الخلافة المرتقبة والتحديات (12)
2007/07/24م
المقالات
1,961 زيارة
الخلافة المرتقبة والتحديات (12)
محاربة الواقع الفاسد القديم والعمل على تغييره
ثالثاً: النقد ونظام العملات:
قبل البداية في بيان كيفية المعالجة لهذه العملات الدارجة نذكر بعض الأمور التي تتعلق بهذا الموضوع.
1- النظام الشرعي في موضوع النقد هو فقط الذهب والفضة، فلا يجوز للدولة أن تتخذ نظاماً آخر في صكّ النقود، وهذا يعني أن أيّ قطعةٍ نقدية، أو ورقة نقدية، أو سند مالي قانوني يجري التعامل به داخل دولة الخلافة، يجب أن يكون له غطاء من الذهب والفضة بالقيمة نفسها التي يحملها هذا النقد أو السند المالي، ويمكن لحامله أن يستبدله دون إعاقةٍ وفي أيّ وقت بالقيمة نفسها التي يحملها من أي مكانٍ في دولة الخلافة.
2- العملات الموجودة في السوق تنقسم إلى ثلاثة أقسام. الأولى: عملات محلية طبعت أو صكّت داخل بلاد المسلمين، وقد يكون لها جزء من الغطاء من الذهب والفضة، أو من العملات الأجنبية (الصعبة)، أو يكون لها غطاء من الموجودات العينية والعقارات وغير ذلك من أشياء تحمل قيمتها في ذاتها. والثانية: العملات الأجنبية التي طبعت أو صكت خارج بلاد المسلمين مثل الدولار أو اليورو أو المارك الألماني أو الفرنك الفرنسي أو غيرها. الثالثة: المصكوكات من الذهب والفضة أو من المعادن الثمينة الأخرى التي تحمل قيمتها في ذاتها مثل الماس وغيره.
فهذه هي الأنواع الموجودة من العملات حال قيام دولة الخلافة قريباً بإذنه تعالى، أما بالنسبة لعملية المعالجة الصحيحة لموضوع العملات، فيجب أن يكون استبدالٌ الذهب والفضة بها؛ لأنه هو النظام الشرعي الصحيح، ولا يوجد نظام آخر غيره، ولكن هذه المعالجة تحتاج مع الأحكام الشرعية العملية إلى درايةٍ وأساليب تضمن عدم حدوث فوضى بين جماهير الناس، وفي الوقت نفسه تحفظ على الناس حقوقهم وأموالهم، وتضمن أيضاً مقدرة الدولة على الاستمرارية والمضي قدماً أثناء قيامها بالأعباء الاقتصادية.
فليست العملية منحصرة في موضوع الاستبدال فقط في بداية الأمر، بل إن هناك أشياء يجب أن تؤخذ بالحسبان كما ذكرنا.
والحقيقة أن هذا الموضوع هو من أدقّ المواضيع التي تتعلق بمحاربة الفساد القديم، وقد كتب البعض من الأخوة فيها شذرات، ونضيف إلى ذلك في هذا الباب بعض ما نراه صواباً في كيفية العلاج، ويبقى الأمر قابلاً للأخذ والردّ في ذلك؛ لأن الموضوع كما قلنا متعلق بالأساليب وآليات العمل، باستثناء موضوع الأحكام الشرعية المرتبطة بهذا البحث.
لقد رأيت أن تتم عملية الاستبدال للعملات القديمة التي صكَّت أو طبعت في بلاد المسلمين ضمن الخطة الآتية:
1- في بداية الأمر تقوم الدولة بحصر المبالغ المالية الموجودة من العملات المحلية، وتسجّل ذلك في سجلات خاصّة، وذلك حتى لا تتم عمليات تزوير جديدة، أو إدخال لعملات مزورة عن طريق الحدود، وبعد عملية الإحصاء والتسجيل، تعطي لأصحاب الأموال الخاصّة سندات مالية بقيمة أموالهم إلى حين عملية مباشرة استبدال العُملة الرسمية وهي الذهب والفضة بها.
