إطلالة على حركات التغيير في العالم الإسلامي بعد هدم دولة الخلافة العثمانية
1999/06/25م
المقالات
2,659 زيارة
بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لهدم دولة الخلافة، عقدت «كتلة الوعي» في جامعة «بيرزيت» في بيت المقدس مؤتمراً، هو الرابع في سلسلة المؤتمرات التي تعقدها بهذه المناسبة المؤلمة. وكما جاء في التعريف بهذا المؤتمر «وليس هذا المؤتمر بمؤتمر رثاءٍ وبكاء على الأطلال، بل هو وقفات للعبر، وشحذ للهمم، وإذكاء للمسؤولية وتذكير للغافل، ومعونة للذاكر، نتدارس فيه ما يهم المسلمين من مشاكل ونطلق صرخة نداء للمسلمين (أن هلموا إلينا فإن الرائد لا يكذب أهله).
نعم، نطلق نداءً حاراً من قلب يحترق، على ما أصاب هذه الأمة الكريمة ونحرك فيها إيمانها، ونخوة أجدادها الصحابة الأوائل ومن سار على نهجهم، فقد طال التصاقنا بالأرض وآن الأوان أن ننهض وننفض غبار الذل و المهانة ونرفع راية العقاب، ونعيد دولة الإسلام، دولة الخلافة الراشدة.» وفيما يلي نص إحدى المحاضرات التي ألقيت في المؤتمر.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد أيها الحضور الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته …،
مقدمة : إن التصدع الذي أصاب كيان الأمة الإسلامية قد حصل نتيجة هزة عنيفة أطاحت بالرأس، وخلخلت المفاصل، وكسرت الأطراف، وعطلت عمل الأجهزة الداخلية. فوقع العملاق الإسلامي شاخص العينين، منخسف الصدغين، مرخي القدمين، معوج الأنف، وقد ظهرت عليه معظم علامات الموت عند الفقهاء وعند العلماء، حتى أوشك كثير من الناس أن يحكموا بموته، ولربما صدر ذلك الحكم عند البعض. ولكن الحقيقة أن قلبه لا زال نابضا من غير أجهزة تنفس اصطناعية، ما يقطع بأن سر الحياة باق فيه. وبناءً عليه فإن محاولات إحيائه والنهوض به لن تكون يائسة ما دامت الروح فيه. وروحه وسر حياته هي عقيدته، وهي قيادته الفكرية، وهي قاعدته الفكرية التي يبنى عليها كل فكر، وتتحدد في ضوئها كل وجهة نظر. ولذلك فلا يلزم لإنهاضه إلا جهود المسلمين المخلصين الموجهة في المسـار الصـحيح. وأما الجهود خلا ذلك، والتي
بذلت خارج نطاق الإسلام لإحياء كيان الأمة الإسلامية فإنها تعتبر ضائعة كالهباء المنثور، وأصحابها انتهازيون ضالون، أو جهلة مضلّلون، لأنهم تصرفوا في مال لم يمت صاحبه بعد، وإجراءات التصرف في تركة الرجل لا تحل إلا بعد موته ودفنه، والتأكد من عدم عودته إلى هذه الدنيا. ومن هنا فالحديث عن التغيير أو الإصلاح لا يُقبل إلا إذا كان منسجماً مع المبدأ الإسلامي، ولا بد من استناد كل خطوة من خطوات هذا العمل إلى الشريعة الإسلامية. وفي الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد». والالتفات إلى ما قامت وتقوم به حركات التغيير الوطنية أو القومية أو الإقليمية، لا يكون من باب تثمين الإنجازات، أو احترام الرأي الآخر، ولكنه ضروري لبيان السّفه المنهجي، وخطأ المنطلقات، والتحذير من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، وإظهار العبث الفاضح الذي تمارسه تلكم الحركات بالأسس والثوابت التي قامت عليها، فلعل أتباعها من المسلمين يثوبون إلى رشدهم، ويرجعون عن غيهم. أما الحركات الإسلامية على اختلاف توجهاتها، وبغض النظر عن سلامة سيرها، فستحظى بنصيب وافر من هذه الإطلالة المتواضعة حتى نستطيع أن نحقق من خلالها رسم صورة واضحة لخريطة العمل الإسلامي في هذا الوقت العصيب من تاريخ الأمة الإسلامية، راجياً من الله سبحانه وتعالى أن يسهم ذلك في إجراء مراجعة شاملة لمسيرة العمل الإسلامي تنقله إلى موقع أقرب نحو الهدف الذي يصبو إليه. ولست أزعم أنني سأوفّي الموضوع حقه بقدر ما آمل أن يكون ذلك صرخة في عقول أبناء الأمة المخلصين تناشدهم أن يفتحوا هذا الملف الكبير والهام، ويتخذوا حياله ما يلزم من الدرس والتمحيص وأخذ العبر، والعمل على إعطائه الأولوية على كل أمر، كونه رأس كل أمر.
