حلقات في الفكر السياسي (3)
1999/07/25م
المقالات
1,941 زيارة
سنتحدث في هذه الحلقة من حلقات الفكر السياسي عن مفهوم الدولة في الإسلام، وعند الغرب، وسنعقد مقارنة بين واقع الدولة كما حدده الشرع وواقع الدولة كما حدده الفكر الغربي ثم نوضح شكل الدولة وهياكلها ووظيفتها في النظامين.
إن الدولة في جميع الأنظمة وفي كل الأزمان واقعها واحد، فهي كيان تنفيذي لمجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تقبلتها مجموعة من الناس. أي أنه لا بد من توفر شرطين في قيامها، الأول: وجود الكيان التنفيذي وهو السلطان. والثاني: وجود مجموعة مفاهيم ومقاييس وقناعات عند مجموعة الناس، صاحبة السلطان. لأنه لا وجود للكيان التنفيذي بدون وجود المفاهيم والمقاييس والقناعات التي سينفذها على الناس، وليس لأحد سلطان على الناس إلاّ إذا أعطاه إياه الناس، أصحاب السلطان.
============================================
الدولة في الإسلام هي الخلافة أو الإمامة وتعرف بأنها: رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم. وهي الشكل الذي وردت به الأحكام الشرعية. ومن هذا التعريف يتبين لنا أن الشكل محدد بالأحكام الشرعية ولا يجوز تغييره. فشكل الدولة هو الخلافة أو الإمامة، ولا يجوز أن يتحول بحال إلى شكل آخر كالملكية أو الجمهورية أو غيرهما لأنه محدد شرعاً. ودولة الخلافة وكما ورد في التعريف تقوم بعملين اثنين فقط هما:ـ إقامة أحكام الشرع في الداخل وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم في الخارج، وهذان العملان هما وظيفة الدولة الإسلامية ولا وظيفة لها غيرهما، فبإقامة أحكام الشرع في الداخل ترعى شؤون الناس، وتصرف مصالحهم بالأحكام الشرعية، وتحمل الدعوة إلى غير المسلمين من الذميين، وبحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم عن طريق نشر الفكرة والجهاد، ينشر الإسلام في العالم ويحمل إلى الآفاق.
وواقع دولة الخلافة أنها خليفة ينوب عن الأمة في الحكم والسلطان وفي تنفيذ الشرع. وهذا الخليفة تبايعه الأمة عن رضا واختيار، على أن يحكمها بالإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»، وقال عليه الصلاة والسلام: «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، ولا تستطيع الأمة عزله ما دام يطبق عليها شرع الله، أما محاسبته فحق لها وواجب عليها إن قصر أو أساء.
فالبيعة إذن هي الطريقة التي بموجبها يتم تنصيب الخليفة كما حددتها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما طبقها الصحابة الكرام في مبايعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. ويتخذ الخليفة معاونين له ويقيم هيكلية من أجهزة معينة للدولة، دلَّ عليها الشرع من مثل معاون التفويض، ومعاون التنفيذ وأمير الجهاد، وقضاة وهم الذين يفصلون في الخصومات، ومصالح ودوائر وإدارات وهي أجهزة تنفيذ القرارات إدارياً، ومجلس الأمة وهو مجلس شورى وتشاور وأخذ الرأي، والجيش وكل هذه الأجهزة مرتبطة بشكل مباشر ووثيق بالخليفة، لأن الأمة قد بايعت الخليفة ولم تبايع غيره فهو الوحيد الذي لا يتغير وكل من سواه يمكن تغييره وتبديله. لأن انعقاد البيعة وقعت على شخص الخليفة لا على غيره، فالخليفة واقعياً هو الدولة، والدولة هي الخليفة. والصلاحيات كلها للخليفة، وهو يعطي ما له من صلاحيات، لغيره بطريق الامتداد، وليس هناك نظام هرمي، تزيد الصلاحيات كلما اقتربنا من قمة الهرم. فالوالي له صلاحيات الخليفة في ولايته، ولكنه محاسب أمام الخليفة، ويستمد صلاحياته منه، وكذلك المعاونون وغيرهم، ما عدا مجلس الأمة الذي تنتخبه الأمة.
