مراكز الأبحاث الغربية: دعوة لضرب التطرف بالاعتدال، ثم لضرب التطرف والاعتدال بالعلمانية
2007/12/25م
المقالات
1,748 زيارة
مراكز الأبحاث الغربية: دعوة لضرب التطرف بالاعتدال،
ثم لضرب التطرف والاعتدال بالعلمانية
منذ أن نجح الكافر المستعمر في هدم دولة الخلافة، عمد إلى فصل الدين عن السياسة في حياة المسلمين كافة وإيجاد رأي عام عن طريق عملائه، أن لا سياسة في الدين ولا حزبية في الإسلام، وعمل جاهداً على استمرار هذا الرأي ووجوده في أوساط المسلمين، وحشد لذلك الإمكانات والطاقات اللازمة لكي لا يتلمس المسلمون طريقهم إلى النهضة، وكي لا يفكروا في إعادة الخلافة الإسلامية التي كانت تشكل خطراً داهماً على الكفار المجرمين ثانيةً، ولكن رب الكون خيب فألهم وقيض لهذه الأمة الشيخ تقي الدين النبهاني، رحمه الله، فأنشأ حزب التحرير، وبتوفيق من الله عادت فكرة الإسلام السياسي والحكم بما أنزل الله وسياسة الناس بالشرع الإسلامي وانتشرت في العالم حتى غزت عقر دار الكافرين، فلم يستطع الكفار مواجهة هذا الفكر المستنير بالحجة والبرهان؛ لذلك عمدوا إلى التسليم بقبول الإسلام السياسي كأمر واقع لا يستطيعون الوقوف في وجهه بشكل واضح ولا تجاهله، ولكن بمحاربته بأساليب أكثر دهاءً وخبثاً بحيث يلبسون الحق بالباطل ويلبسون على المسلمين دينهم، مستخدمين لذلك أعوانهم من أبناء المسلمين، سواء أكانوا من الذين يلبسون ثياب الإسلام ويركنون إلى الكفار أم كانوا من الملحدين، وذلك بناءً على خطة مكونة من شقين وضعتها مراكز الأبحاث الغربية المطلعة على طبيعة المسلمين وحركاتهم وأحزابهم وعلمائهم في العالم، ومن يمكن أن يتعاون معهم، وكيف سيسخرونه لتحقيق أهدافهم، وهذان الشقان يبدوان للناس وكأنهما متناقضان بينما هما مكملان لبعضهما في الصد عن دين الله القويم:
الشق الأول: مساواة دين الإسلام الحق الذي جاءت عقيدته لتقنع العقل وتملأ القلب طمأنينة وكانت أدلة عقيدته قطعية، مساواته مع باقي الأديان التي لا تتبع إلا الشك والأهواء في عقائدها، والقول بأن جميع الديانات هي حق، مستخدمين لهذا الشق الذين يلبسون ثوب الإسلام من المسلمين، ويركنون إلى الكفار بحيث يمكن توجيههم في تغيير أحكام الإسلام وتحريف تفسير نصوصه حتى تتوافق مع وجهة نظر الغرب وأفكاره وعقائده وأنظمته، وكذلك إمكانية استغلالهم في تبرير ظلم الأنظمة الوضعية والحكام المجرمين والحد من نقمة الناس عليهم وذلك لإطالة أمد عروشهم، وفي تشويه صورة الإسلام السياسي، ومحاربة الأحزاب المبدئية التي تسعى لاستلام الحكم والسلطة للحكم بما أنزل الله، وتحارب أفكار الغرب ببيان زيفها وبطلانها وسوء معالجاتها، وأطلقوا عليهم اسم المعتدلين أو أصحاب حركة التجديد الديني، ففي دراسة حديثة أصدرها معهد السلام الدولي (USIP) يقول كاتب الدراسة: «إنه لا شك في أن الترابط بين الإسلام والسياسة أمر واقع يجب أن تتقبله الولايات المتحدة عاجلاً أو آجلاً، ولكن التساؤل يبقى: أي رؤية إسلامية ستنتصر في الصراع الجاري بين التطرف والتحديث، رؤية التشدد والتعصب الديني أم رؤية التسامح والمساواة والتطور؟ هذا صراع يمكن أن يحسم لصالح الرؤية الأخيرة إن ساندت السياسة الأميركية مؤيدي التجديد الإسلامي». وتقول نفس الدراسة: «ورغم أن معظم الأفراد والمؤسسات المنسوبين إلى حركة التجديد لا تجمع بينهم أي رابطة رسمية مباشرة من قريب أو بعيد، إلا أننا نلاحظ تجمع جهودهم تحت حزمة أهداف واحدة، ومن أهمها تحديث المبادئ والقيم والمؤسسات الإسلامية لتتلاءم مع العالم الحديث»، وطبقاً للدراسة: «تتكون حركة التجديد الإسلامي من الأفراد والمؤسسات التي تهدف إلى استعادة التراث الإسلامي من العلماء التقليديين التابعين للحكومات والأنظمة السياسية في الدول الإسلامية، وممن أسمتهم الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تقتصر أهدافها على رفع راية التعصب والعنف، والحركات الأصولية التي تحاول استغلال العملية الديمقراطية لإنشاء نظام سياسي غير حر مبني على مفاهيم ضيقة الأفق تحت شعار الإسلام وتطبيق شريعته فقط». وتضيف الدراسة نفسها: «وتتمثل أهمية هذه الحركة بالنسبة للولايات المتحدة في امتلاكها عناصر القدرة على دفع عملية الإصلاح والتطور، إضافة إلى محو وكشف التطرف الديني الذي ساعد على انتشار الكراهية والمشاعر السلبية داخل البلدان الإسلامية تجاه الثقافة الغربية بمجتمعاتها المختلفة»، وتضيف الدراسة نفسها: «”حركة التجديد الإسلامي” قد تنجح في إضعاف الجماعات الإسلامية المتطرفة إن حظيت بالدعم اللازم من الولايات المتحدة»؛ لهذا كان لا بد من الوقوف عند مفهوم الاعتدال لمعرفة ما يخفيه الغرب من عداء للإسلام باستخدام هذا المفهوم:
فالاعتدال لغة: توسط حال بين حالين في كم أو كيف، وكل ما تناسب فقد اعتدل، وكل ما أقمته فقد عدلته، وإذا مال شيء قلت عدلته أي أقمته فاعتدل أي استقام.
هذا هو المعنى اللغوي لكلمة اعتدال كما ورد في معجمي لسان العرب والقاموس المحيط، ومع أن لفظة الاعتدال لها معنيان في اللغة أحدهما: الاستقامة، وهذا يوافق ما أمر الإسلام بالتزامه ونهجه وهو السير على الطريق المستقيم والنهج القويم كما أمر الله دون الميل عنه والالتفات إلى غيره، قال تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود 112]، والمعنى الآخر هو توسط حال بين حالين وهذا لا يتوافق مع أخذ الإسلام، سواء أكان عقيدةً أم أحكاماً. ففي العقائد لا توجد حال بين الكفر والإيمان، وفي الأحكام الشرعية توجد حالُ مَنْ فرّط في أحكام الله تعالى وتنازل عنها، وحالُ من أفرط فيها وتشدد في أحكام ليست منها، وفي الحالتين مخالفة أحكام الله، وحال من التزم أوامر الله كما جاءت من عند الله دون إفراط أو تفريط، هي ليست بينهما وإنما هي حال جديدة مقابلهما معاً، إلا أن الغرب وأعوانه استغلوا رونق كلمة الاعتدال ومعنى توسط حال بين حالين، وغلو بعض المسلمين وبعض الحركات الإسلامية في أحكام ليست من دين الله ليعمل منها مفهوماً لمحاربة الإسلام والمسلمين والتدليس عليهم، وتلبيس دينهم عليهم، فيصرفهم عن دين الله القويم فيكونون من الهالكين، أي أن المعتدل عندهم من ركن إليهم ومال إلى أقوالهم وأفعالهم وأفكارهم ومعتقداتهم ومبادئهم، وأخذ يؤول دين الله وأحكامه لتتفق معها، وأخذ يوفق بين دين الله القويم وبين باطل الغرب، ويلبس الحق بالباطل، ويسايرهم على باطلهم ولا ينكره عليهم، مع أن القرآن الكريم جاء بآيات بينات تحذر من ذلك وتشدد في التحذير منه، وتبين أن من يفعله يستحق عذاب الله في الدنيا وفي الآخرة، حتى وإن كان خير خلق الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف بالذين هم من دونه، وإن سموا علماء وزعموا أنهم مجاهدون وأولياء لله، وفعلوا ذلك ليتخذهم الغرب أصدقاء لأنهم معتدلون وغير متشددين، قال تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا(74)إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الإسراء 