نبذة تاريخية عن هدم دولة الخلافة الإسلامية (العثمانية): ونحن بصدد إحياء ذكرى هدم دولة الخلافة يحسن بنا أن نتعرف على أبرز المعالم في مشروع الحقد والغدر والخيانة الذي أودى بخلافتنا وهدم دولتنا ورمز عزتنا والتي استمرت قروناً طويلة تطبق الإسلام وتحمله إلى العالم رسالة هدى ونور. يقول السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله في مذكراته: (ولكن الدول الكبرى التي تحكم شعوباً مسلمة عديدة في اَسيا مثل انجلترا وفرنسا ترتعد من سلاح الخلافة الذي أحمله، لهذا السبب استطاعوا الاتفاق على إزالة الدولة العثمانية). ويقول د. مصطفى حلمي في دراسته لكتاب (النكير على منكري النعمة من الدين والخلافة والأمة) لشيخ الإسلام مصطفى صبري، بعنوان (الأسرار الخفية وراء إلغاء الخلافة الإسلامية): (وخلاصة القول إن نظام الخلافة ـ ولو في شكله الضعيف الأخير ـ كان كفيلاً بصد هجمات الغرب الاستعماري الذي جاء غازياً بروح الحروب الصليبية في القرن العشرين. وكان يكفي أن يعلن الخليفة الجهاد حتى يهب والعالم الإسلامي على قلب رجل واحد بسبب وحدة العقيدة والهدف، والتماسك الوجداني، والخضوع لأمر رجل واحد هو الخليفة، لعلمهم أنه يمثل الخلافة الإسلامية منذ أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأورد عبد الفتاح مقصود في كتابه (صليبية إلى الأبد) قولاً للورنس الجاسوس الإنجليزي الثعلب جاء فيه ما يلي: (فإذا تمكنا من التحكم بهم بصورة صحيحة، فإنهم ـ أي المسلمين ـ سيبقون منقسمين سياسياً إلى دويلات تحسد بعضها البعض لا يمكن لها أن تتحد). وقد قيل الكثير في هذا المجال، ومن أراد الاستزادة فيمكنه مراجعة الكتب المذكورة آنفاً، بالإضافة إلى كتاب المرحوم محمد محمد حسين بعنوان: (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) وغيره من الكتب النادرة في الوفاء بأبسط استحقاقات هذا الأمر الجلل. ويبقى الشيء المهم في هذا السياق أن نتعرف على أبرز الأسباب التي أدت إلى وقوع الكارثة الفظيعة.
أولاً: ضعف فهم المسلمين لإسلامهم، وعدم إحسانهم تطبيق أحكامه. وتمثل ذلك في أعمال تتعلق بنصوص الإسلام، وأخرى تتعلق باللغة العربية، وأخرى تتصل بانطباقه على وقائع الحياة، حتى غدا الإسلام في نظر المسلمين فكرة خيالية غير قابلة للتطبيق.
ثانياً: قيام الغرب بالغزو الثقافي لبلاد المسلمين، حيث حمل لهم حضارة تناقض حضارة الإسلام وأوهمهم أنه أخذها منهم، وصدّقه في ذلك بعض مفكريهم وعلمائهم، وأتاهم بأنظمة وقوانين تناقض الإسلام وقال لهم أنها لا تخالف الإسلام.