وهذا الواقع لشكل الدولة واقع شرعي لا يجوز تغييره ولا بوجه من الوجوه. يقول عليه الصلاة والسلام: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر. قالوا: فماذا تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم» ففي هذا الحديث الشريف حدد الرسول صلى الله عليه وسلم شكل الحكم بعد زمن النبوة بقوله: «ستكون خلفاء فتكثر» فحدده بالخلافة، وحدد البيعة كطريقة واجبة على المسلمين لإقامة الخلافة ولاستمرار قيامها، لقوله عليه الصلاة والسلام: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» فأوجب بذلك بيعة في عنق كل مسلم لخليفة وبدونها تكون ميتته جاهلية. ولا تكون الدولة إسلامية إلا إذا كانت السيادة للشرع، والحاكمية لله وحده، ولا تكون خلافة إلا إذا كان هناك خليفة واحد لجميع المسلمين في العالم، له حق تبني الأحكام الشرعية، توفرت فيه شروط الانعقاد الشرعية التي دل عليها الدليل الشرعي، وأن يكون مبايعاً من الأمة عن رضا واختيار.
هذا هو واقع الدولة في الإسلام، أما عند الغربيين فالواقع عندهم مختلف عما هو عندنا تمام الاختلاف، فالدولة عندهم مجموعة مؤسسات منها مؤسسة الحكومة، وما الحكومة سوى مؤسسة واحدة من عدة مؤسسات تتكون منها الدولة ولكل مؤسسة صلاحيات. فالرئيس مؤسسة ومجلس الوزراء مؤسسة، وكل وزارة مؤسسة، ومجلس النواب مؤسسة، والنقابات مؤسسات، ولكل منها صلاحيات تراتبية. وعند الغرب ثلاث سلطات رئيسية وهي السلطة التنفيذية وتتمثل بالحكومة، والسلطة التشريعية وتتمثل في البرلمان، والسلطة القضائية وتتمثل في القضاة والمحاكم. وكل سلطة من هذه يجب أن تفصل عن الأخرى ولها جزء من المهام. والدولة مجموع كل السلطات، وأما الحكومة فسلطة واحدة منها فقط. وفي كثير من تعريفات مفكري الغرب يعتبرون الدولة مكونة من السلطات والمؤسسات والأرض والموارد والشعب. وشكل الحكم عندهم إما أن يكون جمهورياً أو ملكياً، وإما أن يكون رئاسياً أو برلمانياً، والاتجاه السائد عندهم الآن يميل إلى تقليص دور الحكومة إلى أدنى حد وإعطاء المؤسسات الأخرى صلاحيات أكبر، أما في حالات الحرب، والحالات الاستثنائية، فتتركز الصلاحيات في يد الرئيس يعاونه حفنة صغيرة من المعاونين والمستشارين.
أما وظيفة الدولة عندهم، فهي تنظيم ممارسة الناس لحرياتهم، حتى لا يتعدى أحد على حق غيره في ممارسة حرياته، ولذلك، فالدولة عندهم مخالفة لنظام الحريات، ولهذا فهي تنفذ القوانين بالقوة، ويتهرب الناس من تطبيق القوانين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، لأن في القوانين تحديداً لنظام الحريات الذي يعتنقونه.
هذا هو واقع الدولة والحكومة والمؤسسات والسلطات في الغرب، وهذا الواقع يناقض واقع الدولة في الإسلام مناقضة تامة، الأمر الذي يقتضي التمييز بين الواقعين ووجوب عدم الخلط بينهما وإثبات حرمة أخذ نظام الحكم الغربي وإدخاله في نظام الحكم في الإسلام.
فالدولة في الإسلام تشمل السلطات الثلاث التنفيذية والقضائية وما يسمى عندهم بالتشريعية بلا فصل بينها، بينما الحكومة عند الغرب تشمل السلطة التنفيذية مفصولة عن السلطتين القضائية والتشريعية. والدولة في الإسلام لا تشتمل على السكان والأرض والموارد، بينما في الغرب، الدولة عندهم تشتمل على كل شيء موجود في البلد. وفي الإسلام لا يوجد حكومة بالمعنى الموجود في الغرب تستمد وجودها واستمرارها من ثقة المجلس النيابي، والدولة هي الحكومة لأنها الكيان التنفيذي. بينما في الغرب يعتبرون الحكومة متمثلة في الرئيس أو مجلس الوزراء فقط ولا تتعداهم، والرئيس في النظام الغربي أجير عند الناس ليحكمهم بما يريدون، ولذلك يعزلونه حين لا يريدونه، ولهذا فهو يتقاضى أجراً ككل أجير.