وهذه العملية تحتاج إلى طواقم خاصّة، تقوم الدولة بانتقائها ممن يتقنون عمليات الإحصاء والرصد والتسجيل.
2- تقوم الطواقم بعملية حساب لقيمة هذه العملات بالذهب والفضة حسب سعر الذهب والفضة في السوق العالمي، وحسب قيمة هذه العملات المصكوكات قبل قيام دولة الخلافة، وتحفظ الأرقام في سجلات خاصّة.
3- تقوم الدولة بحصر ما هو موجود من ذهب وفضة داخل الدولة ، وتسجل ذلك في سجلات رسميّة ، وتقوم أيضاً بعملية إحصاء لمقدّرات الدولة من السلع التي يمكن مبادلتها بعملات محلية أو عالمية أو مصكوكات أو مصاغ ذهبي وفضي؛ أي يمكن إجراء عملية المبادلة في البيع والشراء بها.
4- يجب أن تنظر الدولة إلى حاجات الناس الضرورية من السلع والخدمات قبل أن تنظر إلى عملية مبادلة الأوراق القديمة بالذهب والفضة أو الأشياء العينية، ويجب أن تنظر كذلك إلى حاجة الدولة من العملات والأشياء العينية للوقوف في وجه الحصار والعداء من قبل الكفار. فهاتان المسألتان أهم وأكثر إلحاحاً على الدولة وعلى الناس من عملية استبدال الأوراق القديمة؛ لأن الانشغال بعملية الاستبدال، وتوزيع ما هو موجود من ثروات أو مصكوكات ثمينة على الناس، وترك الأخطار المحدقة بالدولة، هو عملية غير حكيمة، ولا يجوز الانشغال بها. فحاجات الناس من الضروريات، وحاجة الدولة للوقوف هو أهم من تعويض الناس عن قيمة مدخراتهم المحفوظة في سندات مالية من قبل الدولة.
5- تقوم الدولة بعملية استبدال لجزء من مدخرات الناس بما يضمن قيامهم بتسيير شؤونهم اليومية، وسدّ حاجاتهم الضروريّة، وتبقى باقي قيمة السندات محفوظة في سجلات الدولة حتى يتم الاستقرار للدولة وتتمكن بعد ذلك من عملية إنهاء استبدال هذه العملات.
6- يجب على الدولة أن تنصّب خبراء اقتصاديين يقومون بعملية دراسة دقيقة في كل فترة من الزمن، وذلك لحجم ما تستطيع الدولة أن تستبدله من عملات قديمة. فمثلاً في الشهر الأول تستطيع الدولة أن تستبدل 10% من قيمة هذه الأوراق، وفي الشهر الثاني أيضاً 10% وهكذا، وهذا يكون -كما قلنا- وفق دراسة حاجات الناس الضرورية، وحاجة الدولة في الوقوف والاستمرارية في وجه الأخطار.
7- بالنسبة للأوراق المالية الأجنبيّة، مثل الدولار الأميركي والينّ الياباني والفرنك وغيرها، تُعامل معاملة الأوراق الإلزامية الداخلية من العهد السابق، باستثناء عملية التسجيل للاستبدال في المستقبل في عملية المبادلة بالسلع والخدمات، حيث يفرض على عمليات التبادل بالسلع والخدمات قيود تأخذ بالحسبان حاجة الناس من المواد الضرورية، وحاجة الدولة للاستمرارية. فمثلاً إذا وجد رجل يملك مليون دولار أميركي، فمثل هذا الرجل لا يطلق له العنان -في بداية الفترة الحرجة- ليشتري ما يشاء من سلع وخدمات، وغيره من الناس لا يجد الحاجات الضرورية. أما بالنسبة لعملية التبادل مع الخارج إن تمكن أصحاب هذه العملات من إجرائها، فلا توضع عليها قيود إلا إذا تعارضت مع حاجات الناس الضروريّة وحاجة الدولة.