ثالثاً: اتخاذ الأعمال العسكرية طريقة لوصول الأحزاب السياسية الإسلامية إلى الحكم، بدلاً من اتخـاذ الأمـة طـريقـة لذلك، ففقـدت البيعة الشرعية معناها الحقيقي، وتطبيقها الشرعي. وبدأت العـروة الأولى من عرى الإسـلام بالانتقاض وهي الحكم، ومنذ زمن الأمويين إلى أن سقط آخر خليفة عثماني.
رابعاً: سكوت بعض الخلفاء عن ولاة لهم استقلوا في ممالكهم وانفصلوا عن جسم الدولة، كما حصل أيام السلجوقيين والحمدانيين وغيرهم.
خامساً: إعطاء الولاية العامة للولاة ما أعطاهم صـلاحيات واسـعة حركت فيهم أحاسيس السيادة، وأطمعتهم بالاستقلال، كما حصل في الشام والأندلس وغيرهما.
سادساً: حمل الإسلام قيادة عسكرية لا قيادة فكرية سياسية، ما شوّه صورته في نظر الأمم الأخرى، وكانت تلك طريقة آل عثمان في الفتوحات وحمل الدعوة الإسلامية.
سابعاً: إقفال باب الاجتهاد وانخفاض عدد المجتهدين بشكل حاد وصل إلى مستوى الندرة.
ثامناً: تخـلـف الدولة العـثـمـانـيـة من الناحية العلمية والصـناعـيـة، متزامـنـاً مع تقـدم أوروبـا في هـذه الـمـجـالات.
تاسعاً: اقتطاع أعداء الإسلام أجزاءً من الدولة الإسلامية دون قدرتها على الرد، ما أضعف هيبتها الدولية وأطمع فيها الطامعين، كما حصل في البلقان وإيران، وجنوب الجزيرة العربية.
عاشراً: تغلغل الغزو التبشيري باسم العلم والمساعدات الإنسانية في كيان الأمة الداخلي يفرق صفوفها ويشعل نار الفتنة داخل البلاد الإسلامية، وتجنيد أبناء المسلمين في خدمة هذا التيار.
حادي عشـر: ظهور فكرة القومية في جميع أجزاء الدولة .. في البلقان وتركيا والبلاد العربية وأرمينيا وكردستان، وإثارة النعرة القومية لدى كل من العرب والعجم، وإيجاد أحزاب ورجالات من بين المسلمين ينادون بأفكار الاستقلال، وفصل الخلافة عن الحياة السياسية بل والمطالبة بإلغائها.
ثاني عشر: دور الإخطبوط اليهودي الصهيوني كأداة فعّـالة للدول الأوروبية الصليبية الحاقدة وخاصة بريطانيا وفرنسا.
ثالث عشر: دخول الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا وخروجها مهزومة، فانهارت وقضي عليها. وأعلن بعد ذلك إلغاء نظام الخلافة رسميا في 3 آذار من عام 1924م، ابتلينا بعدها بما يزيد عن الخمسين دويلة مكان الدولة العملاقة فكانوا كقطع الزجاج المتناثر من إبريق مكسور تؤذي من يتحرك في محيطها ولا تحمل للمسلمين أي خير.