73-75]، قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوماً، ولكن هذا تعريف للأمة لئلا يركن أحد منهم إلى المشركين في شيء من أحكام الله تعالى وشرائعه (تفسير القرطبي ج: 10 ص: 300)، وورد في تفسير قوله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [هود 113]، أي لا تميلوا أيها الناس إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله فتقبلوا منهم وترضوا أعمالهم؛ فتمسكم النار بفعلكم ذلك، وما لكم من دون الله من ناصر ينصركم وولي يليكم، فإنكم إن فعلتم ذلك لم ينصركم الله بل يخليكم من نصرته ويسلط عليكم عدوكم (تفسير الطبري ج: 12 ص: 126).
ومع أن الاعتدال ليس له مفهوم محدد عند الغربيين، ولكن نظراً لأهميته عندهم في حربهم على الإسلام والمسلمين، تناولت مراكز الأبحاث الغربية هذا المفهوم بوضع أفكاره ومظاهره، والتوصيات بأنجع الطرق وأنجحها لإمكانية تحقيق الأهداف المسخر لها، والأشخاص والحركات الممكن استغلالها في تحقيق هذه الأهداف، وكيفية التعامل معهم وتوفير الدعم المالي والإعلامي والفني وغير ذلك لهم . وأود أن أبين بعض الأفكار التي يريد الكفار أن يلبسوها على المسلمين باسم الاعتدال ومخالفتها لشرع الله والتي وردت باسم مظاهر الاعتدال في كتابات منظري هذا المفهوم:
أولاً: تتنوع الديانات والعقائد، ولكنها جميعاً تدعو لإصلاح النفس البشرية، وتدعو للتسامح والمحبة والسلام وضمان حقوق الناس، وبذلك فإن الإسلام الحقيقي يعني الديانات جميعها، وأن أصحاب الديانات جميعهم يسعون إلى نفس الهدف وهو إصلاح المجتمعات من الناحية الروحية والأخلاقية، والدين عبارة عن منظومة أخلاقية تعبر عن معانٍ روحية تتعلق بالعلاقة بين الإنسان وربه، ويجب عدم خلط الدين بالسياسة، وإن كان لبعض رجال الدين آراء في السياسة، فيجب أن يعبروا عنها كمواطنين لا أن يعبروا عن موقف الدين من السياسة، وواجبات رجال الدين أخلاقية وروحية تتعارض مع المطالبة بتسلم السلطة واحتراف العمل السياسي.
وهنا لا بد من وجوب بيان أن دين الإسلام الذي بعث به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الحق وما عداه هو الباطل، فهو الدين الوحيد الذي عقيدته عقلية توصل إليها عن طريق العقل، بل جزم العقل بها بحيث لا يأتيها أدنى ريب أو شك، فالمسلم توصل إلى عقيدته بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة، فآمن بوجود الله تعالى، وبأن محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولٌ من عند الله، وأن القرآن كتاب من عند الله، فآمن بكل ما جاء فيه، وبما نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتواتر، فآمن برسل الله ولم يفرق بين أحد منهم، وكذلك بكتب الله التي أنزلت على رسله، وكذلك بأن أصحاب الديانات في هذه الأيام دياناتهم محرفة مخالفة لما جاءت به الكتب السماوية الصحيحة، وأن أنبياء الله عليهم السلام نحن أولى الناس بهم وهم بريئون من تحريف وكفر أصحاب الديانات اليوم، فالكتب السماوية الصحيحة غير المحرفة تملي على أتباعها بعد بعثة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) اتباعه واتباع الدين الذي جاء به وهو الإسلام، فالإسلام نسخ جميع الشرائع السابقة، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث إلى الناس كافة وإلى يوم القيامة، ولو كان أيٌ من الأنبياء حياً لما وسعه إلا اتباعه، قال تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ، وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة 1-5].