8- تجري الدولة عملية حصر للذهب والفضة بشكل دقيق؛ لما هو موجود وما يمكن الحصول عليه في فترة قصيرة، وذلك كمقدمة لعملية صك وطباعة النقود الشرعيّة، وفي هذه المرحلة تحشد الدولة كل طاقاتها من أجل الحصول على الذهب والفضة، وتحثّ الناس على التبرع قدر المستطاع، كما تحث الناس على إقراض الدولة من مصكوكا تهم ومدخراتهم من الذهب والفضة، أو من العملات الأجنبية، وذلك لتتمكن الدولة من جمع أكبر قدر من الغطاء النقدي بالذهب والفضة.
وما تأخذه الدولة -في هذه المرحلة- عن طريق الاقتراض، سواء أكان ذهباً وفضة، أم عملات أجنبية، أم أشياء عينية، تقوم الدولة بتسجيله إلى حين قوتها وقدرتها على السداد.
والحقيقة أن موضوع اقتراض الدولة من الأفراد قد يكون حاجة ملحة في بداية الأمر، وخاصة إذا واجهت الدولة حصاراً اقتصادياً ودخلت في مواجهة مع الكفار.
9- تقوم الدولة بكل المحاولات للحصول على الذهب والفضة، سواء عن طريق الاستخراج أو التهريب من الخارج أو الاقتراض أو غير ذلك من طرق، وذلك كمقدمة لعملية فرض النظام الشرعي في النقد بالقدر المستطاع.
10- عملية صك النقود الشرعية يجب أن تكون بالطريقة الشرعية ، أي حسب أحكام الشرع التي وضعت لأوزان الدينار الذهبي والدرهم الفضي، فتصك الدولة قطعاً نقدية بهذا الوصف، وتُصدر في الوقت نفسه أوراقاً نقدية تمثل سندات نقود لها غطاء من الذهب والفضة، حسب الأوصاف التي ذكرناها سابقاً من حيث سرعة الاستبدال في أي وقت، واستحالة التزوير.
هذا ما رأيناه من أحكام وأساليب في عملية تغيير الواقع الفاسد في موضوع النقد، وكما قلنا فإن هذا الموضوع قابل للأخذ والرد والاجتهاد لأنه موضوع جديد.
رابعاً: الشخصيّات الإداريّة وأصحاب الوظائف الحساسة:
الواقع الموروث عن النظام السابق واقع موبوء: موبوء بالأفكار، وبالأشخاص الذين يحملون هذه الأفكار، وموبوء بالفساد، وبالرجالات الفاسدين الذين يشغلون مناصب إدارية أو قيادية في شؤون الدولة والجيش أو دوائر الحكم.
ولا بدّ عند الوصول إلى الحكم من عملية تطهير تقوم على التغيير والمحاسبة، وعلى إرجاع الأمور إلى نصابها الشرعي في كافة أمور الدولة، ومن هذه الأمور التي تحتاج إلى تطهير ومعالجة الأشخاص الذين يشغلون مناصب حسّاسة في الدولة ولا يؤمن جانبهم لا فكرياً ولا عملياً.
وعملية التطهير والتغيير ينظر إليها من أربع زوايا، الأولى: أمور الحكم وما يتصل بها من وظائف إدارية أو مالية أو غير ذلك. الثانية: المراكز الحساسة مثل قيادات الجيش وأمور القضاء، وغير ذلك من مراكز لها حساسية وتأثير في حياة الناس وأمن البلاد. الثالثة: الأمور المالية العليا كميزانية الدولة، وتوزيع الأموال، وجبايتها وحفظها، ومراقبة سيرها في كافة الشؤون. الرابعة: الأمور الإدارية الحساسة كمسؤولية الدوائر المتصلة بالحكم أو الأموال أو غير ذلك من شؤون مهمة، وأيضاً غير الحساسة مثل عامّة الوظائف الأخرى.
فهذه الأمور يجب أن يُنظر إليها بحرص ودقة لأنها تؤثر على مجريات الأحداث وسيرها داخل الدولة، وبقاء الشخصيات العميلة في أماكنها يمكن أن يُستغلّ من قبل الدول الكافرة، أو الأنظمة العميلة في العالم الإسلامي.