المحاولات التي بذلت لوقف التدهور ومعالجة الموقف المتردي: يقول الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله في كتيب “التكتل الحزبي” وهو من منشورات حزب التحرير ما نصه: (منذ القرن الثالث عشر الهجري ـ التاسع عشر الميلادي ـ قامت حركات متعددة للنهضة، كانت محاولات لم تنجح، وإن تركت أثراً فعالاً فيمن أتى بعدها، ليعيدوا المحاولات مرةً أخرى..)، ثم يقول: (وكان إخفاق جميع هذه الحركات طبيعياً، لأنها لم تقم على فكرة صحيحة واضحة محددة، ولم تعرف طريقة مستقيمة، ولم تقم على أشخاص واعين، ولا على رابطة صحيحة ..)، ثم يمضي فيقول: (وهذه الحركات كانت حركات إسلامية وحركات قومية. فكان القائمون على الحركات الإسلامية يدعون إلى الإسلام بشكل مفتوح عام، ويحاولون أن يفسروا الإسلام تفسيراً يتفق مع الأوضاع التي كانت قائمة حينئذ، أو التي يراد أخذها من الأنظمة الأخرى، حتى يصلح الإسلام لأن يطبق عليها، وحتى يكون هذا التأويل مبرراً لبقائها أو أخذها. وأما القائمون على الحركات القومية فقد كان العرب منهم يدعون إلى قيام نهضة العرب على أساس قومي غامض مبهم، بغض النظر عن الإسلام والمسلمين، وكانوا يعتمدون على ألفاظ القومية والعزة والكرامة والعرب والعروبة والاستقلال دون أن يكون لهذه الألفاظ أي مفهوم واضح عندهم يتفق مع حقيقة النهضة. وكان الترك منهم يدعون إلى قيام نهضة الوطن التركي على أساس القومية، ويوجه دعاة القومية من العرب والترك بتوجيه الاستعمار الذي كان يوجه البلقان أيضاً بهذه الحركات القومية لاستقلاله عن الدولة العثمانية بوصفها دولة إسلامية.
أيها الحضور الكرام:
بما أن أصابع الاتهام موجهة بشكل صريح إلى الحركات القومية والوطنية من قبل العليمين بالمجتمعات والباحثين المنصفين أنها عميلة للاستعمار، والشهود قد فاقوا حد التواتر في إثبات تلك التهمة، وأنها شكلت محوراً أساسياً في عملية الهجوم على الدولة الإسلامية والقضاء عليها، وإقامة دويلات قومية ووطنية على أنقاضها، وهو ما يعرف اليوم بالدول العربية وما يسمى زوراً وبهتاناً بالدول الإسلامية، فينبغي على كل مسلم أن يضعها في قفص الاتهام ودائرة النبذ. وها قد مضى على بعضها في الحكم نيفاً وسبعين عاماً فماذا فعلوا بالأمة وهم الحكام وبيدهم مقاليد الأمور وقرارهم نافذ وجيوبهم منتفخة؟ والجواب على هذا السؤال يمكن إجماله في النقاط التالية:
1 ـ كـافــة هــذه الــدول مــصـــنــفـــة من دول العالم الثـالـث، وليس في المنـظـور انتـقـالـهـا إلـى الـعـالـم الـثـانـي.
2 ـ ما خاضت واحدة منها حربا حقيقية مع أعداء الأمة، وإذا فعلوا فمع بعضهم البعض، أو في معارك مصطنعة زادت من نفوذ الكفار في بلاد المسلمين.
3 ـ تضاعفت في عهودهم النحسة أعداد تاركي الصلاة ومانعي الزكاة أضعافاً كثيرة، وارتفعت نسبة السفور والجرائم الأخلاقية، وازداد المسلمون من الله بعداً.
4 ـ تدهور اقتصاد جميع تلك الدول، وانخفضت قيمة عملاتها، وزاد حجم مديونياتها الربوية إلى أرقام خيالية، وحتى الدول النفطية ركبتها الديون. وكذلك ارتفعت نسبة البطالة والمنتسبين إلى الشوارع نظراً لغياب المشاريع الاستثمارية التي تستوعب عمالة كثيرة كالصناعات الأساسية لا التحويلية أو التجميعية، ناهيكم عن سرقة الأموال العامة وإيداعهـا في حسـابـات سـرية خاصة في البنوك الأجنبية.
5 ـ أذكيت نيران الفتـنة بين الشـرائـح السكانية ولأسباب تافهة، وترسخت حالة العداء بين شعوب تلك الدول، وأفسدوا على الناس فطرتهم النقية حين بثّوا الريبة فيهم من خلال أجهزة المخابرات الكثيفة.
6 ـ ساهموا جميعا بشكل مباشر وغير مباشر في إنشاء دولة إسرائيل والمحافظة على بقائها وأمنها.