ومن ناحية أخرى فإن دين الإسلام جاء ليعالج جميع مشاكل الإنسان، سواء أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم أخلاقية أم روحية أم في الحكم، إذاً فالإسلام دين السياسة يسوس الناس بناءً على أمر الله خالق البشر العالم بما يصلحهم، وجعل السلطان للأمة توكل عنها من يحكمها بكتاب الله وسنة رسوله وما أرشدا إليه، ولم يقتصر على العبادات والأخلاق ومن ثم يجعل الحكم لأهواء البشر المتقلبة، سواءً سموا رجال سياسة أم رجال دين، هذه الأهواء لا يأتي منها المحبة والعدل والسلام وإنما يأتي منها سفك الدماء والظلم والجور، ففي الإسلام ليس هنالك فصل بين الدين والسياسة، بل يجب أن تكون السياسة، حسب أحكام الدين، قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الجاثية18].
ثانياً: احترام الآخر، والابتعاد عن تسفيه رأيه واتهامه بالكفر أو الفسق أو الابتداع أو الخيانة وغير ذلك، والابتعاد عن النظر إليه بمنظار أسود يخفي حسناته ويظهر سيئاته، واعتبار مقياس التفاضل بين الناس بمجموع القيم التي يحملونها ويقدمونها لمجتمعهم وأسرهم.
وهنا لا بد من وجوب بيان أن الإسلام مع تشديده بالنهي عن رمي المسلمين بالكفر وبغير ما اكتسبوا جزافاً، وعن تتبع عوراتهم وزلاتهم، إلا أنه بيّن كفر وفسق وظلم وخيانة أقوام، إما بأعيانهم وإما بمعتقداتهم وأقوالهم وأفعالهم، وكذلك فإن الله تعالى أمر باحترام الحق وكره الكفر والفسوق والعصيان، ونهى عن الدفاع عن الكفار والفاسقين والخائنين بل أوجب التصدي لكفرهم وفسقهم وخيانتهم، وبيّن أن أعمال الكفار مهما بلغت في خدمة مجتمعاتهم فإنها باطلة لا قيمة ولا وزن لها عند الله وإنما يكون وزنها بالتقوى، قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات 7]، وقال تعالى: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) [النساء 107]، وقال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف 103-105].
ثالثاً: عدم التعصب للرأي، والاعتراف بالرأي الآخر، وإيجاد رؤية واضحة لمصالح الخلق ومقاصد الشرع وظروف العصر، وأخذ ما هو أرفق للناس ورفع الحرج عنهم، وعدم التشدد في غير محله كأن يكون في غير دار الإسلام أو في قوم حديثي العهد بالإسلام، والبحث عن حلول وسط للالتقاء في منتصف الطريق.
وهنا لا بد من وجوب بيان وجوب التمسك بالحكم الشرعي والتزامه والدعوة إليه وبيان حججه وبيناته، ولا يكون التنازل عن الرأي إلا إذا تبين عدم صحته، ويجب الكفر بالطاغوت وعدم احترام الآراء الفاسدة، وحتى في الآراء الظنية فإنها تؤخذ حسب قوة الدليل الشرعي لا حسب المصالح وظروف العصر وما هو أرفق للناس والحلول الوسط، قال تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الزخرف 43].
