مع القرآن الكريم: ربط الأعمال باليوم الآخر
2008/02/25م
المقالات
1,923 زيارة
مع القرآن الكريم:
ربط الأعمال باليوم الآخر
الإيمان باليوم الآخر هو ركن من أركان الإيمان، ذكره الله تعالى بعد الإيمان به في كثير من الآيات، قال تعالى: (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [البقرة 232]، وهكذا في اثنتين وعشرين آية بهذا الاسم، ناهيك عن الآيات التي ذكرته تحت مسميات كثيرة وهي مبثوثة في سور القرآن الكريم وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من مثل الساعة، يوم الفصل، يوم التغابن، اليوم الموعود، البعث، الحشر، القيامة…
2- تصدرت به بعض سور من القرآن الكريم خاصة المكي منها مثل سورة القيامة، وسورة الغاشية، وسورة القارعة، وسميت باسمه، وكذلك الحاقة.
3- ربط سبحانه وتعالى الأعمال الخطيرة بذلك اليوم حتى يحذر المسلم من الوقوع فيها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الحَمْل: (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [البقرة 228] هذا تذكير وتهديد لما في ذلك من خطورة اختلاط الأنساب. واشترطه الله سبحانه فيمن يقيم مساجد الله وبيوته (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [التوبة 18].
4- جعل الله هذا اليوم من عمل الغيب فلا يعلم أحد متى هو (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ) [الأعراف 187].
كل هذا وغيره يجعل ليوم القيامة أهمية كبرى، وقد أدرك المسلمون الأوائل ذلك، وعرفوا كيف يربطون الأعمال التي يقومون بها بذلك اليوم العظيم، وبدقة متناهية وبربط محكم يوصي به بعضهم بعضاً، وقد تعلموا ذلك من رسولهم الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم). بهذا الربط كانت أعمالهم تصدر صدوراً طبيعياً بحيث أصبحت سجيةً وطبعاً، تصدر عنهم صدور الأشعة عن الشمس والأريج عن الزهر، وما ذلك إلا لوضوح وصفاء العقيدة عند هؤلاء النفر من الناس الذين ربّاهم نبينا الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فما يقومون به من أعمال، صغيرة أو كبيرة، كانوا يربطونها بذلك اليوم الذي قال تعالى فيه: (يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) [المزمل 17]، وقال سبحانه: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل 18]، فكانوا هداةً مهديين.
فالتصور عندهم لذلك اليوم كان جلياً واضحاً لا لبس فيه، فكانت أعمالهم وتصرفاتهم نقية طاهرة، وكان تقيدهم بأحكام الله دقيقاً تماماً كتصورهم، قال تعالى: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) [النور 37]، وقال سبحانه: (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) [الإنسان 7].
كان الإيمان باليوم الآخر بعد الإيمان بالله هو اللَّبنة التي عمل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على بناء صرح الإسلام العظيم بها، وليس أدل على ذلك من الانقلاب في الشخصية من شخصية جاهلية لها أعمالها وتصرفاتها الجاهلية إلى شخصية إسلامية متميزة مغايرة. وهذا التميز والتغيّر كان يُلْحَظ رأساً حين النطق بالشهادتين؛ لأن ما بعدهما نظرة أخرى وأعمال أخرى وتصرفات أخرى منقطعة الصلة بالجاهلية. ألا ترى أن المرء في الجاهلية حين كان يدخل الإسلام تنقلب حاله ويصبح خَلْقاً آخر، فيأخذ التمايز طريقه إلى فصل ذلك النفر المسلم عن الناس. فتتغير حاله وأعماله وتصرفاته وطباعه من جاهلية لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر إلى إسلام يدب على الأرض، وقد سبب ذلك التحول أذًى أصاب أولئك الذين أسلموا ولا يزال يصيبهم الأذى حتى يومنا هذا، وما كان هذا الأذى إلا لأنهم قالوا ربُّنا الله.
والربط بين الأعمال والتصرفات واليوم الآخر يكشف عنه فهم المسلم لسرِّ وجوده في هذه الحياة، حيث كان هذا واضحاً عند الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين، حيث علموا أن وجودهم هو لحمل الإسلام وتطبيقه والعيش من أجله، ولكن هذا الفهم لما أخذ يضعف حلّت به النكبات والمصائب والبلايا. ذلك راجع لغزو المفاهيم الغربية، فانقلبت الحال وتغير كل شيء.
لقد فهم المسلمون الأوائل إتقان العمل لأن الناقد بصير، وقد أكثروا من الزاد لأن السفر طويل، وقد أحكموا السفينة لأن البحر عميق. حين عرفوا ذلك سعِدوا وأسعَدوا فكانوا قادة الدنيا، الذين سطّر لهم التاريخ صفحات من نور.