7 ـ وقفوا جميعا سداً منيعاً في وجه حملة دعوة الإسلام الذين يهدفون إلى إيصال الإسلام إلى الحكم، بل إنهم حاربوا بشراسة منقطعة النظير كل من يقوم بأي عمل من شأنه الأمر بالمعروف والنهي عن منكراتهم التي لا تعد ولا تحصى.
8 ـ عملوا جميعاً دون استثناء تحت سيادة الغرب الكافر بريطانياً كان أم فرنسياً أم أميركياً، ولم يعرف عنهم استقلال قط في ممارساتهم وسياساتهم، خاصة الخارجية منها.
9 ـ ربطوا دولهم وقذفوا شعوبهم في أتون منظـمـة الأمم المتحدة الكافرة ومؤسـسـاتها اللئيمة، والتي ما فتئت تمارس أبشع ألوان الاستعمار وفرض الهيمنة على الشعوب المستضعفة. ودخلوا في تحالفات إقليمية مشبوهة فما زادتهم غير تخسير.
وخلاصة القول في الحركات القومية والوطنية أنها ثمار خبيثة للمخطط الإجرامي الذي أطاح الدولة الإسلامية العثمانية التي كانت استمراراً للدولة الإسلامية الأولى، والتي أقامها الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، وأسست على التقوى من أول يوم، وأما الدول التي أقامها الاستعمار للحركات الوطنية والقومية فهي دول ضرار أسست على شفا جرف هار، فلا بد من هدمها وإزالة آثارها.
وإلى جانب الحركات الوطنية قامت حركات شيوعية تقوم على أساس المادية، وكانت هذه الحركات تابعة للحركة الشيوعية في روسيا، وكان إخفاقها طبيعياً لأنها تخالف فطرة الإنسان وتناقض عقيدة الإسلام فلم تتجاوب معها الأمة.
الحركات الإسلامية : أما الحركات الإسلامية فإنها أخذت أشكالاً متعددة، وقامت على اعتبارات متباينة ودوافع شتى. ويمكن بعد الاطلاع على تاريخها وظروف نشأتها ومنهاجها الحركي وواقعها المعاصر تقسيمها إلى الفئات التالية:
أولاً: حركات إصلاحية: (المهدية)، (الإخوان المسلمون) و(جماعة الإسلام).
ثانيا: حركات انقلابية: (الشيعة ـ مذهبية)، (حزب التحرير ـ غير مذهبية).
ثالثاً: حــركـات تـعــبــديــة: (الــصـــوفــيـة)، (التبلـيـغ)، (الـسـنـوسـيـة).
رابعاً: حـركـات تـراثـيـة: (الـسـلـفـيـة)، (جـمـعـيـة إحـيـاء الـتــراث).
خامسـاً: حـركـات جـهـاديـة: (الـجـهـاد)، (حزب الله)، (الأحزاب الأفغانية).
سادساً: حركات دستورية: (جبهة الإنقاذ)، (الرّفاه)، (الفضيلة)، (النهضة).
وقبل أن أسترسل في إطلالتي هذه على الحركات الإسلامية ينبغي التنبيه إلى مسألة هامة، حتى لا يساء فهمي، وهي أني لا أغمط أحداً حقه، ولا أدعي العصمة، ولسان حالي يردّد قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )@. فجميع الحركات الإسلامية قد تركت بصماتها على الساحة الإسلامية بشكل أو بآخر، ولها حضورها الذي لا يمكن للعين أن تخطئه. ولكنني اليوم بصدد الإطلال عليها من نافذة النقد الموضوعي وليس جلد الذات. فشباب الحركات الإسلامية أخوتي في العقيدة، أحبهم في الله، وأدعو لهم ولا أدعو عليهم. ولكني أقول إن الله سبحانه وتعالى جعل الناس متفاوتين في كل شيء حتى العلم، حيث يقول جل وعلا: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )@. فلا غرابة أن تتفوق حركة على أخرى في فقه أو فكر أو سعة اطلاع، أو قدرة على مجابهة الطغاة، أو غير ذلك مما يوجد الفوارق بين الناس. ونعود الآن إلى الحركات الإسلامية لنجد أنها تقسم من حيث الولادة الفكرية والمنهجية الحركية إلى قسمين: الأول يقوم على اجتهاد، والثاني لا يقوم على اجتهاد.
