المتحولات أو المتغيرات، هل لذلك سند من الإسلام؟!
الذين يطرحون هذه الطروحات يستندون إلى ما ورد عن سيدنا عمر أنه أوقف إعطاء «المؤلفة قلوبهم» من مال الزكاة، وأنه لم يقطع في عام الرمادة، ثم هناك الاختلاف في الاجتهاد بين كبار الصحابة والتابعين، ويستدلون أيضاً بما جاء في مجلة الأحكام الشرعية من قاعدة «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان». وللإجابة باختصار، فإن عقائد الإسلام وأحكامه ثابتة لا تتغير، فالإيمان بالله الواحد وبمحمد الرسول الخاتم كالإيمان بأن الصلاة فرض وصوم رمضان فرض، وأن الربا حرام، وقطع يد السارق حداً فرض، وأن الكذب حرام، وأن التجسس لصالح العدو حرام، ولا فرق بين هذه وتلك، ولكن الحكم على الشيء أو الفعل مرتبط بواقعه، فالخمرة حرام، ولكن إذا خُللت صارت حلالاً، إذ لم تعد خمراً، ولهذا تغير الحكم، والسارق الذي يحد بقطع يده يجب أن تتوفر فيه شروط منها أن لا يكون أخذ المال لأجل الحياة كونه جائعاً، فإن أخذ مال غيره ليقيم أوده، فلا ينطبق على عمله وصف السرقة التي فيها القطع، ولهذا لا يقطع. وعلى ذلك فإن الإسلام كله بعقائده وتشريعاته من الثوابت التي لا يجوز العبث بها تحت أية ذريعة، من مثل مسايرة العصر، أو مواكبة التقدم، أو الحداثة أو العصرنة، وهي كلها فخاخ لحرف المسلمين عن دينهم، حفظ الله المسلمين ودينهم .
1999-05-25