فأمور الحكم وما يتصل بها مباشرة من شؤون الإدارة أو المال، لا يوضع فيها إلا رجالات أكفاء مخلصون، وكذلك أمور الجيش العليا وأمور المال الحساسة، فإنه ينتقى لها رجالات يُؤمن جانبهم من أبناء المؤسسات القدامى أو من الكفاءات في الأمة، ولكن بشرط أن توضع عليهم رقابة في بداية الأمر وذلك حتى يتمّ التمكين للدولة وإعداد رجالات مأمونة الجانب في هذا المجال بشكل أكيد، أو الاطمئنان إلى الرجالات الذين تُركوا في مناصبهم.
كذلك باقي شؤون الدولة في الإدارة والمؤسسات التابعة لها والقضاء وغير ذلك، فإنه يوضع فيها الأكفاء ممن يؤمن جانبهم وليس لهم أية سوابق أو شبهات أو اتصالات مع النظام السابق، أو مع الدول الكافرة، ومع ذلك توضع الرقابة على كافة المؤسسات، حتى يتمّ التمكين وتصبح الدولة قوية قادرة على الوقوف على أقدامها بين دول العالم الأخرى.
وأما الرجالات الذين لا يؤمن جانبهم أو توجد بحقهم شبهات في اتصالهم بالنظام السابق، أو الدول المحيطة بالدولة الإسلامية، أو الدول الكافرة فهؤلاء يعزلون من مناصبهم، ويحاسب منهم من ثبت في حقه مخالفات وخاصّة في شؤون المال كما سنذكر عندما نتحدث عن القضايا والرواسب القديمة من المشاكل بين الناس.
والحقيقة أن هذه العملية في الاختيار والتطهير قد فعلها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما ولِيَ الحكم والسلطان في المدينة المنورة، فكان يختار الرجال الأكفاء ممن لهم قدم سبق في الإسلام ومناصرة الدعوة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، وكان يختار الأكفاء في أمور الجيش مثل خالد بن الوليد وأسامة ابن زيد، ويختار كذلك الولاة والخارصين وغير ذلك من شؤون الدولة من الأكفاء الأخيار، وقد ورد في الحديث أنه عندما سأل أبو ذر (رضي الله عنه) الولاية رفض الرسول عليه الصلاة والسلام أن يولّي أبا ذر، وقال له : «إنك رجل ضعيف…» مع أن أبا ذر كان تقياً نقياً أميناً حازماً في أمور الحق، لكنه كان ضعيف الإدارة، فيه حدّةٌ لا تتناسب مع الرعاية وأحكامها.
أما الرجالات السابقون مثل (ابن سلول) وغيره من رجالات كانت لهم مكانة، فقد استبعدهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يُقِمْ لهم أيّ وزن.
بقيت مسألة في هذا الموضوع وهي الفساد المتصل بهذه الرجالات الذي أحدثوه في جسم الدولة، كيف يعالج هذا الفساد؟!
ولتوضيح صورة هذا الأمر ننظر إليه أيضاً من أربع زوايا:
1- الوظائف والمراكز المخالفة للأحكام الشرعية.
2- ترتيب الأمور بحيث تتفق مع الهيكلية الشرعية في بناء مؤسسات الدولة.
3- المحاسبة لعمليات الفساد التي جرت أيام النظام الفاسد.
4- الفساد الذي ورّثه النظام الفاسد القديم وخاصة في أمور المحاكمات والأموال.
فالأمور لا تقف عند حد تغيير الرجالات من أماكنهم وتنتهي الأمور بشكل سليم، وإنما لا بد من النظر في الفساد العريض الذي أحدثه هؤلاء الرجال ومن وراءهم من حكام وأجراء للاستعمار.
أما أول هذه الأمور فهي الوظائف والمراكز والمؤسسات المخالفة للأحكام الشرعية.