والمقصود بكلمة “اجتهاد” هنا أن يكون للحركة رأس تتوفر فيه شروط الاجتهاد الشرعية، وله أصول متبناة يخرّج فروع تبنياته عليها، وللحركة منهاج منبثق من الكتاب والسنة وما أرشد إليه الكتاب والسنة، وتصور واضح لواقع المسلمين وقت تأسيس الحركة، وللواقع الذي يجب أن يكونوا عليه، حتى يكون العمل محدداً، والغاية مبلورة. والذي دفعني لوضع هذا المقياس الذي نحكم من خلاله على الحركات والجماعات الإسلامية هو كون المسألة المراد بحثها في هذا السياق لم تبحث فيما مضى من أزمنة المسلمين، حيث أن الدولة الإسلامية استمرت دون انقطاع يذكر، ولم يجد علماء المسلمين أنفسهم أمام الظرف الذي نواجهه اليوم من زوال دولة الإسلام، فما احتاجوا لبحث هذا الواقع أبداً، وبالتالي لم تستنبط له أحكام شرعية لعلاجه، ولم يخطر ببال أحد منهم أن يفترض حصول مثل هذا الخطب الجلل. وعليه فلا يمكن الرجوع إلى كتب الفقه التراثية للبحث عن حكم العمل لاستئناف الحياة الإسلامية، بل لا بد من الاجتهاد في هذا المستجد، وبذل الوسع في طلب معرفة حكم الله فيه بشيء من الحكم الشرعي على وجه يُحس من نفس المجتهد العجزُ عن المزيد فيه. ومن هنا كان لا بد لكل من يتصدى للعمل في هذا الميدان أن يكون مؤهلاً للاجتهاد.
ونحن إذا دققنا النظر لوجدنا أن معظم الحركات الإسلامية الحالية لم تقم على اجتهاد، بل قامت على أسس ظرفية طارئة أوجدتها ظروف معينة، أو قامت على أساس صداقات بين أشخاص لاءمت بينهم هذه الصداقات، أو وجدت بينهم مصالح تكتلوا لتحقيقها، وداروا حول مصالحهم، بل أداروا أحكام الإسلام حول مصالحهم. ونجد أن بعض تلك الحركات قد قام على أساس الجمعيات الخيرية الهادفة للتخفيف من معاناة المسلمين جراء تقصير حكامهم، فبنت المدارس والمستشفيات والملاجئ، وساعدت في أعمال البر والخير، ولربما صاحب ذلك نشرُ شيء من الثقافة الإسلامية المسموح بها، كالدعوة إلى الأخلاق والوعظ والإرشاد، والقيام ببعض العبادات كالدعوة إلى الصلاة أو الزكاة أو الحج والعمرة، والحض على الدعاء والتسبيح والابتهال، وغير ذلك من الإصدارات التي تحمل مواد ثقافية إسلامية مفتوحة لا تنتج شخصيات إسلامية قادرة على حمل الدعوة الإسلامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بواجب العمل لاستئناف الحياة الإسلامية التي انقطعت، وإقامة الدولة الإسلامية على أنقاض حكم الطاغوت الجاثم على صدور المسلمين. فهذه الحركات قد أخفقت في فهم طبيعة المجتمعات ووسائل إصلاحها، وبالتالي غاب عنها أن وسائل إصلاح الجماعة غير وسائل إصلاح الفرد ولو كان جزءاً من الجماعة، لأن فساد الجماعة آت من فساد مشاعرها الجماعية التي أوجدتها الأنظمة الحاكمة بإعلامها المضلل ومناهجها التعليمية المتأثرة بالغرب، ومن فساد أجوائها الفكرية والروحية، ومن وجود المفاهيم المغلوطة عند الجماعة أو ما يسمى بالعرف العام. وإصلاح العرف العام لا يتأتى إلا من تطبيق النظام الإسلامي من قبل الدولة التي تصلح مشاعر الجماعة، وتوجد الأجواء الروحية الصحيحة، والأجواء الفكرية التي تتصل بالناحية الروحية. وأكبر دليل على ذلك أن البلاء الذي حل بالمسلمين من فساد خلقي وبعد عن الدين وانهيار لكل المثل والقيم العليا وسوء الرعاية الفاضح، لم يحصل إلا بعد زوال نظام الإسلام السياسي بهدم دولة الخلافة. ولم نسمع عبر قرون طويلة من عهود الدولة الإسلامية المتعاقبة عن مثل هذه الانهيارات الفظيعة والتقصيرات الفاضحة. هذا بالنسبة للحركات الإصلاحية. أما الحركات التي تركز على النواحي التعبدية فهي حركات قاصرة تماماً عن أن تحدث أي أثر يذكر في مجال التغيير رغم كثرة عدد منتسبيها نظراً لخلوها من أية منهجية حركية ذات طبيعة مرحلية هادفة ومحددة، بل إنها تكرر ذاتها في كل نشاط تقوم به، وتزداد اغتراباً عن المسلمين لبعدها عن قضاياهم، وعدم متابعتها لمستجداتهم، وهي تعلن أنها لا تعنى بالتغيير، ولا تفكر بتطوير أساليبها.