وهذه الاختلافات في واقع الدولة بين الإسلام والغرب ليست اختلافات هامشية أو شكلية بل هي اختلافات جوهرية تتعلق بصلب المبدأ.
ولا يقال هنا بأن العبرة بالحكم، وما الحكومة والدولة سوى أساليب وأدوات، لا يقال ذلك لأن الدولة وهياكلها هي جزء لا يتجزأ من نظام الحكم الذي تم توصيفه وتحديده بالأحكام الشرعية غير القابلة للتغيير والتبديل. وعلى سبيل المثال قد يقال بأن مجلس الأمة أو مجلس الشورى في الإسلام هو نفسه مجلس الأمة أو البرلمان في الغرب لأنه في حقيقته مجلس يمثل الشعب أو الرعية. قد يقال ذلك ولكن الصحيح أن الأمر يختلف اختلافاً بيناً فلا البرلمان أو مجلس الأمة في الغرب هو نفسه في الإسلام ولا مجلس الأمة أو مجلس الشورى في الإسلام هو عينه في الغرب وذلك من عدة وجوه هي:
الأول:ـ أن مجلس الأمة في الغرب يقوم بالتشريع وبسن القوانين، فهو يملك حق التشريع وحق سن القوانين. بينما مجلس الأمة في الإسلام لا يملك ذلك الحق بتاتاً فالله سبحانه وتعالى يقول: (إن الحكم إلا لله) ويقول عز وجل: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) فالحكم والتشريع لا يكون إلا لله ولا يكون للبشر مطلقاً، ويحق لمجلس الأمة أن يقترح سن قانون معين على الخليفة، ورأيه في ذلك غير ملزم، أما في الغرب فرأي المجلس ملزم للحاكم.
الثاني:ـ إن الذي يستنبط الأحكام في الإسلام من القرآن والسنة هو كل من وجد في نفسه القدرة على الاستنباط أي المجتهدون. وليس الاجتهاد حكراً على أعضاء مجلس النواب أو بعض منهم، أي أن آلية معرفة الأحكام الشرعية هو الاجتهاد وممن تتوفر لديهم أهليته، وليس النواب ولا غيرهم.
الثالث:ـ في الإسلام يقوم الخليفة بتبني الأحكام الشرعية لا مجلس النواب والقاعدة المشهورة عندنا تقول: «أمر الإمام يرفع الخلاف» وتقول: «للخليفة وحده حق تبني الأحكام الشرعية» أما في الغرب فالذي يسن القوانين هو مجلس النواب أو ما يسمى بالسلطة التشريعية.
وهكذا نجد أن الخلاف بين مفهومي الحكم في الإسلام وعند الغرب أكبر من أية إمكانية لجسرهما والفرق بينهما هو عينه الفرق بين حكم الله وحكم البشر أي بين الحكم الشرعي وبين الحكم الوضعي، والله سبحانه وتعالى يقول: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون).
تلكم هي الفوارق الجوهرية بين نظامي الحكم الإسلامي والغربي، وهي تبرز مدى التعارض بينهما لاختلاف مصادرهما، فنظام الحكم الإسلامي من الله سبحانه وهو أحكام شرعية، بينما نظام الحكم في الغرب من العقول والأهواء ورأي الأكثرية. وإنه لمن سوء الطالع أن يقوم المسلمون اليوم باستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولكنه ابتلاء من الله سبحانه لعباده. فعلى المسلمين الصبر والعمل لإعادة الحكم بما أنزل الله إلى واقع الحياة لكي يفوزوا في الدارين ويسيروا في طريق الصالحين والأبرار، ويجعلوا دنياهم روضة من رياض الجنة، وليس فقط قبورهم.
(فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) .
1999-07-25