فهناك وظائف كثيرة ترتبط بالمفاهيم الرأسمالية ليس لها أصل شرعي، وإنما تخالف الأحكام الشرعية مثل وظيفة المخابرات التي تتجسس على أبناء المسلمين، فهذه الوظائف تُلغى نهائياً، وتغلق كافة المراكز والملاحق والمؤسسات التابعة لها لأنها مخالفة لحكم الشرع، قال تعالى: ( وَلَا تَجَسَّسُوا ) [الحجرات 12] وهناك أيضاً مؤسسات ربويّة مثل البنوك، أو أماكن البورصة، أو ما شابه ذلك من مؤسسات رسمية وغير رسمية في الدولة، فيجب أن تلغى هذه المؤسسات الرسمية القائمة على أساس الربا، ويلغى الكادر الوظيفي المسمّى تحت مظلّتها؛ لأنها مخالفة لأحكام الإسلام. فأي وظيفة تتناقض وتتعارض مع أحكام ديننا الحنيف تُلغى، وتلغى كافة المؤسسات التي تقوم على خدمتها.
أما الأمر الثاني وهو ترتيب الأمور بحيث تتفق مع الهيكلية الشرعيّة في بناء المؤسسات للدولة الإسلامية، فهذا الأمر سهل ميسور بإذن الله تعالى؛ لأن المؤهلات العلمية والقدرات العقلية موجودة في أبناء الأمة، ولا تحتاج إلاّ إلى عملية تنظيم وإعادة بناء بالشكل السليم، من حيث وضع هيكلية متكاملة في هذا الأمر تبدأ من خليفة المسلمين وتنتهي بالمؤسسات الخدماتية لكافة شؤون الدولة، يُعتمد في ذلك على الأحكام الشرعية المتصلة بهذا الموضوع.
فالمؤسسات القديمة الموروثة عن النظام السابق هي مؤسسات في أغلبها ترتبط بالنظام الرأسمالي، سواء أكان ذلك في الحكم أم الإدارة أم النواحي المالية أم العسكرية والجيش، ولا بد من إعادة ترتيب لهذه المؤسسات ولوظائفها بعد إلغاء ما يخالف منها أحكام الدين الحنيف.
والحقيقة أن عملية الترتيب هذه قد تأخذ شيئاً من الوقت؛ لذلك يُعتمد على الكوادر التي لا تخالف الإسلام، ويؤمن جانبها حتى تتم عملية الترتيب بشكلها الصحيح، وقد يكون من الصعب تطبيق عملية الترتيب هذه دفعة واحدة؛ لأن الموضوع هنا موضوع يحتاج إلى برامج وإعدادات وكوادر ذات خبرة كافية.
والأمر الثالث في هذا الموضوع وهو المحاسبة لعمليات الفساد التي جرت في عهد النظام السابق، فهذه ترجع إلى الأحكام الشرعية وإلى رأي الخليفة في بعض الأمور.
فما رجع منها إلى أحكام الشرع فيجب أن يطبق دون تأخير، ولا حيد عنه لأنه أحكام واجبة التطبيق لا يجوز مخالفتها، وذلك مثل سيطرة رجالات الدولة على أموال الناس ظلماً وعدواناً، فهذا لا يجوز شرعاً لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : « لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة من نفسه» والله تعالى يقول: ( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) [البقرة 188].
ومثل ذلك الوظائف غير المستحقة، أو الرواتب العالية لشخصيات معينة، فهذه كلّها تخضع لعملية المحاسبة والتصحيح حسب أحكام الإسلام.
أما الأمور التي ترجع إلى رأي الخليفة مثل النظر في رجالات الدولة السابقين وفسادهم وجرائمهم، فإن هذه الأمور ترجع إلى رأي الإمام إن شاء عفا، وإن شاء عاقب، وله أن يعاقب أناساً مخصوصين، وله أن يعفو عنهم. فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عن أناس أفسدوا وآذوا المسلمين، وحاسب آخرين، وحاسب بعض المسؤولين من أهل مكة وعفا عن الآخرين. فهذه أمور ترجع إلى رأي الإمام، وإلى مصلحة الدولة، فقد تكون مصلحة الدولة في إبقاء الحاكم ليكشف الجرائم التي حاكها ضد أبناء الأمة، والارتباطات مع الدول الكبرى، ويكشف كذلك جرائم غيره من حكام لهم اتصال به.
الأمر الرابع: الفساد الذي ورّثه النظام الفاسد القديم في القضايا والمحاكمات أو الأموال.