وأما باقي الحركات التي لم تقم على اجتهاد أيضاً، ولكنها ساهمت في قضايا إسلامية ذات طابع سياسي، وكانت أقرب من غيرها إلى الساحات الساخنة في حياة المسلمين، فإن رجالها قد انخرطوا في العمل الدعوي الواقعي تحت مظلة سلاطين الملك الجبري، ظانين أنهم بأدائهم هذا سيصلون إلى صبغ المجتمع بالصبغة الإسلامية، مراهنين على ثغرات دستورية، أو نصوص صريحة في القانون وضعت أصلاً للسماح لهم بالعمل. كالأحزاب الإسلامية التي عملت في صفوف المعارضة في كل من تركيا والأردن والسودان والجزائر وباكستان وغيرها تحت سمع وبصر النظام الحاكم في كل بلد. وقد تطور الأمر مع بعض تلك الحركات أن أوشكت على الوصول إلى الحكم عن طريق الانتخابات البرلمانية فسحقها النظام وأجهض مشروعها، كما حصل في الجزائر مع جبهة الإنقاذ. وقد وصل بعضها بالفعل إلى سدة الحكم كما حصل مع حزب الرفاه بزعامة نجم الدين أربكان الذي لم يفعل شيئاً يذكر، لأنه في الحقيقة محكوم بجنرالات الجيش ـ الحاكم الحقيقي في تركيا. وأما ما يشاع عن الحكم الإسلامي في السودان فذلك تلبيس لا يرقى إلى مستوى النظر في مجال التغيير نحو إقامة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي الذي يحكم بما أنزل الله، فيطبق الإسلام في الداخل ويحمله إلى العالم رسالة هدى ونور في الخارج. وأما شيعة إيران فإنهم ـ وإن ملكوا ناصية الاجتهاد، ويكادون يرتقون إلى مستوى الحزب السياسي الإسلامي ـ إلا أن بصيرتهم السياسية ضعيفة، ما مكن أميركا من تسخيرهم لخلع الشاه وإقامة دولة إيران على أسس قومية مذهبية، فتحجم دورها الشمولي في تطبيق الإسلام وحمل دعوته. بل إن وصول تيار محمد خاتمي إلى سدة الحكم يعتبر مؤشراً سلبياً قوياً على تراجع إيران حتى عن مذهبيتها الضيقة، فضلاً عن ادعائها بأنها دولة إسلامية.