الشق الثاني: اعتبار الإسلام مع جميع الديانات بأنها باطل، وتأتي الدعوة لهذا الشق بعد احتدام الصراع بين دعاة الاعتدال وبين من يطلقون عليهم اسم المتطرفين، فيأتي هنا دور الملحدين من أبناء المسلمين وأعوان الغرب (سواء أكانوا بقايا شيوعيين أم علمانيين) ليدلسوا على الناس بحجة تصارع أهل الأديان، وتبريرهم أننا لا نستطيع أن نفهم من هو على الحق: المسلمون أم اليهود أم النصارى أم… وكذلك إن كان يزعم المسلمون أنهم على حق فمن منهم على حق: حماس أم رجال الدعوة أم حزب التحرير أم الإخوان المسلمون أم الوهابيون أم القاعدة أم…؟ وبذلك يزعم هؤلاء بأن هذه حجة تقودهم إلى الإلحاد والقول بأن جميع الديانات ومنها الإسلام على باطل، وإن جميع الحركات الإسلامية على باطل، سواء أكانوا متطرفين أم معتدلين؛ لأنهم غير موَحَدين وفرقوا الأمة بتصارعهم، وإن أصحاب الأديان هم سبب الخلاف بين الناس وكذلك هم سبب الحروب، وإن المعتدلين هم سبب إثارة المتطرفين لنفاقهم ومحاولة تحريفهم لنصوص الأديان التي لا تحتمل التأويل؛ لذلك لا بد من الإلحاد وإبعاد الدين من حياة الناس، وأود هنا أن أورد بعض العبارات من كتاب “نهاية الإيمان: الدين والإرهاب ومستقبل العقل” لسام هاريس كما ورد في تقرير واشنطن؛ وذلك لبيان طروحات أمثال هؤلاء الخبيثة وليس للرد على تفصيلاتها، فيقول هاريس في كتابه «إن المشكلة تشتد خطورة عندما يدعو المعتدلون في الدين إلى ضرورة احترام معتقدات الآخرين على الرغم من اعتبار أنهم كفرة ومتخلفين عن الدين الحق، في الوقت الذي لا يقبل فيه الإله احترام المعتقدات الخاطئة والتي تتعارض مع ما نص عليه كتابه المنـزل». ويصف هاريس ذلك: «بالتناقض، حيث يعتقد بأنه إذا كان شخص ما يؤمن بأن مآله الجنة بسبب اتباعه للنصوص والأحكام المنـزلة في كتابه، وأن مآل الشخص الآخر هو الجحيم بسبب ما يعتبره معتقدات دينية خاطئة، فمن غير الممكن أن يحترم ذلك الشخص المعتقدات الدينية لشخص آخر، ويقول إن ذلك هو النفاق بعينه».
ويضيف هاريس: «أن فكرة الاعتدال والتسامح الديني تشكل خطراً حقيقياً؛ لأن المعتدلين أنفسهم يفسحون المجال لوجود وبروز التطرف من خلال تعديل النصوص الدينية المقدسة وهو الأمر الذي يضطر غير المعتدلين إلى التشبث بالنصوص الأصلية وبالتالي يميلون نحو التطرف)). ويوضح هاريس: أن «المعتدلين يضطرون مراراً إلى تفسير وإعادة تفسير النصوص الدينية لكي تتماشى مع العقل والمنطق وتواكب التقدم الثقافي والحضاري، وبالتالي فإنهم يقترفون الخيانة بحق الدين والعقل في آن واحد».