وهذه النقطة تحتاج إلى شيء من البيان والتدقيق، لأن النظام السابق كان نظاماً رأسمالياً قائماً على الفساد في أغلب أموره، وإذا أردت أن ترجع إلى كل أمر جرى من أمور المخالفات، فإنك تحتاج إلى وقت وجهود بحجم ما جرى من فساد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، وهي المعتمد في هذا الأمر، إن أمور الفساد في النظام السابق لها أحكام شرعية، لأن الدولة الإسلامية الأولى قد مرت في مرحلة ما قبل الدولة، وجاءت إلى واقع فاسد وجدت فيه ألوان من الفساد، ونزّلت الأحكام الشرعية التي عالجت هذا الفساد.
ولبيان هذه المسألة ننظر إليها من عدة زوايا:
1- الأموال الخاصة التي جرى فيها الفساد واستهلكت وذهبت.
2- الأموال الخاصة التي جرى فيها الفساد والمخالفة وما زالت موجودة.
3- الأموال العامة التي جرى فيها الفساد وذهبت واستهلكت.
4- الأموال العامة التي جرى فيها الفساد وما زال قائماً.
5- أموال الدولة التي جرى فيها الفساد وما زال قائماً.
6- المحاكمات التي جرت وذهب أثرها وعفا عليها الزمن.
7- المحاكمات التي جرت ولم يُبتّ فيها حتى قيام الدولة.
8- توابع القضايا التي بتّ فيها النظام السابق وما زال أثرها حتى قيام الدولة مثل السجون أو الغرامات المستمرة، أو أمور الزواج العرفي والمدني وغير ذلك.
أما الأموال الخاصّة التي جرى فيها الفساد واستهلكت وذهبت، فهذه تعتبر من أمر مضى وانتهى ولا تفتح ملفاتها، فلو أن رجلاً من أجهزة الحكم أو المخابرات أو غيره من أجهزة الدولة قد أخذ شيئاً من أموال الناس ظلماً واستهلك هذا المال، ولم يبق له أي أثر، فإن هذه الأموال لا يعاد البحث فيها، وإنما يطوى أمرها، وربما يحاسب الخليفة من قام بالفساد أو النهب، ويعاقبه عقوبةً أخرى بسبب إيذائه للناس أو لحملة الدعوة أو غير ذلك من ألوان الفساد.
أما إذا كانت هذه الأموال ما زالت موجودة فأرى أن الحقّ لم يسقط لصالح صاحبها، لأن الحق ليس له علاقة في نظام جاهلية أو إسلام إن كان ما زال موجوداً. فلو أن رجلاً من أجهزة المخابرات استولى على بيت خاص لأحد الناس في عهد النظام السابق، ولم يستطع هذا الشخص تحصيله من هذا الرجل بسبب سطوته، فإن الدولة الإسلامية تعيد هذا الحق لنصابه، ويقاس على ذلك كافة الحقوق التي ما زالت قائمة لم تستهلك. والدليل على ذلك قوله تعالى: ( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) وقوله عليه الصلاة والسلام : «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة من نفسه» وهذا الأمر مطلق، لم يحدد زماناً ولا مكاناً في مناطه.
أما الأموال العامّة التي جرى فيها الفساد واستهلكت فإنها تطوى ولا يجري البحث بها لأنها من تبعات الجاهلية أو غياب حكم الإسلام، ولم يبحث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المظالم المالية قبل حكم الإسلام إلا ما كان منها قائماً لم يستهلك.