وحين استظهر المسلمون الأوائل سورة المطفِّفين فهموا أن الحياة الدنيا الفانية، وأنها دار امتحان وبلاء… اجتازوها بنجاح، ووجدوا حلاوة ذلك في يوم الدين.
فالسورة تصف حال الكفار المكذبين بيوم الدين، قال تعالى: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) [المطففين 10-13]، وتصفهم كيف أنهم كانوا يضحكون من المؤمنين ويتغامزون إذا مرّوا بهم (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) [المطففين 29-30]، ثم تصفهم كيف تنقلب حالهم وينكشف أمرهم ولا ينظر إليهم الله سبحانه يوم القيامة، حيث يقول سبحانه: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين 15]، وإنهم في النار يعذبون (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ) [المطففين 16].
السورة فيها العِبر الكثيرة فلابد للمسلمين من الاتعاظ بها والوقوف عندها طويلاً، والرجوع إلى ربط الأعمال بذلك اليوم حتى تعود لنا عزتنا وكرامتنا، وما أشبه حالنا بحال صاحب البلابل الصدّاحة الذي نقلها من دوحها إلى أوكار الغربان وغاب عنها زمناً، وعندما عاد إليها وجدها خرساء لا تصدح، فحَزِن الرجل وسأل ما يفعل بها، فنصحه أحدهم أن يعيدها إلى الدَّوْح عند البلابل، وفعلاً أعادها فعاد إليها تغريدُها وصداحها كما كانت، فهلا ترك المسلمون أعشاش الغربان ليعودوا إلى الدوح ليعيد الله إليهم عزَّهم وكرامتهم؟
فإلى مجتمع نبنيه يكون أفراده وجماعاته وحكّامه عندهم هذا الربط المحكم بين العمل واليوم الآخر ندعو المسلمين:
ندعو الأفراد ليعملوا بطاعة الله ويخافوا يوماً تشخص فيه الأبصار، والجماعات ليكون توجهها إلى الله لنيل رضوانه بربط أعمالها بذلك اليوم الذي تُجمع فيه الخلائق للحساب. وندعو لإقامة خلافة راشدة يعمل فيها خليفة المسلمين ومعاونوه بطاعة الله، ويتّقون الله في الرعية، يسوسون الناس بأحكام الإسلام رعايةً ونصحاً وإرشاداً ونشراً لدين الله في أرض الله.
والمسلمون اليوم في أحلك الظروف، وهم منقسمون بين عامل لبناء صرح الخلافة كما كان، ويغذّ فيه السير، ومنهم من لا يعمل مقنعاً نفسه بما هو فيه من أعمال لا تقدم ولا تؤخر في البناء، حتى العاملون ليسوا سواءً، فمنهم المجدّ النشِط، ومنهم من يعمل ولكن ليس بكل طاقته.
فيا حملة الدعوة تذكرّوا ذلك اليوم الذي تشخص فيه الأبصار، تذكروا قوله تعالى: (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) [هود 103]، (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) [المائدة 109]، (قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة 119]، (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الزمر 15]، تذكروا يا حملة الدعوة قول الحق: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) [إبراهيم 31]، (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) [الإسراء 71]، (وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم 95]، (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ) [الشعراء 88]، (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) [الإسراء 14]، واذكروا قول الله سبحانه: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا) [الأحزاب 44]، (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) [يس 55]، (يَاعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [الزخرف 68]، (ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) [ق 34]، (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) [الحديد 12]، (فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا) [الإنسان 11].
ويطلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أحد الصحابة أن يقرأ عليه القرآن، فيقرأ الصحابي من سورة النساء حتى وصل إلى قوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) [النساء 41]، فيقول له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، حسبك، وقد فاضت عيناه.
تلك آيات بينات فاتلوها يا حملة الدعوة آناء الليل وأطراف النهار لعل الله يرضى فينصركم، واربطوا أعمالكم بها، وعلامة قبولها عند الله سبحانه أن يتمعر الوجه عند رؤية المنكر ويثور لما يسخط الله، ويهدأ وينشرح لما يرضي الله.
إن المسلم الحق هو الذي يستذكر هذه الآيات ويجعلها تسيره في حياته الدنيا، فهو يقبل ويحجم بحسبها… هكذا كان سلفنا الصالح، فإذا أعدنا تلك الأيام، فعندها أي خير وأي سعادة وأي عيش كريم يظلل هذا المجتمع؟ وعندها لا تدعُ السماء خيراً إلا أنزلته بإذن الله.
فهيّا، يا حملة الدعوة لبناء ذلك الصرح الذي بشّر به نبيُّكم (صلى الله عليه وآله وسلم): خلافة راشدة على منهاج النبوة يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض.
اللهم عجل لنا ذلك، اللهم آمين آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
2008-02-25