ويشير الكاتب: إلى أن «هناك عوامل اقتصادية وثقافية خاصة في القرن الحادي والعشرين تدفع البعض إلى الاعتدال في الدين، مشيراً إلى أن المعتدلين في جميع الأديان يجدون أنفسهم مجبرين على تفسير النصوص والأحكام الدينية بشكل مبسط، أو حتى في بعض الأحيان يتجاهلون بعض النصوص مقابل العيش والتعايش في العالم المعاصر» وينبه «على ضرورة الانتباه إلى الدور الذي تلعبه المعتقدات الدينية في تحريك النـزاعات والتحريض عليها، ويريد تسليط الضوء على جنوح بعض المحللين إلى تجاهل ذلك الدور المتنامي، حيث لا يمكن تجاهل الحقيقة المتمثلة في أن مئات الملايين، في إشارة إلى المسلمين، يؤمنون بميتافيزيقا الاستشهاد،خاصة وأن لدى أولئك المؤمنين أسلحة كيميائية وبيولوجية ونووية» ويشدد سام هاريس «على ضرورة الابتعاد عن الإيمان الأعمى بالمسائل الميتافيزيقية والتوجه نحو الاحتكام إلى العقل والمنطق في التعامل بين بني البشر لكي تستمر الحياة البشرية ولا تتعرض إلى التهلكة والفناء». ويشير إلى: أن «التقدم التقني والتكنولوجي في المجال العسكري الذي حققته البشرية خاصة فيما يعتبره “علم الحروب” جعل الاختلافات الدينية وبالتالي المعتقدات الدينية نفسها متعارضة مع مفهوم البقاء على قيد الحياة» ويقول: «إنه لا شك في أن تلك التطورات تشكل مرحلة ما يصفه بنهاية سذاجة العالم، وبالتالي فإن كلمات مثل الإله والله يجب أن تلقى نفس المصير الذي آل إليه Apollo إله السفر والجمال الرجولي عند الإغريق وBaal أحد الآلهة عند الكنعانيين والفينيقيين..».
وهنا لا بد من وجوب بيان أن الإسلام يتميز عن جميع الأديان، وأن المؤمن بالله تعالى ليس أعمى وليس إيمانه بإيمان العجائز، وإنما توصل إليه عن طريق العقل، الذي جزم به، وأن أدلته قاطعة لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها، وأن الملحدين هم الذين يعطلون العقل ويضعون عليه الغشاوة لكي لا يرى البراهين الساطعة الدالة على وجوب وجود الخالق المدبر، وأن الإسلام هو دين الله الحق، وأن محمداً مرسل من عند الله، وأن القرآن كتاب الله نقل بالتواتر؛ لذلك يجزم بكل ما جاء به لأن أصله ثبت عن طريق العقل، فمن كان في حيرة من أي الأديان هو الصحيح فليستخدم عقله ليتوصل إلى أن الإسلام حل العقدة الكبرى حلاً يقنع العقل ويملأ القلب طمأنينة، وأن الإلحاد والإيمان بسائر الأديان لا يقنع العقل ومخالف للواقع والتفكير السليم، بل هو هروب من إعمال العقل وحتى مجرد التفكير، وأما بالنسبة للحروب والويلات والدمار ودماء الناس فإن استباحتها على أيدي الملحدين من شيوعيين ومخلفاتهم ومن علمانيين نموذج حاضر وواقع مشاهد لكل ذي بصر وبصيرة بات لا يخفى على أحد، فمن كان يتعامى فلينظر إلى مجازر الروس والصرب والأميركيين والأوروبيين وعملائهم وغيرهم من الملحدين ، وينظر إلى دولة الإسلام على مر عصورها كيف صانت دماء وأموال وأعراض الناس، وكيف حمتهم وخلصتهم من نهب وقتل وسلب المجرمين على مر عصورها، وما استشراء القتل والويلات والدمار في هذه الأيام إلا نتيجة طبيعية لغيابها. وأما بالنسبة لمن يتساءل: أيُّ المسلمين على حق، فمن يأتي بالدليل الشرعي الذي ينطبق على واقعه فهو على حق، ومن يخالف الأدلة الشرعية وانطباقها على واقعها فهو على باطل، وأن الاختلاف أمر طبيعي ما دام للرأي الذي يطرحه أي فريق دليل شرعي أو شبهة دليل، وإنما يكون زيغ الافراد والحركات والأحزاب بمخالفتهم للنصوص الشرعية، أو تفسير النصوص بما لا تحتمله الدلالات الشرعية أو اللغوية إن لم يكن للنص دلالة شرعية، أو الإتيان بأدلة لا تنطبق على وقائعها.
هذه بعض الأفكار البارزة في مفهوم الاعتدال، وما يمكر به أعداء الله لهذه الأمة أكبر، نسأل الله أن يرد كيدهم إلى نحورهم ويجعل تدميرهم في تدبيرهم، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
2007-12-25