فالأموال العامة حكمها أنها تخصّ جميع المسلمين، وليس شخصاً واحداً فقط. فما اغتصب، أو أعطي من هذه الأموال لشخص واحد يعاد إلى أصله الشرعي في ظلّ حكم الإسلام. فمثلاً لو أخذ أحد رجالات الدولة قسماً من شاطئ البحر لنفسه وجعل حوله سياجاً، فهذا يُعاد إلى عامّة المسلمين ويلغى الأمر السابق، كذلك لو أن رجلاً أخذ لنفسه ريع بئرٍ من البترول فإن هذا التسلّط يلغى، ويعاد البئر ومنفعته لعامة المسلمين على اعتبار أنها من الأموال العامة، وهكذا كل أمر من الأموال العامة جرى فيها الغصب أو التسلط فإنه يعاد إلى نصابه، والدليل على ذلك الأحاديث التي ذكرت الأموال العامة ومنافعها، وهي لم تحدّد زماناً ولا مكاناً ولا أشخاصاً. فقال عليه السلام: «الناس شركاء في ثلاث؛ المال والكلأ والنار» وهذا الحديث يشمل كل ما يلزم لتشغيل هذه الأمور من أدوات أو معدات أو غير ذلك، وكل ما يحقق هذا الأمر من بترول وكهرباء وغيرها…
أما المحاكمات، فالمحاكمات تقسم إلى ثلاثة أقسام: منها ما يتعلق بقضايا ما زالت موجودة؛ أي ما زال الظلم قائماً بسببها، كقضية قضت بفصل عقد الزواج بين رجل وزوجته مع أن كلاً منهما يريد الآخر، ولم يوجد أيّ سبب شرعي لذلك، فمثل هذه القضية تعاد إلى أصلها حتى وإن جرى الحكم بها ما لم تتزوج المرأة من رجل آخر. أو مثل حكم محكمة قضت بسجن رجل ظلماً لمدة سنة ولم تثبت عليه بينة شرعية، إنما انتزع منه الاعتراف بالقوة عن طريق التعذيب، فهذا الحكم يلغى ويعاد إلى أصله الشرعي، أو مثل حكم محكمة قضت بإقامة خمّارة في مكان ما فهذا أيضاً يلغى ولا يبقى له أثر، أو مثل حكم محكمة قضت بأخذ بيت إنسان ما في الدولة وضمّه لممتلكات خاصة أو لممتلكات الدولة دون أي وجه حق، فهذا الحكم ما زال أثره موجوداً ويعاد إلى نصابه الشرعي ويُلغى الحكم السابق.
وهناك نوع آخر من المحاكمات والقضايا قد ذهبت ولا يوجد لها أثرٍ يتعلق بها من أموالٍ أو غيره، فهذه ينتهي أمرها، وذلك كقضايا السرقات التي حكم فيها وانتهى الحكم، أو الجنايات التي انتهت مدّة محكومية صاحبها، وكذلك محاكمات الأموال التي استهلكت وذهب أثرها، أو ذهب أصحابها ممن أخذوها، فهذه لا ينظر فيها على اعتبار أنه قد انتهى شأنها.
والنوع الثالث هي المحاكمات التي لم تنته بعد. فهذه تعاد إلى أصلها الشرعي؛ أي إلى حكم القضاء الإسلامي؛ سواء ما تعلق منها بالأموال أو بالأعراض أو بالجنايات أو غيرها. فإن كان لها تنفيذ حالي في حكم الشرع أخذنا به، وإن انتهى أمر الجناية وذهب أصحابها فإن الشرع يسقطها لانعدام توابعها وأشخاصها.
أما بالنسبة لتوابع القضايا التي حكم فيها سابقاً، وهي مخالفة في حكمها للشرع الإسلامي مثل الزواج العرفي أو المدني أو غيره من أمور، فإن هذه التوابع تخضع لحكم الشرع إن كان فيها مخالفات شرعية، أو تلغى من أساسها إن كان حكمها الإلغاء، أو تصحّح إن كان هناك مجال للتصحيح.
هذا ما يتعلق بموضوع محاربة الواقع الفاسد القديم من ميراث النظام السابق، والحقيقة أن طهارة الإسلام وعدله كفيل بغسل نجاسة الماضي تماماً كما يطهّر ماء المطر المنهمر من السماء النجاسة على الأرض. فعندما يعمّ حكم الله على وجه الأرض تنقلب الأمور كلها، ويعم العدل والأمن والرخاء، وينسى الناس رجس الماضي وفساده ولا يبقى له أي أثر بإذنه تعالى.
نسأله تعالى أن يمن على المسلمين بحكم الله العادل الطاهر، ليزيل عنهم كل أرجاس الماضي وآلامه وأخطائه.
[يتبع]
2007-07-24