أيها الحضور الكرام:
أما بالنسبة للحركات الجهادية التي تصدت لإنكار منكرات معينة، والأمر بمعروفات معينة، طبقاً لرؤى فقهية اجتهادية، فإن ذات العمل الذي يقومون به مشروع، ولكنه لا يصح أن يكون طريقا للتغيير الشامل وإقامة الدولة الإسلامية لا شرعاً ولا واقعاً. أما شرعا فقول الله سبحانه وتعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) يشعر بمنع المسلمين من القيام بأعمال مادية في مرحلة الدعوة، ولما هاجروا وأقاموا الدولة في المدينة اكتمل معنى الآية حيث يقول الله سـبـحـانـه: (… فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب، قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظـلمون فتيلاً )@. ولما سأل العباس بن عبادة بن نضلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بيعة العقبة الثانية أن يأمرهم فيميلون على أهل منى بأسيافهم ميلة رجل واحد قال: (لم نؤمر بذلك). وأما واقعا فقد تم لهم قتل السادات وهو رأس النظام المصري، ومع ذلك لم يحصل التغيير، فالمسألة ليست تغيير شخص حاكم، بل تغيير نظام حاكم. فالحاكم قد يقتل أو يموت ولكن النظام الحاكم سرعان ما يأتي بمن يخلفه الذي غالباً ما يكون أسوأ من سلفه.
فلم يبق معنا والحالة تلك إلا حـزب التحـرير الذي قام على الفكرة الإسلامية الواضحة المحددة، وأبصر طريقة عمله، ووضع منهاجه الحركي بناءً على فقهه لسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام ودراستها دراسة مستفيضة، وبعد فهمه لواقع المسلمين بشكل دقيق، واعتماده طريقة متميزة في ضم الأعضاء إلى جسمه، وسار في طريق الصراع الفكري والكفاح السياسي، وعمل ولا يزال جاهداً في طلب النصرة من أهل القوة والمنعة من المسلمين، من غير حيود عن الفكرة والطريقة، أو مداهنة أو محاباة لمن بيدهم الأمور، أو مجرد التفكير في مجاملة الكفار والركون إليهم ولو شيئاً قليلاً، متخذاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه»، متخذاً ذلك نبراساً وتشريعاً حتى يأذن الله بالنصر.
أيها الحضور الكرام:
بقيت مسألة متعلقة بدور الحكومات في مواجهة الحركات الإسلامية، تلك الحكومات التي، فوق بطشها وملاحقتها الأمنية للحركات المخلصة الجادة، فإنها قد تبنت حركات أطلقت عليها أسماءً إسلامية، ورعتها رعاية فائقة، وسلطتها على الناس كي ينشغلوا بها وبالعمل معها، لتصرفهم عن العمل الصحيح، واستخدمتها لتشـويه صـورة العمل الإسـلامي الحركـي الصحيح، ما أحدث في أوساط المسلمين انقسامات حادة، واختلافات على قضايا هامشية أقل أهمية من قضية العمل للتغيير. وفي الوقت نفسه ضاعفت من حجم الصعوبات التي تواجه الحركة الإسلامية الصحيحة.
خاتمة: وختاماً أقول إن أوراق العمل الإسلامي في جملتها مخلوطة، وضائعة، ومشتتة بين القصور الذاتي عند معظم الحركات، وبين التقصير غير المبرر لدى رجالها المخلصين في البحث الجاد عن الصواب والأصوب. وفي الوقت نفسه لم تسلم حركات التغيير من ضغوط حكومات الكفر القائمة في العالم الإسلامي ومن ورائها دول الكفر والاستكبار العالمي، ولا من الإحباطات المتعمدة التي تتبناها تلك الأجهزة القمعية لإجهاض العمل الصحيح للتغيير. ولا ننسى أن ننبه إلى الدور المشبوه الذي يلعبه علماء السوء الذين ما برحوا يوظفون طاقاتهم خدمة لحكام باعوا أنفسهم للشيطان، متجاهلين حاجة الأمة الملحة لعلمهم وفقههم ونزاهتهم الغائبة. وكل همهم تطويع النصوص الشرعية، وإخضاع الناس بالإسلام لحكامهم، ومنعهم من منابذتهم وخلعهم بعد كل الكفر البواح الذي نراه، وعندنا فيه من الله برهان. ناهيكم عن تفشي سكرتي الجهل وحب الحياة في أوساط عامة المسلمين وخاصتهم. ولكننا رغم هذا الظلام الدامس نستبشر بقرب الفرج من مفرج الكروب. إقرأوا إن شئتم قوله سبحانه وتعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب )@ .
1999-06-25